1
في فصل بكتاب: "تغطية الإسلام"، حاول إدوارد سعيد أن يدلل ظاهراً على نقيض الفكرة التي جهد لإثباتها في "الاستشراق". قال سعيد: إنّ المستشرقين ما خانوا المصادر التي دخل من خلالها الوعي الأميركي بالإسلام. بل إنّ هذه المعرفة مهما بلغ من ضآلتها وتشوشها إنما جاءت بسبب الربط بين الإسلام والقضايا المهمة إعلامياً كالنفط أو إيران أو أفغانستان أو الإرهاب. ويرجعُ ذلك لأمرين: فالمختصون لا يقرؤهم غير المختصين، ثم إنّ أكثرية المستشرقين ما كانت ذات مستوى فكري متميز بحيث تصبح آراؤهم ملحوظة. وباستثناء كتاب مارشال هودجسون: "مغامرة الإسلام" ما كان هناك –بحسب إدوارد سعيد- كتابٌ علميٌّ شاملٌ عن الإسلام وحضارته في مكتبات الولايات المتحدة حتى مطلع الثمانينات(1).
لكنه، حتى وهو يحاول (في كتاب: الاستشراق) أن يثبت سواد "الرؤية الاستشراقية" للشرق، أي الصورة الناجمة عن الامتلاك الاستعماري، ما كان يذكر الذين نعرفهم تحت هذا المصطلح من المختصين بفيلولوجيا اللغات الشرقية، وتاريخ الشرق؛ بل يذكر أمثال الروائي فلوبير وكرومر وآرثر بلفور ولورنس ولامارتين وكامي ودزرائيلي وكونراد وكبلنغ. وهؤلاء سياسيون وشعراء وروائيون وموظفون استعماريون، وقد تشاركوا جميعاً وتعاقبوا عبر قرنين من الزمان في صنع الشرق المستعمر أو الصورة عنه. أما المستشرقون (بالمعنى المتعارف عليه) من سلفستر دي ساس وإلى فستنفلد وماكدونالد وغولدزيهر.. وشاخت وهو رغرونيه وماسينيون وهاملتون غب - فليسوا أكثر من كاريكاتير أوأنهم قاموا بجهودٍ "شبه علمية" لتثبيت الصورة المصنوعة أو بلورتها منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحتى ستينيات القرن العشرين. فالاستشراق عقليةٌاستعمارية إذا صحَّ التعبير، وليس تخصُّصاً لأنّ المتخصصين ما صنعوهُ أو طوروهُ، بل هم عملوا واعين أو غير واعين في خدمة سلطان القوة، واضعين على وجوههم أقنعة الأكاديمية والمعرفة!
ومع ذلك؛ فإنّ بين المستشرقين (الهامشيين أو المهمَّشين في الثقافة الغربية، وفي التأثير) أشراراً لا يمكن التغاضي عنهم أو المغفرة لهم. وإدوارد سعيد يمثلُ لهذا الصنف بعدة شخصيات أهمها إدوارد لين وإرنست رينان قديماً، وبرنارد لويس وغرينباوم حديثاً، وبين هؤلاء الأوباش شخصيتان إشكاليتان هما لويس ماسينيون وهاملتون غب. وتطوف من حول المحاور الثلاثة شخصياتٌ أكاديمية كثيرة تقترب إلى هذه الدرجة أوتلك من أحد الأقطاب طوال المائة عامٍ الأخيرة. يرى سعيد أنّ المؤسِّس للاستشراق "العلمي" كان سلفستر دي ساسي. أمّا رينان فهو ممثل الاستمرارية، وهي استمراريةٌ أثريةٌ إذا صحَّ التعبير، لأنها تستند إلى حفريات اللغة ودثائرها. فاللغة لدى رينان والفيلولوجيا (علمها): "هو العلمُ الدقيقُ للموجودات الذهنية. وهو يقومُ من العلوم الإنسانية مقام الفيزياء والكيمياء من العلوم الفلسفية"(2). وهنا تحدثُ الواقعةُ التي تتجوهرُ عندها الأشياء، فاللغة أو فقهها ليس أداةً للتاريخ، إدراكاً وتدويناً وحسب؛ بل يكاد التاريخ أن يكونَ أداةً لها. وبذلك تستحيل الفكرة التطورية التي سادت النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ليس في فهم التاريخ وحسب؛ بل في سائر حقول علم الإنسان. وليس من همّنا هنا دراسة كيفية التحاق علم اللغة بوضعانية أوغست كونت؛ بل المهمُّ –في نظر إدوارد سعيد- كيف أثرت هذه الرؤية في شلّ علم التاريخ أو تجميده جزئياً في المجال الشرقي الاستشراقي على الأقل. كان الانتباهُ متوجهاً إلى الضربات التي وجهها علمُ اللغات إلى إلهية اللغة (اللغة العبرية على الخصوص)، لكن الإصابة نزلت أيضاً بالساميين أنفسهم بوصفهم بشراً. فمن خلال علم الساميات المقارن راح رينان يصدر أحكاماً على الإنسان السامي. وهكذا صار العرقُ السامي عرقاً غير مكتمل... فهو يفتقر إلى ذلك التنوع، وذلك الثراء الذي يعرفه العرق الهندو- أوروبي... والأمم السامية لم تعرف إلا جردة ضئيلة من الإبداع المخصب.. هي أممٌ في حالة تثبيت طفولي، كما تدل على ذلك بدائية لغاتها(3).
2
يصل إدوارد سعيد بعد قراءة طويلة في كتب رينان عبر خمسين عاماً، واقتباسات دالة منها على أنّ السياسيين الاستعماريين أفادوا من بحوث رينان، كما أفاد هو من التقدم في العلوم الطبيعية والاجتماعية. لكن هل يمكن بعد هذا الاستنتاج اعتبار رينان هامشياً ومقلداً؟ سعيد حاسمٌ لجهة أهميته في علمنة "فقه اللغة"، وعلمنة "حياة المسيح"، وتمركزه ضمن "التقليد الرئيسي" للعلم الاجتماعي والتاريخي الفرنسي. فهل يمكن القولُ إذن بأنّ الاستشراق تحول أواخر القرن التاسع عشر إلى "تخصص"؟ "نعم"، و"لا". نعم من حيث تحديد ذاك العلم بوصفه قائماً على فقه اللغة والتاريخ، أو اللغة التي تتخذ من التاريخ أداةً لها! وأما "لا" فتأتي من أنّ الصورة أو الوظيفة التي وضعها المستشرق لنفسه، ما كانت من اختراعه، ولا بقيت مصونة وراء أسوار الأكاديميات، كما أنّ "الاستشراق" ظلَّ كلَّ شئ من تاريخ الهند وإلى تاريخ الفراعنة، فاللغات السامية، وفلسفة الحياة الصينية، والديانات الأسيوية الكبرى!
بيد أنّ إشكاليات التقليد والمؤسسة تتعرض للتصدع عندما نصل مع إدوارد سعيد إلى سيرة وإنتاج الشرير الأكبر برنارد لويس! يصل إدوارد سعيد للقبض على لويس من خلال مقالة لفاتيكيوتس ضد اليسار وأفكاره الثورية. ويكون علينا هنا أن نلاحظ أنّ "إدوارد سعيد" يهاجم في فاتيكيوتس ولويس ما ليس استشراقياً بالتحديد. ثم إننا معهما نكونُ قد تجاوزنا الحرب العالمية الثانية ودخلنا في الحرب الباردة، وهذان يمثلان الوجه اليميني والكريه والرجعي لها. فاتيكيوتس يستشهد بمقالةٍ للويس عن "الثورة"، وأنّ المفرد يستدعي بالعربية الهياج والثوران والثور، وإثارة الفتنة(4). ولأنّ "لويس"، المعادي بالتأكيد للثورية العربية، يسرف في إيراد التعبيرات المعجمية التي تعنيها كلمة (ثورة)، ويذكر من بينها: "ثار الجمل إذا نهض"؛ فإنّ سعيداً يفقد صبره معه، ويقول: إنه يريد من وراء ذلك تحقير العرب، والإلماح إلى قصورهم عن القيام بأي عمل جادٍ وصولاً إلى اتهامهم بالعجز الجنسي(5)! والواقع أنّ "لويس" ليست المشكلة معه كراهية العرب ولا الإسلام، لكنه يمينيُّ صهيونيُّ، كان ينعى على العرب عندما كانت القومية العربية هي أيديولوجيا الصراع مع إسرائيل، وهو ينعى الآن على الأصولية الإسلامية؛ لأنها صارت بدروها معتقد المواجهة. بيد أن تكتيكاً جديداً داخل فكره في التسعينات، فهو الآن يسرف في امتداح الإسلام الكلاسيكي والعثماني، ويذهب إلى أن المسلمين المحدثين هم الذين أساءوا، وليس الإسلام! وهكذا فإدوارد سعيد يدين "لويس" وبحق بسبب موقفه السياسي المنحاز وغير الإنساني في الصراع بين العرب وإسرائيل، وقبل ذلك في موقفه من الاستعمار الذي يعتبر أنه كان خيراً على العرب مقارنة بحكوماتهم الثورية والتوتاليتارية المتحالفة مع الاتحاد السوفياتي. على أنّ "لويس" شأنه في ذلك شأن أستاذه هاملتون غب لا يحب أن يسمى نفسه مستشرقاً، بل يقول: إنه مؤرخٌ مهتمٌ بالشرق الأوسط أو مختصٌّ بتاريخ هذه الناحية من العالم. بيد أنّ أحكامه القيمية بدت أكثر فجاجة لإيثاره "التاريخ الثقافي" على "التاريخ السياسي"، وميله في كتاباته إلى نمط المستشار والخبير، وليس الأكاديمي الصرف، وإن لم يستشره أحدٌ فيما يبدو إلا بعد 11سبتمبر 2001م.
وإذا كان إدوارد سعيد واثقاً من رؤيته لبدايات "الاستشراق" السلبية مع أمثال وليم لين ورينان، ولتطوراته العصرية مع غوستاف فون غرينباوم وبرنارد لويس- فإنه ليس كذلك بالنظر إلى مرحلته الوسطى –إذا صحَّ التعبير- مع هاملتون غب ولويس ماسينيون. هاملتون غب، البريطاني، المولود بمصر- نموذجٌ لابن المؤسسة الأكاديمية الإنجليزية، وللحفاظ على تقاليدها. وإدوارد سعيد معجبٌ بنزاهته ودقته في أحكامه، لكنه لا يحب مؤسسته ولا سلطته المرجعية البارزة(6). كما لا يحب له احترامه للتقليد الكلاسيكي الإسلامي. ولكي يكون واضحاً ما أقصدهُ أذكر رأي غب في تقدم الفقه في الاعتبار على علم الكلام لدى المسلمين من أهل السنة، كما أذكر رأي غب في التطورات الحديثة لحياة المسلمين الاجتماعية والثقافية، وكيف أنها غريبة عن التقاليد الإسلامية الأصيلة(7). إدوارد سعيد يرى ذلك كله كلاماً فارغاً أو متحذلقاً أو واهماً من جانب غب التقليدي، الذي يملك صورة ثابتة واستشراقية عن الإسلام والشرق. ولست أرى في الأمرين، سواءٌ أكانا صحيحين أم مخطئين حرجاً ولا مذمةً ولا عقلية استشراقية من نوعٍ خاصّ. وإذا تجاوزنا هذه النظرية الأولية نجد أنّ الحكم الأول بتقدم الثقافة الفقهية على ما سواها في الإسلام السني الكلاسيكي صحيحٌ إلى درجةٍ كبيرة، وهكذا لا يستحق غب ولا هو رغرونيه أو شاخت الإدانة أو التخطئة من أجل ذلك. ثم إنّ الفقه المصعد عقدياً هو السائد في الإسلام الأصولي المعاصر أيضاً. وبذا يكون سخط إدوارد سعيد هنا منصباً في الحقيقة على الإسلام السني الأكثري الذي يزعجه بتقليديته، كما أزعج الإصلاحيين والسلفيين المتشددين في العصور الحديثة على حدٍ سواء. فالصورة "التقليدية" لإسلام مرتبٍ وهانئٍ ومنفتحٍ ومطمئنٍ إلى نفسه وقدراته أثارت إعجاب غب الارستقراطي البريطاني، بقدر ما أثارت سخط إدوارد سعيد الطليعي النخبوي الثوري. وهكذا يكون مفهوماً لماذا يتأمل غب زوال ذلك الإسلام بحزن وأسىً، في حين يعود سعيد لاتهام غب بالنوستالجيا والاستشراق لأنه أسي على ذلك الإسلام المنقضي. وقد كان الإنجلوسكسونيان هاملتون غب وولفريد كانتويل سميث في الخمسينات مترددين بشأن قدرات الإسلام التحديثية أو إمكان تجديد التقليد الإسلامي. والواقع أنّ الأمرين مختلفان. فالرجلان ما كانا يقولان بوجود ثابتةٍ جوهريةٍ يتمحور حولها الإسلام، ويضيعُ بتحطمها أو ضياعها. لكنهما كانا يشهدان فوراناً إسلاميّاً بالهند وإندونيسيا والمشرق العربي، لا تستوعبه محاولات تجديد تقاليد المذاهب الإسلامية. بل إنّ سميث (الذي كان يراقب متغيرات الإسلام الهندي) تنبه إلى أنّ هذا "القلق" الإسلامي يقطعُ على نحو ما مع التقليد بطرائق تذكر بالأصوليات البروتسانتية. وقد أزعجت تلك الثورية الإسلامية القاطعة كلاً من سميث (أستاذ الدين المقارن)، وغب (المؤرخ والمستشرق)؛ في حين كان التخوف من الثورية لديهما مبرراً للإدانة والاتهام بالاستشراقية من جانب إدوارد سعيد.
ولندع أكاديمية غب الهادئة، وثقافة الحرب الباردة لدى لويس للحظات، لنتأمل المستشرق الإشكالي الآخر الذي كان مثار إعجاب إدوارد سعيد، أعني لويس ماسينيون ماسينيون الذي حضر دروس إرنست رينان في شبابه كان شيئاً آخر تماما! فهو المثقف المتضلع بلغاتٍ كثيرة، والمتناول من شتى العلوم بطرف، والعميق بكاثوليكيته، تقلب بين الأديان والثقافات والتقاليد الروحية، وآمن بالتقليد الروحي الإبراهيمي المؤاخي بين الديانات الثلاث المتنافرة. وكتب في كل شيء له علاقة بالإسلام من خطط الكوفة وإلى استشهادية وصلب الحلاج. عالي الحساسية ودقيقها، متوقد الوعي، ورافقه طوال حياته قلقٌ روحي غلابٌ يتدفق فيصل إلى العذاب المرّ أو الطمأنينة الحالمة(8). وقد أعجب إدوارد سعيد فيه كلَّ ما أزعجه في هاملتون غب دون أن يتخلى عن النزاهة أو الأكاديمية. ما ذكر سعيد مثلا أنّ ماسينيون عمل في شبابه مع المخابرات والسلطات الفرنسية بالمشرق. وتصارع مع غرترودبل على العراق مع أنّ تلك السنوات من حياته هي التي وضعته في تماس مع لورنس العرب، كما قيل، والذي كان بدوره يعمل للسلطات الاستعمارية البريطانية. بيد أنّ هذا ليس وجه الشبه الوحيد أو الرئيسي بينهما، بل هو القلقُ الروحي الغلاب الذي يدينه سعيد لدى لورنس، ويقدره لدى ماسينيون. ماسينيون تمرد على المؤسستين: السياسية والأكاديمية، وظل مرجعية كبرى لديهما وفيهما. بينما لفظت المؤسسة البريطانية لورنس، ومات منزوياً في حادث لو لم ينزل به لانتحر ولا شك. وكما أطربت سعيداً في ماسينيون تمرداته على المؤسسة - أطربه فهم ماسينيون التجاوزي للإسلام. كما أعجبه خروج الرجل على السننية السنية من طريق الانغمار في روحانيات وشطحات وانتحاريات المتصوفة والمجذوبين وشهداء العشق الإلهي والقمع السلطوي. لكنْ ما لا يعرفه سعيد عن ماسينيون أنّ الرجل كان معجباً بالورعية الحنبلية المتشددة بقدر إعجابه بتهويمات الشبلي والحلاج وابن سبعين! فالإبراهيمية عند اليهود والمسلمين نصٌّ وتقليد، وعند المسيحيين نصٌّ متجسد، وما كان بوسع ماسينيون أن يضيع أحد الركنين أو يتجاهله، وإن ظلت عواطفه مع الروح المتجسد! وماسينيون عند إدوارد سعيد لا يخضع للأحكام التي يمكن للمرء أن يصدرها على الاستشراق، لكنه ما كان ليصل إلى تلك الآفاق المجهولة، لو لم يبدأ مستشرقاً.
3
حدد إدوارد سعيد "الاستشراق" باعتباره ذلك التبادل الحيوي بين مؤلفين أفراد وبين المؤسسات السياسية الواسعة التي شكلتها الإمبراطوريات الكبرى الثلاث: البريطانية والفرنسية والأميركية، التي أنتجت الكتابة الاستشراقية ضمن حدودها الفكرية والتخيليـة(9). وهو أراد أن يثبت في كتابه عنه أن الإسلام قد صور جوهرياً تصويراً سيئاً في الغرب(10) (من خلال الاستشراق؟) وهذه السياسات الإمبراطورية المستمرة من نوعٍ ما هي السبب الرئيسي في العلاقة الفاسدة فساداً سرطانياً بين "الشرق" و"الغرب"، لكنْ ما دورُ الاستشراق في ذلك؟ وعندما نسأل عن دور الاستشراق فنحن نعني به بالتحديد التخصص الأكاديمي الكتابي المعروف، أو ما آل إليه وأوشك أن يكتمل عنده ما بين منتصف القرن التاسع عشر، ومنتصف القرن العشرين. وهو التخصص الذي يتخذ من الفيلولوجيا والتاريخ أساسين للعمل الأكاديمي في تصوير الحياة والثقافة في حضارة المشرق في القديم في الأصل، واستطراداً حتى مشارف العصور الحديثة. ولأن إدوارد سعيد يكرهُ النمذجة على طريقة ماكس فيبر (1864-1920م) لم يلتزم إلا بالتحديد العام: العقلية الاستعمارية، والتبادل الفعال بين الأفراد والمؤسسات السياسية. لكنه قال: إنه مهتم بالدرجة الأولى أو بالجزئيات وبالبحث الميداني في التفاصيل، والتفاصيل الدقيقة. وفي التفاصيل الدقيقة نصل إلى نوعٍ من الاستقراء الناقص يتنوعُ فيه "الاستشراق" بقدر ما يتنوع الأفراد، وتتنوع كتاباتهم. وهنا ندخل في البحث عن الجدلية الحوارية بين الوعي والنصّ والواقع. الواقع –كما يقول سعيد- تمثيل وتصوير، وهكذا فهو شكلٌ من أشكال الوعي؛ يزيد من تعقيداته إعادة تركيبه من خلال نصٍ فيه المسكوت عنه واللا مفكر فيه. بل إنّ النصًّ لدى إحدى مدارس النقد الأدبي قناع. ولذلك هناك سؤالان أو استشكالان على نص إدوارد سعيد في "الاستشراق": طبيعة "المعرفة" الاستشراقية الأكاديمية، ودور تلك "المعرفة" في سوء علاقة الغرب بالشرق. فبالنسبة للاستشكال الأول يبدولي أنّ للمعرفة شروطها وإرغاماتها. ولو تحدثنا عن مصادر المعرفة (الاستشراقية) في نطاق الإسلام الكلاسيكي مثلاً لوجدناها تستند إلى المصادر الأصلية التي تكتمل تدريجياً مع التعرف على المخطوطات العربية ونشرها الكثيف من جانب المستشرقين طوال أكثر من قرن. وهذا جانبٌ مهم لم يتناوله سعيد بالدراسة مع تأكيده على أهمية الفيلولوجيا في الاستشراق. بل إنَّ الأمر تجاوز ذلك كما هو معروف ليشمل كلَّ العلوم التاريخية في القرن التاسع عشر، والتي استندت إلى الفيلولوجيا، وفقه اللغات الهندوأوروبية، واللغات السامية.. إلخ. والألمان، مؤرخين ومستشرقين، أهمُّ حملة المنهج التاريخاني، وقد تجاهلهم إدوارد سعيد تجاهلاً شبه تام. وبذلك ازداد نقص الاستقراء عنده، ليس لأنه لا يعرف الألمانية؛ بل لأسباب تتعلق بمنهجه ذي الخطوتين الأساسيتين: جدلية السلطة (الاستعمارية هنا) والمعرفة، ونقض الموروث (العلمي) الاستعماري (ليس في الاستشراق فقط بل في الأنثروبولوجيا والأدب والفلسفة والتاريخ والدين). فالسلطة –بحسب فوكو- تحدّد المعرفة أو المعارف إلى حد كبير، والمعرفة المنتجة بالشروط السلطوية تعود لتشارك في تحديد الوعي والتصرف. وقد افتقد الألمان (في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على الأقل) أحد ركني هذه الجدلية، حيث كانوا منهمكين ليس في بناء إمبراطورية خارجية بالدرجة الأولى، وبذلك فإنّ الإشكالية التي كانت مختلفة إلى حدٍ ما لدى البريطانيين والفرنسيين من جهة، والألمان من جهةٍ ثانية آنذاك، فقد رأى سعيد أنه من الملائم لأطروحته: سلطة/ معرفة الاستشراق، أن يتجاهل الألمان باستثناء المرور العابر على أسماء بعض مشاهيرهم مثل رانكه وبيكر.
ودعونا نعتبر أنّ الفيلولوجيا تقنية وأداة، وليست أيديولوجيا، مع أنها كانت أكثر من ذلك كما يلاحظ سعيد لدى دي ساسي ورينان وغيرهما. فماذا عن الثقافة والوعي؟ لقد كان المستشرقون الأوائل (ألماناً وغير ألمان) أوروبيين في الثقافة والوعي، وفي فهم التاريخ ومعناه ووظائفه، وفي ارتباط ذلك بالدولة سواءٌ في تاريخهم للرومان أو للإمبراطورية الرومانية المقدسة أو للمسلمين. وبسبب ارتباط التاريخ أو الكتابة التاريخية بالدولة، نجد أنّ الاستشراق (العلمي) نشأ في فرنسا (على يد دي ساسي)، وفي بريطانيا على يد "إدوارد لين" حيث كانت كلٌّ من فرنسا وبريطانيا تنشئ إمبراطورية تحتاج في استكشاف آفاقها، وإدارتها إلى معرفة. ونحن نعلم أنّ فلايشر وفيشر -المستشرقان الألمانيان الكبيران ذهبا إلى باريس للدراسة عند سلفستر دي ساسي، الذي درس عليه رفاعة الطهطاوي أيضا. كما نعلم أن سنوك هو رغرونيه أحد أهم المستشرقين الهولنديين، كان خبيراً لدى سلطات بلاده الاستعمارية، في إندونيسيا. وهكذا، ألا يتيح ذلك لإدوارد سعيد ولنا اعتبار الاستشراق (بالمعنى الأكاديمي، وليس بمعنى العقلية العامة) مثل الأنثروبولوجيا، علماً استعمارياً؟ بحيث نستطيع ممارسة النقد الاستعماري عليه بالمعنيين: معنى المعرفة/ السلطة، ومعنى الوعي العام بضرورة إنتاج نصوص ذات توظيف خاص؟! إدوارد سعيد يكرر في ثمانية مواضع من كتابه أن المستشرقين الأكاديميين كانوا هامشيين ومتخلفين باستمرار تقريباً ولجهتين: لجهة مناهجهم العلمية، ولجهة مواقعهم الثقافية والسياسية في بلدانهم. فالمؤثرون والمتميزون في الاهتمام بالشرق كانوا غالباً من السياسيين الاستعماريين أو الرحالة أو المبشرين أو الرومانسيين من الروائيين والشعراء والرسامين. وقد أنتج هؤلاء معارف وإبداعات كانت لها علائق فعلاً بالسلطة (السياسية والمعرفية). وإذا تركنا تهمة التخلف والجهل التي يؤكد عليها سعيد، جانباً - نجد أن الهامشية الأكاديمية تعطي حرية معتبرة وإن تكن نسبية طبعاً، بسبب ضعف الرقابة أو انعدامها.
بيد أن الأجواء الثقافية العامة تظل حاسمة التأثير، وهذه تتصل بالوعي وبالثقافة، لا بالدولة وسياساتها في الغالب. وهكذا فإذا لاحظنا وعلى مدى مائة عامٍ تقريباً ما بين أبراهام غايغر (1837م)، وفلهام رودلف (1927م)، بل بعد ذلك، رفض اعتبار القرآن كتاباً مستقلاً يمكن فهمه بتأمله داخلياً؛ فإن ذلك يعود للثقافة والوعي، وليس للنظرة الاستعمارية أو التمييزية الاثنية، وكذا الأمر في الكثير من الأطروحات الأخرى التي ظلت سائدة لزمن طويل رغم توافر المصادر، والتقدم في مناهج القراءة والمناهج التاريخية الجديدة. وإدوارد سعيد الذي يصدر أحكاماً شاملة أحياناً، يصغي أحياناً أخرى لوقع وقائع الخصوصيات والفرديات؛ من مثل ما تصرف به إزاء موضوع دراسته المحبب كونراد، وإزاء ماسينيون.
تبلغ العلاقات بين الغربين الأميركي والأوروبي من جهة، والعرب والمسلمين من جهة ثانية إحدى أكثر مراحلها خطورة وتوتراً. وفي ظروف كهذه يكون من المفيد (بل من الضروري) القيام بكشف أو جردة حساب. وهذا ما حاول إدوارد سعيد القيام به في كتابيه المهمين: الاستشراق (1978م)، والثقافة والإمبريالية (1993م). بيد أن "الاستشراق" ولا شك ليس العامل الثقافي الأول أو الثاني أو الثالث في توتر العلاقة وفسادها. وقد ظل نقاد الثقافة الاستعمارية يتناقشون طوال أكثر من خمسين عاماً في ماهية الاستشراق الأكاديمي هذا، وهل هو تخصص أو فرع من فروع الدراسات التاريخية. والمعروف أن خصوصيته في الأساس ما جاءت من ارتباطه بالاستعمار أو بالمعرفة الضرورية للمستعمرين؛ بل من ارتباطه بفقه اللغات السامية، ثم من صعود فكرة المجالات الثقافية المستقلة (الانثروبولوجيا الثقافية)، فدراسات المناطق. وبعد كتاب إدوارد سعيد الإداني الماحق ما عاد أحدٌ يريد أن يسمى مستشرقا وبخاصة الشبان الذين يدرسون الآداب العربية، أو يقدمون قراءات جديدة للنص القرآني أو الكتابة التاريخية العربية أو الفنون الإسلامية أو الحركات الإسلامية الراهنة.
في محاضراته المجموعة في كتيب بعنوان: "تعقيبات على الاستشراق" يشير إدوارد سعيد إلى برنارد لويس ومايكل كوك وباتريشيا كرون ومارتن كريمر ودانييل بايبس في سياقٍ واحد(11). والواقع أن برنارد لويس تاريخاني من المدرسة الاستشراقية الكلاسيكية، أما تلامذته هؤلاء وغيرهم فهم من آخر، وهم يسمون أنفسهم نقديين جذريين. لقد انتهى الاستشراق التاريخاني، وإدوارد سعيد أحد أولئك الذين أسهموا في إنهائه؛ بالإضافة لثورة العلوم الاجتماعية، والعلوم التاريخية، وحاجات الدول إلى الخبراء والمستشارين المباشرين فعلاً، وتصاعد موجات العداء للعرب وللإسلام. إن ما نشهده في العقدين الأخيرين من دراسات حول الإسلام القديم والحديث يشكل بمجمله تحولا من الاستشراق التاريخاني إلى الأنثروبولوجيا. وإرنست غلنر الذي لا يحبه إدوارد سعيد، هو أحد أولئك الرواد المنظرين للمستشرقين الجدد، أولدعاة أنثروبولوجيا الإسلام. وما كان الاستشراق التاريخاني بالغ العظمة بحيث يستحق الترحم عليه؛ لكن مناهج أنثروبولوجيا الإسلام، والتي حمل عليها طلال أسد منذ زمن طويل، تنذر وسط الظروف الراهنة بأن تكون مطيـة لدعاة "الحرب على الإسلام" في الغربين الأميركي والأوروبي(12).
****************
الهوامـش:
1) إدوارد سعيد: تغطية الإسلام. ترجمة سميرة نعيم خوري. مؤسسة الأبحاث العربية، 1983، ص47-48. وقارن ص، 38-40 حيث يجري الحديث هناك عن ف.س.نيبول. ويتحدث سعيد مرةً أخرى عن نيبول في: تأملات حول المنفى. ترجمة ثائر ديب، الجزء الأول، دار الآداب، ص87-92، وثالثة في: الثقافة والإمبريالية، ص321-322.
2) الاستشراق، المعرفة، السلطة، الإنشاء. ترجمة كمال أبو ديب. مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1981، ص153. وقارن عن علاقة رينان الأفغاني من وجهة نظر سعيد: الثقافة والإمبريالية، مرجع سابق، ص319-320.
3) الاستشراق، مرجع سابق، ص164-168.
4) يخطئ المترجم كمال أبو ديب هنا فيذكر العجي، والمقصود به عند لويس: عضد الدين الإيجي صاحب "المواقف العضدية" في علم الكلام (الاستشراق، ص312).
5) الاستشراق، ص312-317. ويعود سعيد لذكر لويس في: تعقيبات على الاستشراق، ترجمة صبحي الحديدي، بيروت 1996، ص116-120.
6) وقارن بالثقافة والإمبريالية لإدوارد سعيد، ترجمة كمال أبو ديب، الطبعة الثانية، 1998، ص368-370 حيث يثني على مشروع أدونيس الثوري في قراءة التراث، ومصارعة "التقليد المتحجر"!
7) الاستشراق، ص276-284.
8) الاستشراق، ص267-276.
9) الاستشراق، ص49.
10) الاستشراق، ص274.
11) تعقيبات على الاستشراق، مرجع سابق، ص63-64.
12) قارن بدراستي: من الاستشراق إلى الأنثروبولوجيا؛ في كتابي: الصراع على الإسلام، بيروت 2004، ص105-119.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.