إشكالية الكتابة والقراءة في كتاب ميتولوجيا الواقع
منذ اطلاعي على أطروحته لنيل دكتوراه الدولة في الفلسفة(1), وأنا أترقب الإنتاج الفكري والنقدي للأستاذ بنعبد العالي. ومع صدور كتابيه ثقافة الأذن وثقافة العين 1994 وبين-بين 1996, عن دار توبقال, أحسست برغبة في كتابة مقاربة أولية لرصد انشغالاته الفكرية والنقدية. لكن أحد طلابه, نصحني بالانتظار وعدم التسرع, حتى أتمكن من عزل منهجيته في الكتابة ومعرفة المشكلات التي يقاربها والأسئلة التي يطرحها, والأجوبة التي من الممكن أن يأتي بها. ومع صدور كتابه الأخير, قررت أن أجازف بالكتابة حتى أتخلص من حمل أحسه ثقيلا…, وتكون الولادة, بداية لنقاش لم ينطلق بعد على ما أعتقد.
الكتاب الأخير للأستاذ بنعبد العالي يحمل عنوان ميتولوجيا الواقع(2), يقع في 125 صفحة من الحجم المتوسط, تتخلله مجموعة من المقالات القصيرة كما في كتابيه السالفي الذكر. يتناول فيه عدة قضايا ومشكلات ووجهات نظر, وفق طريقة خاصة في الكتابة, تميل إلى الاقتضاب والتكثيف والنفور من التحليل. وأعتقد أن هذه الطريقة في الكتابة غريبة عن ساحتنا الإبداعية, حيث يميل جل المؤلفين إلى اعتماد الكتابة النسقية. وهي تطرح صعوبات كبيرة, إذ كيف يمكن ولوج هذه النصوص التي تبدو للقارئ العادي, أنها تفتقد ذلك الخيط الرابط, وأعني به وحدة الموضوع المدروس. من بين الإشكاليات المطروحة بقوة في كتابات الأستاذ بنعبد العالي, إشكالية الكتابة والقراءة. حيث لاحظ ارتباطهما الوثيق بمفهوم الاستمرار, إذ استخدم التدوين لقهر الإتلاف الذي يلحقه الزمان, والنسيان الذي يسببه التقادم, وذلك لترسيخ المعنى وحفظه في الكلام الذي ينسخ بعضه البعض(3), في حين بقي هدف القراءة هو بلوغ ما قيل وإدراك ما تم إثباته والتدليل عليه. ضدا على النظرتين, يحاول الأستاذ بنعبد العالي خلخلة الإشكاليتين, والوقوف عند التحولات التي لحقت الكتابة والقراءة.
خصوصية الكتابة عند الأستاذ بنعبد العالي:
يتابع بنعبد العالي التأليف والكتابة وفق أسلوب مقطعي (إذا صح التصنيف). أو ما يصطلح عليه بالكتابة الشذرية (fragment) أو أسلوب النبذة (aphorisme) (نيتشه). وراء هذا الأسلوب تقليد كامل, من مارك أوريلسيو إلى بلانشو, مرورا بباسكال وجراسيان وشنفور وفاليري وغيرهم. يشير صاحب الجينيالوجيا, أن أسلوب النبذة, يشكو من بعض الصعوبة, ذلك يأتي من أن الناس لا يأخذون هذه الصيغة على محمل الجد. فالنبذة التي يكون سداها ولحمتها ما ينبغي أن يكون عليه, لا "تنحل رموزها" بمحض قراءتها. فالأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير (…), صحيح أنه ينبغي من أجل رفع القراءة إلى مرتبة تجعلها فنا من الفنون, أن يمتلك المرء تلك الملكة التي طمسها النسيان طمسا تاما(…) تلك الملكة التي تقتضي أن يكون للمرء طبيعة كطبيعة البقرة, لا أن يكون له طبيعة الإنسان الحديث, وأعني بها ملكة الاجترار…(4). ويقول الفيلسوف الروماني شيرون/Seron, إن الشذرة لا تولد أبدا من تلقاء ذاتها, إنها في غالب الأحيان خاتمة تحليل أو فكرة مكثفة توفر على القارئ عناء خطى الفكر(…) كما تعبر عن الإنسان في لا استمراريته وهشاشته(5). تتطلب هذه الكتابة باعا علميا طويلا وجهدا معرفيا كبيرا حتى تخرج إلى النور, في الوقت نفسه, تضع نصب أعينها القارئ وتخصه بالعناية التامة. كما أنها تعبر عن موقف تجاه الكتابة الميتافيزيقية الموسومة بتملك المعنى الوحيد والحقيقة المطلقة, ووقوفها عند الماهيات والاستمراريات الخالدة. فأسلوب النبذة –قبل أن يكون طريقة في الكتابة- يجسد موقفا نقديا من تاريخ الميتافيزيقا, وتقويضا للهويات الثابتة والساكنة وإظهارا للانفصالات التي تخترقنا. كما تتضمن صورة جديدة للمفكر وللفكر كما يقول جيل دولوز. والنص الشذري ليس هو النص الذي يتجزأ إلى وحدات منغلقة –كما يدعي مجموعة من النقاد والقراء- وإنما هو النص المتفتح الذي يقطن التعدد كل وحدة من وحداته(6). إن التعريف الذي يعطيه شيرون للشذرة, كفكرة مكثفة, يماثل تعريف جاك ديريدا الذي يقول إن الشذرة بؤرة كثافة اقتصادية", ويماثل أيضا عبارة نيتشه التالية: "يجب أن أقول أشياء كثيرة باختصار حتى أسمع أكثر". التكثيف/ الاختصار/ الاقتصاد, كلمات تدل على حركة الكتابة وهي تنجز مهمتها الإبداعية: "توليد الاستعارات", هذه الاستعارية التي تجعل القراءة لا تنفصل عن الكتابة, فالكتابة بهذا المعنى تقدم نفسها مقروءة مؤولة(7). وهذه الخاصية, تميز أساسا الكتابة الشعرية, إذ أن الشاعر يجتهد ويتألم ليضع يده على صورة واحدة, أو استعارة واحدة, أو مجاز واحد, أحسن من أن ينتج مجلدات بأكملها على حد تعبير الشاعر أزراباوند. ونفس الملاحظة يبديها ريلكه حيث يقول: "لكتابة بيت واحد, يجب أن نكون قد رأينا مدنا عديدة, أناسا وأشياء, يجب أن نكون قد عرفنا الحيوانات, الكيفية التي تطير بها الطيور, وحركات الأزهار الصغيرة, وهي تتفتح عند الصباح, كل مادة تم تأملها, كل اسم كبير تم الهمس به هو منطلق حلم وبيت شعري, هو حركة لسانية مبدعة".
إشكالية القراءة والكتابة: الواقع والتحول
من هذا المنظور الذي بسطته آنفا –حسب اعتقادي- يواصل الأستاذ بنعبد العالي مساءلة إشكاليتي القراءة والكتابة, في ظل المشروعية التاريخية الراهنة. وذلك وفق منهج تشخيصي, يستحضر الواقع ليقول فيما يختلف عن الماضي اختلافا جذريا. هكذا يرصد الكاتب, التحولات التي لحقت العناصر المشكلة لفضاء الكتابة والقراءة, بدءا بالتحول الذي مس مفهوم المؤلف. فإذا كان هذا الأخير حسب التعريف التقليدي يعتبر "مبدأ تجميع الخطاب ووحدة معانيه وأصلها –فوكو-", فإن بعض الكتاب حاول خلخلة هذا الوضع كمالارمي وبارث, بل أصبح الحديث عن موت المؤلف: فالذات كما يقول فوكو, ليست بالطبع مصدر الخطاب, بل إن هذا المصدر مكون من "حقل مجهول" من الممارسات. لكن هناك رأيا عاما في ساحتنا الثقافية, مازال مستمرا في تشبثه بالدور الذي يلعبه المؤلف/الكاتب كمصدر للخطاب والكتاب… . لهذا يحاول الأستاذ بنعبد العالي رفع هذا الالتباس حين يقول: "قد يكون من العبث التساؤل عن أي الشخصيات هي الأكثر مسؤولية عن "وجود" الكتاب؟ فليست حياة إحداها موتا للآخر كما قيل. هذا إضافة إلى أنها جميعها, بما فيها الناشر, لا تحيل إلى شخصية متفردة وإنما إلى شبكة معقدة من التأثيرات المتجذرة في التاريخ والمجتمع(8)". هذه الشبكة هي التي تجعل من الكتابة طاقة وقوة وظاهرة زئبقية لا يمكن مراقبتها, خاصة مع ذيوع صيت وشهرة الكاتب, حيث يصبح النشر هو الهدف الأساس. فمهما كانت الصرامة التي تعتمدها الرقابات, ومهما كان الوفاء للتعليمات, فإن أية سلطة ليس باستطاعتها أن تضبط عملية النشر. لأن هذه العملية تولد الجمهور الذي يظل منفلتا من أكثر التحديدات السياسية صرامة وذلك بالضبط لما يتمتع به من عدم تحديد(9). في خضم هذه الشبكة من العلاقات المعقدة والمنفلتة, ينبعث القارئ الذي لا يأتي من خارج "اللعبة" كما يقول الأستاذ بنعبد العالي, هذا ما يجعل مفهوم القراءة نفسه محط نظر ونقد, إذ تصبح المسؤولية ملقاة أكثر على القارئ. فلا يقرأ –حسب دريدا- ذلك الذي يمتنع عن أن يضع رغبته في النص, ذلك الذي يرفض إخصاب النص وزرعه. هذا ما يدفع بنعبد العالي إلى نقد القراءة الميتافيزيقية/المنفعلة التي هي قراءة شارحة تحاول أن تنفذ إلى أعماق النص لإدراك الحقيقة التي يحملها والتي أودعها إياه كاتبه بعد أن دارت في خلده وجالت في فكره(10). فيما يعلي من شأن القراءة الفعالة المنتجة والمحولة التي تولد النص اللامكتوب الذي لا يكون مجال الكتابة إلا علامة عليه وعرضا من أعراضه. وتلك هي القراءة التي يدعوها نيتشه قراءة "مشخصة للأعراض", لأنها, حسب ألتوسير تكشف اللامنكشف في النص الذي تقرأه فترده إلى نص آخر حاضر بغيابه الضروري في النص الأول(11).
فهل يسمح الشرط التاريخي الراهن بتطور الكتابة والقراءة؟
ملاحظة الأستاذ بنعبد العالي حول "الحياة الفكرية" عندنا, أعتبرها دقيقة جدا, وتستدعي وقفة تأملية. فهي تحيلنا إلى قضية شائكة تعاني منها هذه الحياة, وأعني بها "انحطاط الكتابة والقراءة". فهل نذكر بأن هناك إجماعا قويا حول هذه القضية من كل الأطراف؟, أم نقول إن الأمر لا يستدعي ذكر هذه البداهة, مادام أن القضية انعكاس لواقع الانحطاط نفسه؟. فهذه الحياة الفكرية, لا تسمح حتى بتبويبها حسب قضايا وإشكاليات بالمعنى الدقيق لكلمة "إشكالية", أي بنية المفاهيم والإشكالات. ذلك إننا إزاء ومضات فكرية, فكل عنوان (قضية) لا تعمر في فكرنا أكثر من سنتين لتدع للعنوان (القضية) التي ستخلفها(12). لهذا أكد مارتن هايدغر منذ مدة, على الاهتمام الكبير بالكتابة كالتزام وجودي بالأنا والآخر اللذين هما مشروعان مؤجلان وسط المعرفة, ونبه إلى أن الفكر يحتم علينا اليوم أن نصمت حتى لا تتلاشى الفكرة وتضيع في ظرف سنة واحدة. ربما لأن التأثير الناتج عن فكرة لا يتحقق إلا بعد ثلاثمائة عام. وهي "النصيحة" نفسها التي قدمها نيتشه حين قال: "يجب عليك أن تكون خفيفا جدا لكي تدفعك إرادة المعرفة فيك إلى مثل ذلك البعد إلى ما وراء عصرك تقريبا, لكي تكتسب نظرة تعانق ألفيات ولكي ترى بها السماء صافية".
رهانات الكتابة والقراءة عند الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي:
أقصد بالرهان مجموع الممارسات التاريخية التي يمكن أن تفتح عملية الكتابة والقراءة على أفق أرحب من التفكير وإعادة النظر في كل أشكال الإنتاج الإبداعي والنقدي. فالرهان, الآن, هو تحطيم البديهيات والأفكار الكونية, والكشف ضمن عطالات الحاضر وإكراهاته, عن نقط الضعف, والمنافذ, وخطوط القوة. فعلى الكتابة أن تشكل اختيارا ونوعا من حجر الزاوية, كما يقول فوكو, لإخراج حركات الفكر إلى النور. وعلى القراءة أن تصير متشككة, تتهم المباشر وترفض البداهات, وتولد الاستعارات, هذه هي القراءة التي يدعوها بنعبد العالي بالقراءة الفعالة.
من هذا المنظور يتطلع الكاتب إلى كسب الرهان, عن طريق توضيح المهمات التي يجب أن تضطلع بها الكتابة والقراءة:
ـ رفع ضغط الكتابة: هو الرهان الأول للأستاذ بنعبد العالي, إذ حسب اعتقاده, ينبغي أن تكون الكتابة وليدة استنكار ورفض, أو بالأحرى, ينبغي أن تجسد هي نفسها انفجارا وتوترا بحيث يغدو نسيج العبارة التنافر والتأزم, ولا يمكن أن يتحقق هذا بطبيعة الحال, إلا إذا كانت الكتابة وليدة وعي شقي لا يرتاح إلى ما هو كائن, وإنما يسعى إلى أن يرفعه نحو ما ينبغي أن يكون(13). إنها كتابة، كما يقول الكاتب، شقية, لا من شدة استنكارها ونفيها, بل لقدرتها على الإثبات, إثبات الواقع "بما فيه من نعوت متناقضة" على حد تعبير نيتشه(14).
ـ القراءة: اللعب بالنص: هو الرهان الثاني للكاتب, إذ يؤكد على أن النص عمل وإنتاج وممارسة, وهذا يعني أنه يتطلب من القارئ مساهمة فعالة, فيقضي بذلك على المسافة التي تفصل الكتابة عن القراءة. إن النص يستدعي قارئا يلعب بالنص, بجميع المعاني التي تعنيها تلك الكلمة في اللغة الفرنسيةjouer(15).
ـ نظرة جديدة للثنائي مبدع/ناقد: على غرار عملية التفكيك التي لحقت الثنائي مؤلف/مترجم, والتي أعادت الاعتبار للمترجم, جاعلة منه مؤلفا, وجاعلة من المؤلف مترجما. يشير بنعبد العالي, في رهانه الثالث, إلى أن النقد, لم يعد ينظر إليه على أنه عمل ثانوي يأتي ثانية بعد عمل أول أولي, إنه ليس تنظيرا ثم تنظيرا للتنظير, بل هو في جوهره نقد(…), فالنقد اليوم ليس جانبا أو مرحلة أو وجها من وجوه الفكر المعاصر, وإنما هو جوهره وروحه(16).
إن إشكالية القراءة والكتابة عند الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي, تدفع القارئ إلى الذهاب أبعد من انتظار أجوبة شافية عن الإشكاليتين. فالأمر يتعلق بمساءلة عملية التفكير,أي معنى أن نفكر هنا والآن؟.
لا أخفي الصعوبة التي تطرحها ممارسة الكتابة وفق أسلوب النبذة (الشذرة), نفس الصعوبة يواجهها القارئ وهو أمام كم من النصوص المتعددة المضامين والمرجعيات. أعتقد أن هذه الصعوبة التي يواجهها الكاتب والقارئ هي الرهان الأقوى للأستاذ بنعبد العالي؛ فتفاؤل الفكر –كما يقول فوكو- هو أن يعرف بألا وجود لعصر ذهبي, وأن تفكر معناه أن تتبع دوما خطا سحريا (دولوز/كاتاري), معناه أن تحدث شقا في المظلة, أن تخرق السماء ليمر قليل من السديم الحر والمنطلق, أن تحدث خروقا وتجري التدميرات الضرورية (لورانس), معناه, أن يرتفع ضغط الكتابة, ويصبح وليد وعي شقي لا يرتاح إلى ما هو كائن, كتابة –كما يقول الأستاذ بنعبد العالي- متوترة حقا صادرة عن "علم مرح" ومعرفة إيجابية مثبتة, متجاوزة بذلك كل الكتابات الهادئة, الباردة, المنخفضة التوتر (الكتاباتذات النفحة الأخلاقية + الكتابات الوصفية التقريرية "الموضوعية"). فمهمة الكتابة والقراءة, هي تحرير الحياة من كل الأفكار المسبقة والمحنطة التي تخنقها, وتحقيق الانفلاتات الممكنة بهدف إبداع فكر جديد وحياة جديدة. ولا يعني الإبداع هنا خلق "التواصل" مع الجمهور أو بث الوعي أو تعييره, بل الصمود ما أمكننا. لكل هذا, على الكتابة أن تصبح فنا من الفنون, فالفن كما يقول ادمونت وايت ليس وعدا بالنعيم, ولا تأملا غير مهتم, بل الأمر يتعلق بمدى استطاعتنا أن نترك الأحجار وراءنا فيما نتوغل في عتمة الغابة. إنها الهجرة والترحال والتيه والانفصال, سمات الكائن الغني بالوفرة والحيوية الذي يستطيع رؤية ما هو مريع وإشكالي, لكن كذلك أن يقوم بعمل مريع وأن ينكب على ترف الهدم والتفكيك والنفي (نيتشه).
إنه الدرس النيتشوي بامتياز, نستطيع أن نتمثله بواسطة "هبة ريح" تدفعها كتابات الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي في اتجاهنا:
أن نتعلم أن نفكر: ليس لمدارسنا أدنى فكرة عما يعنيه ذلك n
(1) عبد السلام بنعبد العالي: أسس التفكير الفلسفي الأوربي المعاصر, مجاوزة الميتافيزيقا. تحت إشراف الأستاذ محمد عابد الجابري, جامعة محمد الخامس, كلية الآداب والعلوم الإنسانية, الرباط, 1990.
(4) فريدريك نيتشه: أصل الأخلاق وفصلها. ترجمة حسن قبيسي, المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع, بيروت-لبنان, ص15-16.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.