20 أغسطس 2011

مقال: عن العناصر النكوينية للثورة التونسية... الهادي التيمومي



      ם ثلاثة أسابيع ونصف الأسبوع زلزلت تونس والعالم العربي وأفضت إلى القضاء على نظام سياسي إستبداديّ من أعتى الأنظمة البوليسية في العالم. لقد انطلقـت الانتفاضة الشعبية التونسية الكبرى يـوم 17 ديسمبــر 2010 (إحـراق محمّـد البوعزيـزي البائـع المتجـوّل لنفسـه في سيـدي بوزيـد بسبـب المضايقـات الإداريّـة المهينة لـه) وبلغـت أوجهـا يـوم 14 جانفـي 2011 (هـروب الرّئيـس زيـن العابديـن بـن علـي إلـى المملكـة العربيّـة السّعوديــة، وهـو ثانـي رئيـس لتونـس بعـد الاستقـلال (1956) وكـان سبقـه الحبيـب بورقيبـة (1955 – 1987)،وهكذا صدق الشاعر والمناضل التونسي محمّد العيد الجبّاري  "1911- 1942"عندما قال: 
وكلّ جبّار إذا ما طغى        وكان في طغيانه يسرف
أرسلـه الله إلى تونس           فكلّ جبّـار بهـا يُقصف
 وثورة "الياسمين" كما يسمّيها الغربيّون أو ثورة "الصبّار" كما يسمّيها بعض مثقّفي المناطق التونسية المهمّشة أو ثورة "الحرّية والكرامة" كما تسمّيها وسائل الإعلام التونسية، تتميّز بالسّمات التالية: 

السّمـة الأولـى : طابعهـا الفجئـي، إذ لـم يتوقّـع حدوثهـا أحـد لا داخـل تونـس ولا خارجهـا.
السّمـة الثانيـة : فرادتهـا التاريخيّـة، إذ استطـاع الشّعـب التونسـي ولأوّل مـرّة منـذ أن دخـل مسـرح التاريـخ قبـل ثلاثة آلاف عـام، أن يطيح- بالاعتمـاد علـى نفسـه- بأعلـى هـرم السّلطـة السياسيـة في البـلاد.
السّمـة الثالثـة : ريادتهـا في العـالـم العربـي، إذ استطـاع الشـارع التونسـي، ولأوّل مـرّة منـذ حصـول البلدان العربيـة علـى استقلالاتهـا السياسية، تنحيـة حاكـم،وحتى بالنسبة إلـى السودان عـام 1985، فإنّ الجيـش (الجنـرال سـوار الذهـب) هـو الذي التفّ علـى الانتفاضـة الشّعبيـة وقطـف ثمارهـا وحـرّف مسارهـا. لقـد فتحـت الانتفاضة التونسيّـة طريـق الحرّيـة لكـلّ العالـم العربـي مـن المحيـط إلـى الخليـج، وهـذه مفخـرة للشّعـب التونسـي.
السّمـة الرّابعـة : طابعهـا السّلمـي، إذ دامـت أقـلّ مـن أربعة أسابيـع، وقـد انطلقـت المظاهـرات السّلميّـة مـن سيـدي بوزيـد بوسـط البـلاد، ثـمّ عمّـت كـلّ الجهـات، وكانـت الحصيلـة قرابـة 200 قتيـل ومئـات الجرحـى، وقـد دفعـت محافظـة القصريـن أعلـى نسبـة مـن الضحايـا، إذ تحوّل فيها القمع إلى مذبحة،وللتذكير فإن هذه المحافظـة شهـدت أوّل انتفاضـة دمويـة (1906) في العهـد الاستعمـاري الفرنسـي. 
السّمـة الخامسـة : طابعهـا شبـه العفـوي، إذ لـم يؤطّـر انطلاقهـا أي حزب أو أيّـة نقابـة أو أيّـة جمعيّـة، فهـي انتفاضـة بـدون قيـادة سياسيّــة.
السّمـة السّادسـة : الطابـع غيـر المسيّـس للجمـوع التـي أطلقـت هـذه الانتفاضـة، إذ كـان الدافـع الذي حرّكهـا دافـع اقتصادي (التشغيـل) لا غيـر.
السّمـة السّابعـة : طابع الانتفاضة الشعبـي الشّامـل، إذ شاركـت فيهـا كلّ الشرائـح الشعبية والوسطـى للمجتمـع، وساهمـت فيهـا كلّ جهـات البـلاد، وهي أكبـر انتفاضـة شعبيّـة منـذ انتفاضـة 1864 ضـدّ نظـام الملـوك الحسينيّيـن العثمانيّيـن.
السّمـة الثّامنـة : اقتصارهـا على مطلـب عـام جـدّا هـو الديمقراطيـة وذلـك عنـد تسيّسهـا في منتصـف الطريق، ولـم ترفـع هـذه الانتفاضـة شعـارات دينيّـة أو شعـارات قوميّـة عروبيّـة أو شعـارات مناهضـة للرأسماليـة أوللإمبريالية أو للصهيونيّـة.
السّمـة التاسعـة : افتقار المعارضـة السياسيّـة التونسيّـة إلـى شخصيـات كاريزميّـة لهـا تجربـة سياسيّـة أو ثقافـة سياسيّـة معتبـرة بإمكانهـا مسـك زمـام الأمـور بعـد 14 جانفـي 2011 نظـرا إلـى التصحّـر السياسـي الرهيـب الذي خلقـه نظـام بـن علـي طيلـة 23 سنـة. لقـد كـان الوضـع قبيـل الانتفاضـة ثوريّـا موضوعيّـا، لكـن العامـل الذاتـي غيـر ناضـج بالمـرّة.
السّمـة العاشـرة والأخيـرة : الـدّور البـارز الـذي اضطلعـت بـه تكنولوجيـا المعلوماتيّـة (المواقـع الاجتماعيّـة مثـل "الفيسبوك" والفضائيـات مثـل التلفـزة القطريّـة "الجزيـرة") في تأجيـج حمـاس المنتفضيـن، وتعـدّ تونـس مـن أولـى الدّول العربيّـة في مجـال الاستعمـال المكثّـف للمواقـع الاجتماعيّـة (قرابـة المليونـي مشتـرك في الفيسبـوك بالنسبـة إلـى 10 ملاييـن ونصف المليـون ساكـن)، وقـد وجـد نظـام بـن علـي صعوبـة بالغـة في تعطيـل هـذه "الأسلحة الافتراضيّـة" الموجّهـة ضـدّه لأنّـه يصعـب تقنيّـا تعطيـل مواقـع الاتّصـال هـذه، وكـانت وراءهـا شركـات أمريكيّـة عملاقـة وذات نفـوذ، ولأنّ أيّ منـع لأيّـة وسيلـة اتّصـال معلوماتيّـة مـن شأنـه تعطيـل الاقتصـاد والحيـاة في البـلاد بصفة عامّة.
بورقيبة: إصلاحات بدون ديمقراطية!!
وإذا كـان إحـراق محمّـد البوعزيـزي لنفسـه هـو الشـرارة المباشـرة التي فجّـرت الانتفاضـة، فمـاذا عـن أسبابهـا العميقـة ؟
لكـن قبـل الإجابـة عـن هـذا السـؤال، نستعرض بعجالـة الإرث الـذي خلّفـه الرئيـس الحبيـب بورقيبـة قبيـل خلعـه "لكبـر سنّـه" مـن قبـل زيـن العابديـن بـن علـي يـوم 7 نوفمبـر 1987 ؟
لقـد استطـاع بورقيبـة في فتـرة حكمـه (1955 – 1987) أن يقطـع بتونـس أشواطـا هامّـة في مجالات التحديـث والتنميـة الاقتصاديّـة، وقـد حـرّر المرأة ومنحهـا منزلـة تضاهـي ما تتمتّـع بـه المرأة في العالـم الغربـي، ونشـر التعليـم وخلق للبـلاد آلاف الإطـارات الكفأة في مختلـف مجالات المعرفـة، كمـا عمّـم المرافق الصحّيـة وركّز الكثيـر مـن المؤسّسـات الثقافيـة، وأصبحـت البـلاد تملـك منشآت اقتصاديّـة جيّـدة وذات قـدرة تنافسيّـة عاليـة عربيّـا وإفريقيّـا، وحقّـق بورقيبـة إنجـازا تاريخيّـا نـادرا جـدّا في "العـالـم الثالـث" وهـو التحكّـم في النمـوّ الديمغرافـي، كمـا خلـق طبقـة اجتماعيّـة وسطـى غزيـرة العـدد أمّنـت لتونـس عـدّة عقـود مـن السلّـم الاجتماعيّـة، وحسّـن بورقيبـة مستـوى عيـش التونسيّيـن كثيـرا، رغـم أنّ عددهـم تضاعـف منـذ الاستقـلال، ومرّ أمـل الحيـاة عند الـولادة مـن 51.1 عـام 1966 إلـى 67.4 عـام 1984 وارتفـع عـدد السكّـان الحضريّيـن مـن 33 % عـام 1956 إلـى 52.8 % عـام 1984، كمـا ارتفـع الدّخـل السّنـوي الفـردي مـن 91 دولارا عـام 1956 إلـى 1050 دولارا عـام 1987، وأصبـح عـام 1984 عـدد العائـلات التي تملـك مساكنهـا 78.9 %، لكـن بورقيبـة رغـم هـذه الفضائـل، كـان حاكمـامتشدّدا سياسيّـا لأنّـه كـان لا يؤمـن بالديمقراطيّـة خوفـا علـى البـلاد مـن القبليّـة والتناحـر الدّاخلـي حسـب رأيـه، لكنّـه كـان مثقّفـا ومستنيرا وغـادر الحكـم وهـو لا يملـك مـن متـاع الدّنيـا شيئـا، وهـذا أمر يكـاد لا يصـدّق لأنّ حكـام "العالـم الثالـث" عـوّدوا شعوبهـم علـى استغـلال الحكـم للإثـراء وللإثـراء الفاحـش أحيانـا.
    إجمالا كانـت الحصيلـة التي أفضـى إليهـا حكـم بورقيبـة هامّة رغـم غيـاب الدّيمقراطيّـة.
حكم بن علي: تناقضات كارثية
هـل كـان حكـم زيـن العابدين بـن علـي الذي أطاحـت بـه انتفاضـة 14 جانفـي 2011 كلّـه بـلاء ؟ قطعـا لا، وإلاّ لمـا حكـم البـلاد طيلـة 23 سنـة. لقـد حقّـق بـن علي نمـوّا اقتصاديّـا لا ينكـره أحـد، إذ بلغ معدّل النّمو بين 1990و1991، 5،0 % وبين 2000و 2009، 4،6% وانخفضت المديونية من قرابة60 % من الناتج الوطني الخام عام 1986إلى قرابة 50% عام 2004 ، وعـزّز بـن علـي البنيـة الأساسيّـة للبـلاد (طرقات، جسور،مطارات ، كهربـة الكثيـر مـن الأريـاف وتزويدهـا بالمـاء الصّالح للشّـرب...) وعمّـم بـن علـي التعليـم نسبيّـا، كمـا ركّـز علـى السّياحـة وعلـى الصّناعات التصديريّـة، وظـلّ عجـز ميزانيّـة الدولـة في حـدود مقبولـة مقارنـة بالدّخـل الوطنـي الخـام، وبلـغ الدّخـل الفـردي السّنـوي قرابـة 5000 دولار، كمـا أصبـح أمـل الحيـاة عنـد الولادة 72 سنـة، وقضـى بـن علـي علـى عدد مـــن "مناطـق الظـلّ" الفقيـرة (بفضل صنـدوق 26-26) وأبقـى علـى أسعـار المـواد الغذائيـة الضروريّـة في حـدود منخفضـة نسبيّـا. ولـم يتراجـع بـن علـي في حقـوق المرأة، كمـا نشـر تكنولوجيّـا المعلوماتيّـة في البـلاد، إلاّ أنّ مواطن قصور حكمـه كانـت كثيـرة وذات طابـع هيكلـي أسـاسـا، وازدادت حدّتهـا في نهايـة حكمـه،وأدّت إلى خلق وضع ثوري في البلاد يذكّر بما قاله لينين في كتابه: المرض الطّفولـي للشيوعيّـة: "... لا الذيـن مـن أسفل يرغبـون في مواصلـة العيش علـى الطريقـة القديمـة، ولا الذين مـن أعلـى قادرون علـى ذلـك".
ففـي المجال الاقتصـادي، كانـت البطالـة وخاصّـة بطالـة أصحـاب الشّهائـد العليـا حديث الناس وشغلهـم الشاغـل وقـد بلغـت نسبـة بطالـة خرّيجـي التعليـم العالـي عـام 2009 : 44.9 % .وتونـس مـن أولـى البلـدان العربيّـة مـن حيـث عـدد المتعلّميـن مـن طـراز عـال. أمّـا البطالـة بصفـة عامّـة، فكانـت لا تقـلّ عـن 20 % مـن السكّـان  النشيطيـن، ولكـي نفهـم لمـاذا آلـت الأمـور إلـى هـذا الحـدّ، يجـدر بنـا الرّجـوع إلـى جـوان 1986 عندمـا فـرض صنـدوق النقـد الدولـي علـى تونس "سياسـة التعديـل الهيكلـي"، وكـان الاقتصـاد التونسي آنـذاك في أواخـر عهـد بورقيبـة علـى حافـة الإفـلاس، وهـدف "إصلاحـات" سياسة التعديـل هـذه هـي تمكيـن تونـس مـن القـدرة علـى تسديـد ديونهـا للخـارج ومزيـد إدمـاج الاقتصـاد التونسـي في المنظومـة الرأسماليّـة العالميّـة عبـر مزيـد تعميـق فتح البلاد أمـام رأس مال الدول الرأسماليّـة العظمـى وبضائعهـا، وذلـك عبـر خصخصة القطـاع العـام والإبقـاء علـى الأجـور العمّاليّـة منخفضة وتحريـر الأسعـار وعـدم إلـزام رجـال الأعمـال بقوانيـن تشغيـل صارمـة لصالـح العمّـال والتركيـز علـى الصناعـات والنّشـاطـات التصديريّـة والتخفيـض مـن نفقـات الدولـة في مجالات الصحّـة والتعليـم وإعانـة المعوزيـن والمناطـق المعـوزة.
وبدايـة مـن منتصف تسعينـات القـرن 20، بـدأت المصاعـب تحتـدّ بفعـل انخفـاض الطاقـة الشرائيـة للعمـال بسبب طـرد الآلاف منهـم نتيجـة خصخصـة القطـاع العـام وبسبـب استشـراء التشغيـل بالمناولـة، وهـو نمـط مـن التشغيـل يذكـر بالليبراليـة المتوحشـة لبدايـة الثـورة الصناعيّـة في أوروبـا : تخصّص شركـات وسطـاء في نشاطات معيّنـة مثـل التنظيـف أو الحراسـة ودفـع هـذه الشركـات النّهابـة لأجـور منخفضـة جـدّا للعمّـال وعـدم تمتيعهـم بأيّ ضمـان اجتماعـي مهمـا كـان نوعـه وطردهـم لأتفـه الأسبـاب. وأصبحـت الصناديـق الاجتماعيّة تعانـي مـن عجـز مـا انفـكّ يتفاقـم بسبـب تنصّـل رجـال الأعمـال من دفـع مستحقّـات عمالهـم في ما يتعلّـق بالضمـان الاجتماعـي، وكذلـك بسبـب تكاثـر عـن المتقاعديـن الناتـج عـن ارتفـاع أمـل الحيـاة عنـد الـولادة.
وشهـدت كذلـك الصّناعـات التصديريّـة بـدايـة مـن 2008، تاريـخ اندلاع الأزمـة الاقتصاديـة العالميّـة الحـادّة، صعوبـات بالغـة بسبب تقليـص الاتحـاد الأوروبـي، أوّل حريف لتونـس، من شراءاتـه  مـن الإنتـاج التونسـي (الزيـت، النسيـج...)، كمـا أنّ الانفتـاح الاقتصادي أضرّ كثيـرا  بالصناعـات الحرفيـة وبالصناعـات العصريـة الصغـرى والمتوسطـة، كمـا بـدأ عـدد السيّـاح في التناقص بسبب الأزمـة في العالـم الغربـي.
وفـي المجـال الفلاحـي واصل نظـام بـن علـي السياسـة السابقـة المتمثّلـة في استنـزاف هـذا القطـاع لتمويـل الصناعـة والسّياحـة عـن طريـق سياسـة تجميد أسعـار المنتوجـات الفلاحيـة في السّـوق الدّاخليّـة (الزيـت، التّمـور، الحمضيـات، المنتوجـات الحيوانيّـة) واحتكـار الدولـة لتصديـر تلـك المنتوجـات إلـى الخـارج بأسعـار مرتفعـة، وقـد زاد في تدهـور الأوضـاع المعيشيّـة للفلاحيـن (المناطـق الدّاخليـة للبـلاد) الارتفـاع الكبيـر في أسعـار الأعلاف الحيوانيّـة والبـذور والأسمـدة وميـاه الرّي، وقـد أدّى ذلـك إلـى تزايـد النّـزوح الرّيفـي نحـو المـدن واستشـراء ظاهـرة "الحرقـان" أي الهجـرة السرّيـة إلـى أوروبـا عـن طريـق البحـر.
وأصبـح التعليـم بالنسبـة إلـى الكثيـر مـن العائـلات التونسية نقمـة لا نعمـة، فبعـد أن كـان زمـن بورقيبـة وسيلـة للرّقـي الاجتماعي، أصبـح الآن عبئا ثقيـلا علـى الأسـر التونسيّـة وخاصّـة منهـا محـدودة الدّخـل بسبب بطالـة الآلاف المؤلّفـة مـن الخرّيجيـن الجامعيّين، وقـد غذّى أولئـك العاطلـون عـن العمـل النقمـة علـى نظـام بـن علـي في كامـل أرجـاء البـلاد نظـرا إلـى وجـود مؤسّسـات جامعيّـة في أغلـب المدن التونسيّـة.
ولعلّ أكبـر ثغـرات السياسـة الاقتصاديـة لنظـام بـن علـي هـي تهميـش المناطـق الدّاخليـة، فالنمـو الاقتصادي الذي تـمّ زمـن بـن علـي لـم يعـد بالفائـدة  إلاّ علـى المناطـق الساحليّـة، أمّـا دواخـل البـلاد وهـي مناطـق غيـر محظوظـة بطبيعتهـا فظلّـت"أضيع  مـن الأيتـام علـى مائـدة اللّئـام". ويعـود التناقـض بيـن تونـس الساحليّـة وتونـس الداخليـة إلـى آلاف السّنيـن، وكـلّ الحركـات التمرّديـة في التاريـخ التونسي منـذ القـديم إلـى 14 جانفـي 2011 انطلقت مـن هـذه المناطـق الداخليّـة (حركات تكفارينـاس ويوغرطة في العهـد الرّومانـي، حركـة أنطالاس في العهـد البيزنطـي، حركـة ابي يزيـد صاحـب الحمـار في العهـد الإسلامـي الفاطمـي، حركـة علـي بـن غذاهـم في العهـد الحسينـي العثمانـي، حركات علي بن خليفة النفاتـي ومحمّـد الدغباجـي و"الفلاقـة" في العهـد الاستعمـاري الفرنسـي، انتفاضـة الخبـر عـام 1984 فـي عهـد بورقيبـة ثـمّ الانتفاضـة الشعبيّـة الكبـرى موضـوع هـذه الدّراسـة)، ولا بـدّ مـن ملاحظـة أنّ سكـان المناطـق المحظوظـة يكنـون نوعـا مـن الازدراء تجاه سكّـان المناطـق الدّاخليـة (تعييرهـم بتسميـات مثـل "الأقعـار" و KJB و08 "،  فتاجـر المناطـق السّاحليّـة الذكـي والدّاهيـة، ظلّـت لـه دائمـا الغلبـة والقـدرة علـى إخضـاع "فلاح" المناطـق الدّاخليـة الشّجـاع لكـن غيـر البـارع في الحسابـات السياسيـة.
ومـن النتائـج الوخيمـة لسياسـة بـن علـي الاقتصاديـة تآكـل الطبقـة الوسطـى، رغـم أنّ بـن علـي حـاول المحافظـة علـى تماسـك هـذه الطبقـة، إلاّ أنّ أغلـب شرائحهـا تضـرّرت بتفـاوت سبـب ارتفـاع الأسعـار وبسبـب المديونيّـة التـي كانـت تتخبّـط فيهـا أغلـب عناصرهـا (2009 = 85 % مـن التونسييـن وأغلبهـم مـن هـذه الطبقـة، كانـوا مدينيـن ومـن بينهـم 73.3 % لـدى البنـوك)، فالمحامـون الذيـن تكاثـرت أعدادهـم، بدأت أوضاعهـم تسـوء بإستثنـاء أقلّيـة كانـت لهـا علاقـة ولاء مفضوحـة بنظـام بـن علـي، أمّـا المعلّمـون وأسـاتـذة التعليـم الثانـوي، فأصبحـوا يلهثـون وراء "السّاعـات الخصوصيّـة"، أمّـا أصحـاب المؤسسـات الحرفيـة وصغـار المؤسسـات الصّناعيّـة العصريـة ومتوسّطيهـا، فأصبحـوا يعانـون مزاحمـة شديـدة بسبـب الفيض الهائـل مـن البضائـع الرّخيصـة الثّمـن والمورّدة مـن ليبيـا والجزائـر وآسيـا(أسـواق "المنصف بـاي"بتونس العاصمة و "الجـم" بالوسـط الشرقـي التونسـي) كمـا تضرّروا  بسبب جشـع العائلـة (الحاكمة)، فاضطـرّوا  إلـى دفـع الرشـاوى إلـى هـذه العائلـة للحصـول علـى الصفقـات وتجنّـب سيف الجبايـة أواضطرّوا إلـى تحويـل بعض أعضـاء هـذه العائلـة إلـى شركـاء  لهـم كما عزف الكثير منهم عـن الاستثمـار واضطرّ آخرون إلـى تهريـب أموالهـم إلـى الخارج. والطبقـة الوسطـى حسّاسـة جـدّا لمسألـة الديمقراطيـة لأنّهـا غزيـرة العـدد ولأنّ مستواهـا المعيشي رغـم كلّ الصعوبـات طيب ويفتح شهيّتهـا للحيـاة الديمقراطيـة (الدخل الفردي السنوي لمجمـوع التونسيين = 5000 دولار) ولأنّهـا كذلـك تضـمّ في صفوفهـا عناصـر متعلّمـة جـدّا مـن بينهـا عـدد لا بأس بـه مـن خريجـي كبـار المدارس العليـا الفرنسيّـة والأمريكيّـة كانـوا مستائيـن كثيـرا مـن غيـاب الشفافية الاقتصادية ومن غلبـة الولاء السياسي على الكفاءة في البـلاد، كمـا أنّ الاحتكـاك المتواصل والمكثّف بفرنسـا- حضارة حقـوق الإنسـان- لا يمكـن إلاّ أن يغـذي نقمـة هـذه الطبقـة الوسطـى على نظام بـن علي.
وقـد زاد في تعفين الأوضـاع بالبـلاد استشـراء الفسـاد علـى نطـاق واسـع الذي كانـت تمارسـه علـى مرأى ومسمـع مـن الجميـع بـن علـي نفسـه والعائلـة (الحاكمة)،  وكـان بعض أعضـاء هـذه العائلـة مثـل "الطرابلسيّـة" إخـوة ليلـى زوجـة الرئيـس كواسر مـن العصـر الحجـري، عاثـوا في البـلاد فسـادا وإفسـادا وترعيبـا وعنفـا وصـل حـدّ التصفيـة الجسديّـة. إنّ وزراء مثـل مصطفـى خزنـدار أو مصطفـى بـن إسماعيل اللذيـن اشتهـرا في القـرن 198 في تونـس بسرقاتهمـا لأمـوال الدولـة، يعتبـران هـواة مبتدئيـن مقارنـة ب"العائلـة المالكـة" المتحلّقـة حـول زيـن العابديـن بـن علـي، وهـي مافيـا سوقيـة ابتلـي بهـا شعـب مـن أكثـر شعـوب البحـر المتوسّـط مسالمـة وتحضّـرا. وقـد سيطـرت هـذه العائلـة علـى قرابـة 40 % مـن النشـاط الاقتصادي للبـلاد وبسطت نفوذهـا علـى قطاعـات عديـدة مثـل السّياحـة والعقـارات والبنـوك ووسائـل النّقـل والاتّصـالات والتجـارة، وكذلـك تجـارة الكحـول والمخدّرات، وتتحمّـل هـذه العائلـة مسؤوليـة ترويـج آفـة المخدّرات في البـلاد خاصّـة في أوسـاط الشبـاب. وخسـرت البـلاد وفـق الخبـراء الاقتصادييـن مـا بيـن نقطـة ونصف النقطـة مـن نسبـة نموّهـا منـذ بدايـة انتشـار الفسـاد عـام 1992، تاريـخ زواج الرئيـس بإحـدى عشيقاتـه ليلـى الطرابلسـي الحلاقـة (ثـمّ السكرتيـرة) شبـه الأمّيـة التي أطلقـت العنـان لعائلتهـا وخاصّـة لأخيهـا بلحسـن الطرابلسـي السيئ الذكـر، للإثـراء الفاحـش علـى حسـاب الشعـب، وقـد نجحـت هـذه "الأفعـى ذات الرؤوس السّبعـة" كما يسمّيهـا التونسيّـون، في استعبـاد الرئيـس وإخضاعـه لكـلّ نزواتهـا اللّصوصيّة بعـد أن ولـدت لـه ذكـرا وهـو في سـنّ متقدّمـة، ومـا استفـزّ التونسيّيـن كثيـرا هـو نمـط حيـاة هـذه "العائلـة المالكـة" القائـم علـى التبذيـر الذي لا يصـدّق وعلـى التباهـي الصبيانـي بالثـروة، وقـد أوردت جريـد الصّباح المواليـة للحكـم  ليـوم 22 نوفمبـر 2010 أنّ أحـد هؤلاء الكواسـر أنفـق مـالا باهظـا لإحيـاء عيـد ميـلاد كلبـه في أحـد النـزل الفاخـرة بالحمامـات ! وقـد عطّـل نهـم هـذه العائلـة الذي لا يرتـوي النشـاط الاقتصادي  لرجـال الأعمـال باستثنـاء أقلّيـة مـن "مماليـك" هـذه العائلـة – فانكمـش الاستثمـار ورغـب الكثيـر مـن رجـال الأعمـال الأجانـب عـن الانتصـاب في تونس مثـل الشركـة العالميـة الأمريكية ماك دونالـد.
وقد أدّى استشراء الفساد على نطاق واسع في البلاد إلى بروز أزمة أخلاقية حادّة أفرزت ثلاثة أصناف من الشباب: صنف متزمّت ومتطرّف دينيا وصنف مقبل على الحياة على النمط الغربي ونافر من السياسة وصنف ثالث معتدل لكنّ صفوفه آخذة في التقلّص لصالح الصنفين السابقين. 
عـلاوة علـى الأسبـاب الاقتصاديـة، يعود سقـوط نظـام بـن علـي إلـى ما فرضـه علـى البـلاد منذ الأيـام الأولـى لحكمـه مـن استبـداد سياسـي رهيـب مبرمـج رغـم أنّـه وعـد الشعـب التونسي في "بيان 7 نوفمبـر" بإرسـاء الديمقراطيـة. كـان زيـن العابديـن بـن علـي المولـود عـام 1936 ضابطـا  عسكريّـا متخصّصـا في المخابـرات، وكان صعـود نجمـه في المنظومـة العسكريـة التونسيّـة يعود إلى مصاهرتـه عـام 1961 للجنـرال محمّـد الكافـي قائـد هيئـة الأركـان. وبـن علـي محـدود التعليـم (أقـل مـن مستـوى الباكالوريــا) وضحل أخلاقيـا (حبّـه للمال حبّـا جمّـا، مغامراتـه النّسائيـة، لغتـه البذيئـة، إيعـازه بكـلّ بـرودة دم بالتصفيـة الجسديّـة لبعض خصومـه)، وقـد استطـاع التسلل إلـى أعلـى مراتـب الدولـة (الوزارة الأولى) بسبـب التعفّـن  السّياسـي في أواخـر عهـد بورقيبـة وصعـود حركـة الإسلاميّيـن، وقـد وظّفـه بورقيبـة لاستئصـال الإسلاميّيـن لأنّ هـذا العسكـري معروف بقدرتـه علـى القمـع الدمـوي للتحركـات الجماهيريّـة (قمع نقابـة الاتحـاد العـام التونسـي للشغـل عـام 1978 وانتفاضـة الخبـز عـام 1984)، وقـد تعرّف بـن علـي في بدايـة ثمانيـات القـرن 20 أيّـام اشتغالـه سفيـرا في بولونيـا إلـى تقنيـات استعبـاد الحـزب الشيوعـي الستاليني للجماهيـر. وخـلق بـن علـي طـوال حكمـه نظامـا بوليسيّـا صارمـا، والغريـب أنّـه ظـلّ دائمـا يدّعـي بدون أيّ حيـاء أنّ نظامـه هـو نظـام الديمقراطيـة وحقـوق الإنسـان !
وقـد أصبحـت كلمـة "حاكـم"  تعنـي فـي عهـده في لغـة التخاطـب اليومـي للتونسيّيـن "شرطي" نظـرا إلـى تحـوّل الشرطي زمـن هـذا الرئيـس الطاغيـة إلـى الفاتـق الناطـق المسلّـط علـى البـلاد والعبـاد. وحكـم بـن علـي البـلاد بواسطـة حـزب "التجمّـع الدستـوري الديمقراطـي" وريـث الحـزب الحـرّ الدستـوري الجديـد الذي قـاد الحركـة الوطنيـة التونسيّـة ضـدّ الاستعمـار الفرنسـي، وقـد حـوّل بـن علـي هـذا الحـزب المجيـد مـن حـزب مناضليـن إلـى حـزب مخبريـن ومرتشين باستثنـاء أقلّيـة. واستطـاع بـن علـي أنّ يجـذب إلـى صفّـه نخبـة مـن خيـرة مثقّفـي البلاد وخبرائهـا، وقـد انضـمّ هؤلاء إليـه، وأغلبهـم يساريّـون – لأسبـاب كثيـرة = حبّ السلطـة والمـال، الخوف مـن الإسلاميّيـن، محاولـة التغييـر السياسـي مـن الدّاخـل، إيمانهـم "بنهايـة الإيديولوجيـات "غـداة سقـوط الشيوعيّـة السّوفياتيـة والقوميـة العروبيّـة البعثية (صدّام حسيـن). وأزاح بـن علـي كلّ الشخصيـات السّياسيـة الكاريزميـة للعهـد البورقيبـي، كمـا قلّـص كثيـرا مـن دور الجيـش في البـلاد وتخلّـص مـن كلّ شخصيّاتـه المرموقـة، ورغـم تعهّـد بـن علي فـي "بيـان 7 نوفمبـر" بقطعـه مـع الرّئاسـة مـدى الحيــاة التـي فرضهـا بورقيبـة عـام 1975، إلاّ أنّـه لـم يتورّع عـن تغييـر الدّستـور العديـد مـن المرّات لصالحـه وعـن تزويـر الانتخابـات الرّئاسيّـة تزويـرا جعـل تونـس محـلّ تنـدّر في الخـارج (النجـاح بنسبـة تتجـاوز دائمـا 99 %).
ولقـي نظـام بـن علـي مسانـدة قويّـة مـن العالم الغربـي وخاصّـة مـن فرنسـا والولايـات المتّحـدة الأمريكيّـة ومـن إسرائيـل لأنّـه فتـح البـلاد على مصراعيهـا لبضائعهـم ورؤوس أموالهـم ولأنّـه منـع الهجـرة السرّيـة إلـى أوروبـا وقمـع "الإرهابييـن" الإسلاميّيـن بكـلّ قســوة.
لقـد كـان بـن علـي كمـا قـال عالـم الألسنيـة الأمريكي ناحوم شومسكي "وغدا مفيـدا للعالم الغربـي لكنّـه مضـرّ بشعبـه".

القوى التي أسهمت في الثورة

علاوة علـى هـذه الأسبـاب السّياسيـة التي ساهمـت في سقـوط بـن علـي، فإنّ إدارتـه للأزمـة التي فجّرهـا محمّـد البوعزيزي بإحـراق نفسـه، كانـت إدارة غبيّـة ومتعجرفـة (استعمالـه لغـة التهديـد عوض لغـة التهدئـة، التسـرّع الغريب في إطـلاق الرّصاص الحـيّ علـى المتظاهريـن العـزّل، الركـون إلـى المسرحيّـات السخيفـة لامتصاص غضب الجماهيـر مثـل التخفيض في أثمـان بعـض المـواد الغذائيـة أو تنظيـم مظاهـرات تأييد أو الوعـد بإرسـاء الديمقراطيـة بـدون قيـد أو شـرط في البـلاد. ورفض الجيـش إطـلاق النـار علـى المتظاهريـن مواصـلا بذلـك تقليـدا سنّـة بورقيبـة وهـوإبقاء الجيش ضعيف العدد والعدّة واقتصـار دوره علـى حمايـة البـلاد مـن الأخطـار الخارجيّـة وعلـى عـدم التدخّـل في السياسـة. ومـن أسبـاب نجـاح انتفاضـة 14 جانفـي 2011 – علاوة علـى شجاعـة الشعـب التونسـي – تجانسـه عرقيّـا ودينيّـا ولغويّـا (القبليّـة لـم يعـد لها أي وجود في البـلاد) وللمرأة التونسيّـة دور فاعـل في البـلاد على كـلّ المستويـات، وقـد ساهمـت بنجاعـة في الإطاحـة بالطّاغيـة بـن علـي، كمـا لا بـدّ مـن الإشـارة إلـى انفتـاح التونسيّيـن علـى الحضارة الفرنسيّـة وعلـى ثقافتهـا المعروفـة بمناصرتهـا للدّيمقراطيّـة ولحقـوق الإنسـان (ثـورة 1789).
ولـم تكـن انتفاضـة 14 جانفـي 2011 عفويّـة تمامـا، لأنّ دور الأحـزاب المعارضـة والنقابـات والمثقّفيـن التقدّمييـن الذيـن لـم يقـع إفسادهـم، سبـق هـذه الانتفاضـة ومهّـد لهـا منـذ عقـود. لا ننسـى أنّه تخرّج مـن الجامعـة التونسيّـة عشـرات آلاف الطلبـة المسيّسيـن جـدّا وذلـك في سبعينـات القـرن 20 وثمانيناتـه، أيّـام كانـت هـذه الجامعـة بؤرة صـراع سياسـي حـادّ جـدّا قـلّ أن وجـد لـه نظيـر في العالـم العربـي والإسلامـي. لقد قاومت القوى الحيّة في البلاد نظام بن علي منذ عقدين من الزّمن بأشكال متعدّدة"العرائض، المظاهرات، الاعتصامات، إضرابات الجوع..." وحصلت على مساندة أحرار العالم وخاصّة أحرار فرنسا نظرا إلى الرّوابط التاريخية بين تونس وفرنسا.
وليـس مـن الصّـواب المبالغـة في دور الشبـاب في هـذه الانتفاضـة وإضفـاء صبغـة مـن التمجيـد عليـه لأنّ كـلّ الشرائـح العمريّـة شاركـت في هـذه الانتفاضـة وذلـك منـذ حركـة الاحتجـاج العارمـة عـام 2008 في منطقـة مناجـم الفسفـاط بالجنـوب التونسـي، وكانـت حركة الاحتجاج هذه تحوّلا نوعيّـا في طرق التظاهـر (اعتصامـات ليـلا ونهارا، تعطيـل تصديـر الفسفـاط إلـى الخارج، مشاركـة العائلات بكـلّ أفرادهـا في الاحتجاجـات...). لقـد كـان لصنفيـن معيّنيـن مـن الشبـاب دور متميّـز في الانتفاضـة : فئـة مـن شبـاب المناطـق الدّاخليـة والأحيـاء الفقيـرة للمدن السّاحليـة الكبـرى، وقـد قدّمـت هـذه الفئـة أغلـب قتلـى الانتفاضـة وجرحاهـا، وهـذا طبيعـي لأنّ أغلب ضحايـا الحركـات الاحتجاجيـة الكبـرى في تونـس منـذ الاستقـلال (1978 – 1984) كانـوا مـن بيـن هـذه الفئـة العمريّــة، فالشبـاب بحكـم سنّـه أكثـر اندفاعـا وإقدامـا وحركيـة مـن الكهـول والشّيـوخ، أمّـا الفئـة الشبابيّـة الثانيـة التي اضطلعـت بدور هـامّ في الانتفاضـة، فهـي فئـة "المناضليـن الافتراضيّيـن" الذيـن ساهمـوا عـن طريـق الفيسبـوك والأنترنـات والهواتـف النقالـة في تأليـب الجماهيـر علـى بـن علـي، وينتمي أغلـب أفراد هـذه الفئـة إلـى الطبقتيـن الوسطـى والعليـا للمجتمـع وينعتهـم البعض قبل 14 جانفـي 2011 بأنّهـم شبـاب "ستـار أكاديمـي" وعطورات الماركـات الأجنبيّـة والمساحيـق، لكـن لا ننـس كذلـك أنّ فئـة ثالثـة مـن الشبـاب الفقيـر، تورّطـت في أيّـام الانتفاضـة والأيام المواليـة في أعمـال السطـو علـى أرزاق النـاس والعنـف الشديـد وإحـراق البنايـات العموميّـة.

في ريادية الثورة التونسية

وتعتبـر انتفاضـة تونـس المطالبـة بالديمقراطيـة رياديـة في العالـم العربـي، إذ كسّـرت جـدار الخوف مـن الطغـاة وفتحـت طريـق الحرّيـة أمـام كـلّ العـرب، وأصبـح الشعـاران اللّـذان ابتدعهمـا ثـوّار تونـس "ارحـل" و"الشعـب يريـد إسقـاط النظـام" وكذلك بيت الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي: (إذا الشعب يوما أراد الحياة   فلا بدّ أن يستجيب القدر)، تتردّد في أغلـب شوارع  المدن العربيـة  وقراهـا مـن المحيـط إلـى الخليـج. ويجـدر التنبيـه هنـا إلـى أنّ مـا حـدث في تونـس يـوم 14 جانفـي 2011 ليس مفاجـأة بالنسبـة إلى الذيـن يعرفـون جيّـدا تاريـخ تونـس، فتونـس أفرزت أعظـم دستـور في العالـم القديم باعتـراف الفيلسـوف أرسطـو والمؤرّخ الرّومانـي بوليبيوس لأنّـه كـان دستـورا حائـلا دون الدكتاتوريـة، كمـا ولـد في تونس في العصـر الحديـث أوّل دستـور في العالـم العربي والإسلامـي (1861) وهـو دستـور لائكـي كـان ينصّ علـى أنّ مـن حـقّ المجلـس الأكبـر (برلمـان) خلـع الملـك ! وعندمـا سقطت تونـس تحـت الهيمنـة الاستعماريـة الفرنسيـة بدايـة مـن 1881، ضمّـن الحزبـان الوطنيّـان الرئيسيـان في تسميتيهمـا كلمـة : دستـور (الحزب الحـرّ الدستوري"القديـم" والحزب الحرّ الدّستـوري الجديـد)، وهـذا دليـل علـى تعلّـق التونسيّيـن بالحيـاة السّياسيّـة المنظّمـة القائمـة على القوانيـن والمؤسسـات، ولتونـس أقـدم وأقـوى منظمـة نقابيـة في العالـم العربـي المعاصـر : الاتّحـاد العـام التونسـي للشّغل الـذي تأسّـس عـام 1924 وأعيـد تأسيسـه عـام 1946، ولتونـس كذلـك أقـدم منظمـة للدّفـاع عـن حقـوق الإنسـان في العالـم العربـي (1977)، كمـا تنعـم المرأة مثلمـا ذكـرنـا ذلـك بحقوق ليـس لهـا مثيـل في أيّ بلـد عربـي أو إسـلامــي آخــر، لا ننسى هنا أنّ امرأة" علّيسة" هي التي أدخلت تونس إلى التاريخ قبل 2825 عاما"تأسيسها مدينة قرطاج.

عن الصراعات السياسية اليوم

مـا هـي ملامـح الصّـراع السّياسـي في تونـس اليـوم بعـد مـرور مائـة يـوم علـى الانتفاضـة الشّعبيّـة الكبــرى ؟
إنّ التناقـض الحـادّ اليـوم هـو بيـن البرجوازيّـة العليـا الّتـي لا تـزال ماسكـة بالسّلطـة السّياسيّـة والشّـرائـح الوسطـى  المتحالفـة مـع الشرائـح الشّعبيّـة (قضـاة، أساتـذة، معلّمـون، موظّفـون صغـار وخاصّـة المحامـون الذيـن تميّـزوا بحركيـة كبيـرة، وقديمـا قـال الشاعــر الرّومانـي جوفينـال عـن أفريكـا (تونـس حاليـا) إنّـهـا (البلـد الـذي لا ينتـج إلاّ المحاميـن !). ولقـد استطاعـت العناصـر الطليعيّـة لهـذه الشرائـح الوسطـى احتـلال الكثيـر مـن مواقـع تسييـر الدولـة، وهـي لا تـزال سائـرة في هـذا الاتجـاه، وقـد نجحـت إلـى حـدّ الآن في حـلّ الحـزب الحاكـم السّابـق وفـي إيقـاد العديـد مـن كبـار المسؤولين فـي نظـام بـن علـي وفـي إقـرار حرّيـة التعبيـر والتنظّـم السّياسـي وفي تحريـر كـلّ المساجيـن السياسييـن وفي الإطاحـة بحكومـة الوزيـر الأوّل محمّـد الغنوشـي الرّجعيّـة وفـي فرض التخلّـي عـن الدستـور القديـم وتحديـد موعـد 24 جويليـة القادم لإجـراء انتخابـات  المجلـس التأسيسـي. إنّ حركـة 14 جانفـي 2011 لا تزال "انتفاضة" ولـم تتحـوّل بعد إلـى ثورة لأنّ السّلطـة السياسيّـة لـم تنتقـل بعـد إلـى طبقـة اجتماعيـة جديـدة، مـع ما قـد يصحـب ذلـك مـن تغييـرات جذريـة علـى كـلّ المستويـات. إنّ هياكـل المجتمـع والدّولـة لمـا قبـل 14 جانفـي 2011 لا تـزال علـى حالهـا، واستمـراريتهـا أو تغيّـرهـا جذريّـا أو جزئيـارهين تطـوّر الصـراع السّياسـي في مستقبـل الأيّــام في تونـس.
مـا هـي القـوى السّياسيّـة المتقابلـة اليــوم ؟
لقـد فـاق عـدد الأحـزاب السياسيّـة التـي حصلـت إلـى حـدّ اليـوم علـى الترخيـص اللاّزم أكثـر مـن ستّين حزبــا، لكـن في الواقـع توجـد ثلاث قـوى رئيسيّــة : "حركـة النهضـة" الإسلاميـة وأنصـار الحزب  الحاكـم السّابـق ثـمّ نقابـة الاتحـاد العـام التونسـي للشغـل، أمّــا تنظيميّـا، فتوجـد أربـع كتـل فكريّـة – سياسيّـة : الليبراليـون واليساريّـون والإسلاميـون والقوميّـون العروبيّـون.
تونس الثورة وشهية " الدول العظمى"!!
كيـف تعاملـت الدول العظمـى مـع الانتفاضـة التونسيّــة ؟
إنّ مـا لفـت انتبـاه التونسيّيـن بعـد 14 جانفـي 2011 هو تلـك الوفـود التـي لا تنتهـي مـن الدول الغربيـة، وأبرزهـا الوفـد الأمريكـي برئاسـة وزيـرة الخارجيّـة هيلاري كلينتـون. لقـد جـاءت تلـك الوفـود رسميّـا "للثنـاء علـى الثـورة التونسيّـة" ولتقـديم الوعد بالدعـم المالـي لتونـس ولمساعدتهـا علـى تنظيـم انتخابـات نزيهـة !! لكـن مـاذا يوجـد وراء الخطـاب الديبلوماسـي ؟ لقـد سانـدت الـدّول الغربيـة نظـام بـن علـي، كمـا رأينـا، وهـا هـي اليـوم وقـد فاجأتهـا الانتفاضـة التونسيّـة، تحـاول ركـوب  الموجـة وتوجيـه الأحـداث فـي تونـس بمـا يخـدم مصالحهـا، وتتمثّــل مصالحهـا في ما يلـي :
·        الاطمئنـان علـى مصالحهـا الاقتصاديـة في تونـس!
·        الضّغـط علـى تونـس لكـي تحـول دون الهجـرة السرّيـة إلـى أوروبـا وإلـى العالـم الغربـي عمومـا.
تنبيـه تونـس إلـى مـا يمثّلـه الإسلاميّـون مـن خطـر عليهـا وعلـى التوازنـات السّياسيّـة الإعلاميـة، لا سيّمـا وبإمكـان هؤلاء "المتطرّفيـن" استغـلال الديمقراطيـة للوصـول إلـى السّلطـة السياسيّـة ثـمّ الالتفـاف علـى هـذه الدّيمقراطيّـة، وقـد أعربـت بعـض الأطـراف الدوليـة عن استعدادهـا للتفاوض مـع الإسلاميّيـن المعتدليـن" تحسّـبا لمفاجـآت قـد تحدث في المستقبـل.
تشجيـع تونـس علـى اتخـاذ مواقـف معتدلـة تجـاه إسرائيـل، والتطبيـع مـع تل أبيب وتشجيـع تونس بقيـة العرب والفلسطينييـن علـى ذلـك.
·       الترحيـب بإرسـاء الديمقراطيـة في تونـس وتقديـم الوعـود بتدعيمهـا، خاصّـة وهـذا النـوع مـن التنظيـم السياسـي يمثّـل "نهايـة التاريـخ" في رأيهـا (الأمريكـي فرنسيـس فوكويامـا) وإبداعـا غربيّـا خالصـا ومنسجمـا مـع مشـروع "الشـرق الأوسـط الكبيـر" الأمريكي الهادف إلـى فرض السيطـرة الامبرياليـة والصّهيونيّـة علـى المنطقـة العربيّـة تحـت ستـار نشـر الديمقراطيّـة، إلاّ أنّ المطلـوب هـو ألا تكـون القيـادات السياسيّـة التي ستفرزهـا اللّعبـة الدّيمقراطيّـة فـي تونـس – وهـي قيـادات نابعـة مـن الشعـب بالضرورة – معاديـة للعالـم الغربـي وخاصّـة للولايـات المتّحـدةالأمريكية  
إنّ مستقبـل علاقـة تونـس بالمنظومـة الرأسماليّـة العالميّـة رهيـن الصّـراع السياسـي في تونـس في مستقبـل الأيّــام.
 وبعد: سؤالان مقلقان
في خاتمـة هـذه الدّراسـة، لا يسعنـا إلاّ طرح التساؤليـن اللذيـن يؤرقـان القـوى التقدميـة قبـل انتخابـات المجلـس التأسيسـي (24 جويليـة القـادم) والانتخابـات التشريعيّـة والرئاسيّـة لاحقـا :
أوّلاً : هل ستنجـح تونـس في إرسـاء نظـام ديمقراطـي متلائـم مع طبيعـة العصـر ومـع القيـم الكونيـة ومـع مـا هـو نيّـر مـن الإرث التاريخـي التونسـي، والقطـع بذلـك مـع الخياريـن اللذيـن أحلاهمـا مرّ: إمّا نظـام سياسـي حداثي شبـه لائكـي لكنّـه استبـدادي، أو نظـام إسلامـي مناهـض لقيـم الحداثـة ؟
ثانيــاً : فـي صـورة وصـول القـوى التقدّميـة إلـى السّلطـة السّياسيّـة، هـل ستنجـح في خلـق نـوع مـن التنميـة الوطنيـة الشعبيّـة ضمـن اقتصـاد السّوق، والتمسّـك في نفـس الوقـت بالديمقراطيـة رغم مـا تمثّلـه ممارسـة الديمقراطيـة مـن صعوبـة بالغة بالنسبـة إلـى شعـب لـم يعرفهـا أبـدا في تاريخـه؟

عن مجلّة الطريق البيروتيّة، العدد الأوّل، صيف 2011.
****************************************************
الكاتب: د. الهادي التيمومي. مؤرّخ وجامعي تونسي، أصدر عدة كتب في التاريخ والفكر السياسي:
  • "الجدل حول الامبريالية منذ بداياته إلى اليوم 1839- 1920" (1992).
  • "تاريخ تونس الاجتماعي 1881-1950" (1997).
  • "الاستعمار الرأسمالي والتشكيلات الاجتماعية ما قبل الرأسمالية 1861-1943 " جزآن (1999).
  • "النشاط الصهيوني بتونس 1897- 1948" (2001).
  • "في أصول الحركة القومية العربية 1839-1920" (2002).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.