23 أغسطس 2011

مقال: الانْتِظامُ في تُراثٍ، انتظامٌ في حداثةٍ... صلاح بوسريف

اعتبرَ الجابري أن اللحظة الراهنةَ في تاريخنا الحديث مازالت لحظةً نهضويةً، [وأننا] مازلنا نحلم بالنهضة ... و[أنّ] النهضة لا تنطلق من فراغ بل لابد فيها من الانتظام في تراث. والشعوب لا تحقق نهضتها بالانتظام في تراثِ غيرها بل بالانتظام في تراثها هي.

سأعود إلى أطروحة الجابري هذه، بعد أن أقف على جملة أمورٍ تَخُصُّ علاقتنا بتراثـ[نا]، وطبيعة رؤيتنا له.
فكما سبق أن أشرتُ من قبل، لا يمكننا تصوُّر حداثةٍ دون تراثٍ، أو تصوُّر حداثة لم تَسْتَنِد في صيرورتها، وفي نظامها المعرفي، على تُراثٍ، أو ما سَمَّاهُ الجابري بـ ‘‘الانتظام في تُراثٍ‘‘.
فالحداثة، قاعدَتُها تُراثٌ. وهذا لا يعني كُلَّ التُّراثِ، كما لا يعني انتقاء ما نريده من هذا التراث. المقصود، هنا، ذلك التراث الذي كان، في أساسه، يحمل بَذْرَةَ المستقبل، أو يهجس بهذا المستقبل، من خلال رؤيته البعيدة، التي لم تكن رؤية ‘‘رَاهِنٍ‘‘، تكتفي براهنيتها، بل إنَّها، في راهنيتِها، كانت تُضْمِرُ مستقبلها.
فتراثٌ، لا ينطوي على أُفُقٍ، وليس فيه ما يشي بالانتقال، هو تراثٌ ماضويٌّ، مُغْلَق، مُكْتَفٍ براهنه، خَالٍ من بَذْرَةِ الحداثة، أي خالٍ من بَذْرَةِ الحياة، ولا حيويةَ فيه.
وفي هذا الإطار، يمكن العودة إلى مسألة الهوية الثقافية للتراث، أو التراث ‘‘باعتباره مرجعاً للهوية الثقافية‘‘. فكما يذهب إلى ذلك أحد الباحثين. فـ ‘‘كل تُراثٍ ... ينطلق من تُرابٍ‘‘، أي من هوية، ومن مرجع تاريخي ومعرفي، وليس من انتسابٍ مُلْتَبِس، أو هجين، لا لونَ ولا طعمَ له. 
فقط، علينا أن نكون حذرين من معنى الهوية، في ارتباطها بمفهوم التراث. فإذا كُنْتُ ذهبتُ إلى المعنى المُتَحَرِّك للتراث، ففهمي للهوية سيكون هو الآخر مُتحرِّكاً، مفتوحاً، وهو ما يجعل من الهوية تكون مُتَمَوِّجَةً، حركيةً، متفاعلةً، وديناميةً، لا تبقى أسيرةَ أصْلٍ ثابتٍ.
ما يعني أنَّ الحداثةَ، تكون منبثقةً من مرجعٍ. [لم أستعمل أصل، مثلما درج الجابري نفسه على استعماله، لأنني سأناقش ما يختزنه الأصل، في مثل هذا الوضع من إحالاتٍ وإيحاءاتٍ أيديولوجية، قياساً بالمفهوم المعرفي للبداية أو المرجع الذي سأتبنَّاهُ هنا].
لا نُنْفِي أبداً عمليات الاتصال والمُثاقفة، أو المُصاهرة التي تجعل من كل تُراثٍ مُتَّصِلٍ بالآخر، أو حاملٍ لمرجعياتِ ثقافاتٍ أخرى، اتَّصَلَ بها، أو اتَّصَلَت به. فالتراث العربي، في جانبه الديني، أو الفكري أو الشعري، وحتى في جانبه العلمي، وفي كل ما يتصل بالشأن الحضاري، هو تُراثُ اتِّصالٍ، وليس تراثاً مُنْبَثّاً، أو خارجاً من عَدَمٍ.
أكتفي هنا بالإشارة إلى ما سُمِّيَ بالدَّخيل في القرآن، وهو في الحقيقة، دخيل في اللغة، أي في العربيةِ التي لم تكن في منأًى عن هذه المثاقفة أو المُصاهَرَة. كثير مما جاء من عباراتٍ وألفاظ في القرآن يعود في أصله إلى لُغاتٍ أخرى، كانت على صلة بالعربية، وكانت العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري، إحدى قنوات الاتصال، قبل أن تظهر الترجمة، وتزدهر، على عهد المأمون بشكل خاص.
فوجود غير العربية من ألفاظٍ في القرآن، هو تعبير عن هذا الانشراح الثقافي واللغوي الذي ما زال يَحْدُثُ بين مختلف اللغات والثقافات، وعن ارتباكِ وتشويشِ معنى ‘‘الأصل‘‘ الصَّافي أو المُغْلَق. ثمة معاجم اليوم، تكشف عن ألفاظ فرنسية ذات أصول عربية موجودة في الفرنسية، وفي غيرها من اللغات، كالإنجليزية مثلاً.
ليس ثمَّة، إذن، ما يمكن أن نعتبره ثقافةً، أو تراثاً صافياً، أو ‘‘أصلاً’‘ خالياً من علاقةٍ مع غيره.
فلا تراثَ أتى من فراغ، كما لا حداثةَ جاءت من خارج التراث، ما يعني، أنَّ ‘‘الانتظام في تراثٍ’‘، هو انتظامٌ في حداثةٍ أيضاً، لكنها حداثة اتِّصالٍ، وليست حداثة انفصال، كما أنها حداثة حوار وليست حداثة اجترار، أو تبعية، أو ما يمكن أن نسمِّيه هنا، بحداثة ابْتِدَاع، لأنها قائمة على تراثِ خَلْقٍ و ابتداعٍ، لا تراث تكرارٍ واتِّباع.
بهذا المعنى، أو بهذا الفهم لمعنى التراث، يكون أفق ‘‘النهضة’‘، أو طريقُها، صادرٌ من تُرابِنا، بما تعنيه كلمت تراب من حوار ولقاءٍ ومصاهرة، حدثت في الماضي، وما زالت مستمرَّةً في زمننا هذا.
التراث وفق هذه الرؤية، لن يكون عائقاً في طريق ‘‘النهضة’‘، أو في الانتقال إلى الحداثة، بل إنَّ تراثاً مُتَّصِلاً، أو تراثاً من هذا القبيل، هو ما يجعل من الهوية الثقافية تكون إضافةً، ومغايرةً، تجعل من العلاقة بالآخر، هي علاقة ذاتٍ بِغيرها، أي علاقة نِدِّيَة، وليست علاقة شَبِيهٍ بشبيهٍ، أو نسخة بأصل، ما يجعل الأصل في غِنٍى عن النُّسْخَةَ، لأنها تكرار واستعادة له.
ما يفهمه البعض من التراث اليوم، أنه ‘‘طُوبَى’‘، أو أنه ماضٍ، وأنه لم يعد يصلح للعصر، والاستغناء عنه أفضل من الانشغال به. 
فثقافة العصر تفـرض الانخـراط في ابتكارات هذا العصر، وفي إنجازاتـه العلمية والتقنية، لأنها هي الوسيلة الكفيلة بوضعنا في سياق الحداثة والتحديث. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا، أنَّ هذه المبتكرات العلمية والتقنية، وهذه العلوم المختلفة التي هي من سمات عصر الحداثة والتقنية، في أيِّ سياق تَنْتَظِم؟ أليست انتظاماً في تراثٍ، هو ذلك التراث الذي في طياته كانت الحداثة تشي بانبثاقها؟ أليس ما عرفه الغرب من تطور و ‘‘تقدم’‘، هو حاصل هذا الانتظام في تراث؟ لم يكن فقط تراث هراقليط أو سقراط أو أبوقراط أو جالينوس، بل إنه تراث اتِّصالٍ، كان فيه للحضارات الأخرى دور ونصيبٌ، بما فيها الحضارة العربية الإسلامية.
فنحن حين ننتظم في تراثـ[نا]، فنحن ننتظم، من حيث ندري أو لا ندري في تراث الآخرين، ما يجعل من الانتظام، وفق هذا المعنى، لا يكون في تراثٍ فقط، بل إنه انتظامٌ في تراثاتٍ.
وحتى لا يقرأ البعض ما أقوله هنا، باعتباره تفادياً لِمَا ورد في أطروحة الجابري، فأنا أشير إلى أنَّ ما يذهب إليه الجابري، هو التأكيد على الهوية الثقافية والحضارية للتراث العربي، وهو يعي جيدأً، أنَّ هذه الخصوصية، ليست بالصَّفاء الذي كان فَهِمَهُ بعض مَنْ اعتبروا الجابري ارْتَدَّ، أو تراجع عن فكرة الحداثة مقابل تكريس التراث، أو التقليد بالأحرى. هذا، طبعاً، غير صحيح، فالتراث حين يكون انفتاحاً، أو أفقاً، فهو يكون منطوياً على الحداثة، لا على التقليد، لأنه هو تراث انشراح وابتداع، كما في التراث الصُّوفي، وفي التراث الفكري والشعري، أي تراث أَمَامٍ لا يفتأ يستعيد بداياته، وليس أصوله، بما تحمله الكلمة من ثقل أيديولوجي، ناهيك عن ‘‘تأصيل الأصول’‘ كما استعمله الجابري، وقبله أدونيس، في عنوان فرعي للجزء الأول من كتابه ‘‘الثابت والمتحول’‘.
‘‘ من الشروط الضرورية لنهضتنا تحديث فكرنا وتجديد أدوات تفكيرنا ‘‘. الكلام للجابري. هل في هذا تناقض مع ما جاء في أطروحته السابقة، وفي اعتباره ‘‘ النهضة ‘‘، لن تحدث، بمعناها الكامل، إلاَّ بانتظامنا في تراثٍ، أو في تراثـ[نا]؟
تحديث الفكر، وتجديد أدوات التفكير، يعود بنا إلى بدايات الفكر الفلسفي، وخصوصاً عند مفكر الصيرورة هيراقليط.
اعْتَبَرَ هيراقليط أنَّ العقل Logos [وكانت الكلمة تعني عنده، أيضاً، المبدأ العام أو القانون أو القاعدة أو مَلَكَة التفكير]، هو ‘‘ قانون الفكـر، كما أنه قانون العالم ‘‘. ما يعنـي أنَّ العقل مُتَحَـرِّك، بحكم ما في الواقع من حركةٍ وتَصَيُّرٍ، أي أنه يشبه مجرى الماء، في تَجَدُّدِه، وفي حركيته. فإذا كان ‘‘ الإنسانُ في النوم يشيخ ‘‘ في بعض ما يُنْسَبُ لهيراقليط، فالعقل، في رُسُوِّه وثباته، هو أيضاً يشيخ. ففي تجديد العقل، وتحديثه، تجديد الفكر وتحديثه. فالتراث الذي نقرأه بعقل نائم، سيكون تراثاً مُظْلِماً، مُسْتَغْرِقاً في نومه، يَحُفُّهُ الظلام من كل الجهات، بعكس التراث الذي يقرأه عقل يَقِظٌ مُتَحَرِّك ومُتجدد. فهو تراث فيه من الضوء ما يجعل من النور يغمر ماهيتَه، ويُضْفي عليه الحيوية، أو يكشف، بالأحرى، ما فيه من حيوية وَتَوَهُّجٍ.
هناك مَنْ دعا للقطيعة مع الماضي. أي مع الماضي كتراثٍ، أو كإرثٍ. واعتبر كل ماضٍ هو تقليد واجترار. وهذا من منظورنا، حكم قاسٍ، وتعميم غير علمي، ولا يحتكم للمعرفة التي يدَّعي أنَّها لا تتأسَّس إلاَّ بالمستقبل، أو بالحداثة.
لا يمكن النظر إلى الماضي، باعتباره غرفةً مُظْلِمَةً لا تَصْلُح إلاّ للنوم، أو غرفةَ متلاشياتٍ. ففي هذا الماضي هناك ما مضى وانتهت صلاحيتُه، لأنه فـي الأصل، اكتفـى براهنيته، وهناك ما هو مَنْسِـيٌّ ومَطْمُورٌ، يحتاج لمن يخرجه من النسيان، لأنه، في زمنه كان استثناءً، وخروجاً عن السياق، مثلما حدث للتراث الصوفي، وما حدث في الفكر الفلسفي، حين وُوجِهت الفلسفة بالدين، وما حدث في التراث الشعري نفسه، حين تَمَّ طَمْسُ المفهوم الواسع للشعر، ولِما انْطَوَى عليه هذا المفهوم من أنواع وأشكال شعريةً، في مقابل تكريس ‘‘ القصيدة ‘‘، كاختيارٍ شعري كُلِّيٍّ وشاملٍ.
فليس من قبيل المعرفة أن نُجْهِزَ على الماضي، بدعوى الذهاب إلى المستقبل. ففي دعوة من هذا القبيل، سنكون عُراةً، خَرَجْنا من مجهول، ونقصد مجهولاً. فحتى هذا المستقبل الذي نذهب إليه، دون انتظامٍ في تراثٍ، فهو مستقبل بلا أفق، لأنه مستقبل خرج من أيدي آخرين، كما الماضي خرج من أيدي غيرهم.
إنَّ الانتظام في تراثٍ، هو انتظام في حداثةٍ، وفي مستقبلٍ. وكل رفض للماضي، أو للتراث، هو رفض للمستقبل، لأنَّ مَنْ لا ماضِيَ له، لا مستقبل له.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.