قراءة في فكر محمد الطالبي ـ بقلم: هاشم صالح
يعتبر الدكتور محمد الطالبي أحد أعمدة الفكر في تونس. وهو ينتمي إلى الرعيل الأول الذي أسس الجامعة التونسية الحديثة وساهم في تعريب التعليم وترسيخ القيم الإسلامية الأصيلة. ولد الأستاذ الطالبي عام 1921 في العاصمة التونسية من أم ترجع بالنسب إلى بلاد الخلافة العثمانية، وأب جذوره في الجزائر.
وهذا أكبر دليل على أن العالم الإسلامي كان امتداداً واحداً في فترة من الفترات. ويقول في كتابه المنشور تحت عنوان: «عيال الله. أفكار جديدة في علاقة المسلم بنفسه وبالآخرين» ما يلي: كيف يأسف لفائت من حياته عبورا نحو الله؟ كل حياة، طالت أم قصرت، لا تعدو أن تكون مسيرة وعبوراً، برزخاً يبدأ في عالم الشهادة ويفضي إلى عالم الغيب.
نزلت إلى الوجود الجزئي في الزمان المقدر والمكان المحدد، ولا أدري متى سأرتفع إلى الوجود الكلي، فانتقل من الحياة المحدودة بحدود الجسد والمكان والزمان إلى الحياة المطلقة والكاملة بدون حدود، (وما تدري نفسٌ ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت، إن الله عليم خبير) سورة لقمان.
ثم يتحدث الأستاذ الطالبي في نفس الكتاب عن ذكرياته الأولى في عهد الطفولة ويقول أن علاقته الأولى باللغة العربية لا تعود إلى المدرسة، بل هي متجذرة في عائلته، لأنها كانت عائلة عريقة وأصيلة إلى حد كبير. فتعلُّم العربية فيها يكاد يكون أمراً طبيعياً ينشأ عليه الطفل منذ البداية. ويبدو أنه ولد في بيت علم وأدب وأخلاق إسلامية. ونشعر بالتأثر عندما نسمعه يتحدث عن ذلك العهد البعيد مصوراً الجو العائلي لأسرة تونسية تعود إلى مطلع القرن.
ونرى الكثير من التشابه بين عائلته العربية ـ الإسلامية والكثير من العائلات الأخرى في سوريا أو مصر أو الخليج العربي أو المغرب، الخ.. كل العائلات العربية ـ الإسلامية تتشابه من حيث الاهتمام الشديد باللغة العربية، وتعليم مبادئ الدين القويم، والتركيز على الأخلاق الحميدة. يقول الطالبي مثلاً:
وكنت عندما أعود إلى البيت أجد نفس الجو: أناساً يقرأون القرآن ويرتّلونه. فالأسرة في تلك الفترة ليست أسرة فردية، وإنما تجمع في بيت واحد الجد وأبناءه وأحفاده. كانت الأسرة كبيرة من حيث العدد، وكنت حين استيقظ فجراً أسمع جدي يرتّل القرآن. فقد كان يغادر فراشه في الفجر، يتوضأ ويصلّي، وكذلك كان يفعل عمي. بل إن عمي في آخر حياته كان في مرتبة شيخ للطريقة القادرية، علماً وأن عائلتنا كلها كانت عائلة قادرية.
وكان صحن الدار يتحول في فصل الصيف مسجداً يقوم فيه العم أو الجد أو أي إنسان آخر رافعاً الصلاة ليصطف الجميع وراءه تلقائياً دون قهر أو ضغط أو إكراه. وقد وجدت في مكتبة جدي نفائس عديدة. مقامات الحريري مثلاً عرفتها في مكتبته، وكذلك أمهات التفاسير، مثل تفسير الرازي وغيره.
من منّا لا يجد نفسه في هذا التصوير لبيئة الطفولة الأولى؟ بالطبع فهناك خصوصية للوضع التونسي وهي التواجد المكثف للثقافة الفرنسية واللغة الفرنسية هناك. فهذا شيء لا نعرفه في المشرق العربي. ولكن العائلات العربية ـ الإسلامية كانت تحرص على تعليم التراث لأبنائها، قبل أن تستلمهم المدرسة الفرنسية.
وعلى هذا النحو لا يضيعون، بل يظلون مرتبطين بلغتهم وقيم دينهم وتراثهم. وهذه الجدلية الصراعية القائمة بين الثقافة العربية، والثقافة الفرنسية هي التي تشكل خصوصية الوضع التونسي، وربما المغاربي ككل (ما عدا ليبيا بالطبع). يقول الأستاذ الطالبي: إن ما تعلمته في المدرسة كان فرنسياً محضاً. أما العربية فقد أخذتها في البيت أولاً، وفي الكُتَّاب ثانياً، علماً أننا كنا نتعلم لغة الضاد في المدرسة على أنها لغة ثانية، يدرسها لنا أساتذة فرنسيون...
ولكن الوضع تغير بالطبع بعد الاستقلال حيث عادت العربية لكي تحتل المكانة الأولى في عرينها الأصلي. وبالتالي لم يستطع نظام الحماية الاستعمارية أن يقضي على الخصوصية العربية ـ الإسلامية على الرغم من كل محاولاته. صحيح أن الأساتذة كانوا لا يزالون فرنسيين في معظمهم حتى فترة ما بعد الاستقلال. ولكن الكوادر الوطنية راحت تتشكل شيئاً فشيئاً لكي تحل محلهم تدريجياً.
يقول الأستاذ الطالبي متحدثاً عن دور جامعة الزيتونة في الحفاظ على القيم العربية ـ الإسلامية: إن الزيتونة أدت وظيفة أساسية في فترة الحماية، فقد كانت المعقل الذي تكسَّرت عليه أمواج التغريب. هذا أمر لا نزاع فيه. لكن كنا نود لو كان هذا المعقل في مستوى العصر. فهو مع الأسف حصن بال ثبت رغم ذلك وأعان على الحفاظ على الشخصية التونسية في مواجهة التغريب.
بمعنى آخر فإن الزيتونة لعبت نفس الدور الذي لعبه الجامع الأزهر في مصر، أو جامع القرويين في تونس، أو الجامع الأموي في دمشق الخ. لقد ساهمت الزيتونة في الحركة الثقافية الموجودة في الأربعينات وقبل الأربعينات بما استطاعت. ولا ننس أن الشابي، والطاهر الحداد، وغيرهما من رجال الإصلاح تكونوا في ربوعها.
ثم يضيف الأستاذ الطالبي قائلاً أن البلاد التونسية كانت تعيش غلياناً ثقافياً ينبئ بالاستقلال. وقد تأسست مجلات كثيرة منها مجلة «المباحث» التي ازدهرت في تلك الفترة، وهي مجلة أدت رسالة عظمى لأنها أتت بلغة جديدة. فقد طوَّعت العربية لمفاهيم غربية بأقلام أساتذة ـ منهم محمود المسعدي ـ وأدباء تخرجوا من مدارس غربية، أو تكونوا على الطريقة الغربية. لكن الزيتونة حتى خلال الأربعينات كانت ترى الأدب تقليداً لذلك النوع من الكتابة الأدبية التي ثار عليها الشابي، أي أدب الحريري، والمحسّنات البديعية، والخيال الجاف، والسجع المصطنع والممل.
ثم يتحدث محمد الطالبي عن دور المدرسة الصادقية المضادة للزيتونة لأنها منفتحة على الحداثة. يقول: ولكن إضافة إلى الزيتونة ورجالاتها بدأت في الأربعينيات تتبلور تيارات أخرى تمثلها النخب الصادقية والمدرسية عموماً. وقد ساهمت الصادقية بصفة خاصة ومتميزة في ظهور رجال حاولوا الجمع والتوفيق بين أمرين:
معرفة جيدة، بل جيدة جداً، بالفرنسية لغة وثقافة من جهة، ثم معرفة جيدة وعميقة أيضاً باللغة العربية من جهة اخرى. وقد وفّق التعليم الصادقي والمدرسي عموماً، في اعتقادي، من حيث النوع والكيف، لكن ذلك كان على حساب الكمّ. ذلك أن التعليم المزدوج القائم على حذق لغتين وهضم ثقافتين، نخبوي بالطبع.فلم يكن يدخلها إلا أبناء العائلات عموما.
ولكن ماذا عن ذهابه إلى فرنسا من أجل إكمال دراساته العليا؟ من المعروف أن الطالبي كمعظم المثقفين العرب الكبار عرف تجربة الغرب والحضارة الغربية عن كثب. يقول بخصوص هذه المرحلة المهمة من حياته ما يلي: ذهبت إلى باريس سنة 1947، وقد تعرفت هناك على عدد من الطلبة التونسيين الذين سوف يصبحون شخصيات مهمة فيما بعد. أذكر من بينهم محمد المزالي الذي أصبح رئيساً للوزراء في عهد بورقيبة. ثم الطيب المهيري، ومحمد المصمودي، والطيب السحباني، ومصطفى الفيلالي، والشاذلي القليبي، وأحمد بن صالح.
وكانت باريس في فترة أواخر الأربعينات والخمسينات مخبراً ثقافياً وسياسياً مهما. فالحياة الفكرية كانت فيها متنوعة وخصبة والصراع الثقافي قوياً. فتلك الفترة شهدت عنفوان الحركة الشيوعية. فقد كان موريس توريز يصول ويجول، وكذلك الكاتب العام للحزب الشيوعي الفرنسي جاك ديكلو.
وكانت الشيوعية في أوجها وتحاول استقطاب كل طلبة شمال إفريقيا لأنها تقدم نفسها إليهم على أساس أنها الفكر المتفتح على قضايا العالم الثالث، ويمكن أن تقدم لهم عن طريق الحزب الشيوعي يد المساعدة. وفي هذه الفترة أصبح الحبيب عطية شيوعياً وتأثر بالفكر الماركسي تأثراً شديداً. ولا أعرف كيف يفكر الآن!
ونجد إلى جانب الحركة الشيوعية أطرافاً أخرى في الصراع العقائدي والفلسفي. كان جان بول سارتر في ذروة مجده وتأثيره. وكان يتزعم الحركة الوجودية، وأعتقد أن عبد الرحمن بدوي كان موجوداً في باريس حينئذ. وتأثر بسارتر دون شك، ولكنني لم أتصل به هناك. وقد قدم عبد الرحمن بدوي في تلك الفترة أطروحته عن الوجودية.
لكن ما هو الموقف الذي اتخذه محمد الطالبي من كل هذه التيارات الفلسفية التي كانت تضجّ بها العاصمة الفرنسية؟ في الواقع إنه لم يتخلّ عن تراثه العربي ـ الإسلامي، وإن كان قد تأثر إلى حد ما بهذا التيار أو ذاك. وهذا دليل على رجاحة عقله لأن الكثيرين من الطلاب العرب جرفتهم التيارات الحديثة وأصبحوا يخجلون من الانتماء إلى تراثهم!
ثم ندموا على ذلك بعدئذ كما حصل للفيلسوف المصري زكي نجيب محمود. وحاولوا استدراك ما فات والعودة إلى الجذور في نهاية حياتهم. لقد تأثر الطالبي بالوجودية التي علَّمته أن المثالية ليست كل شيء، ولا بد من النظر في الواقع الملموس، وما هو موجود، وأن ننطلق من الوجود المادي المحسوس، وأن نفتح أعيننا على الواقع.
ويردف الطالبي قائلاً: أنا إلى اليوم أعتبر نفسي «مثالياً»، لكن لا بد من ترياق نقاوم به الإفراط في المثالية، وهو ما أتى به سارتر. وإلى ذلك أعتقد أن سيغموند فرويد أحدث ثورة عارمة أثرت في كل الناس، وأنا منهم. فقد دفعني فرويد إلى أن أتساءل كلما فكرت في شيء أو كتبت شيئاً: أين ذلك من الحقيقة؟ هل أنا صادق، مخلص كل الإخلاص؟ أم هل توجد دوافع باطنية في ضميري تحركني من حيث لا أشعر؟
وهذا أمر مهم لأن الإنسان يجب أن يحاسب نفسه دوماً وأبداً. وبذلك أصبحت محاسبياً إن صح التعبير... فقد جاء في القرآن الكريم: «وما أبرئ نفسي إن النفس لإمارة بالسوء إلا ما رحم ربي» (سورة يوسف، الآية 53). وكذلك قوله تعالى: «وإما ينزغنّك من الشيطان نزغ، فاستعذ بالله إنه سميع عليم» (سورة الأعراف، الآية 200). فالإنسان طين وحمأ مسنون، وضياء مشرق، لأنه من أديم الأرض، وفيه نفخ الله من روحه، فهو ينزل إلى الرذيلة ويسفك الدماء، ويتوق إلى المطلق والعلاء، ثم يختتم الدكتور الطالبي كلامه قائلاً:
يجب أن ننصت إلى العقلانيين لأنهم يلقون علينا أسئلة ويستفزوننا استفزازات أساسية بالنسبة إلينا حتى نكون مؤمنين مبصرين، لا مؤمنين يسبحون في ظلمات حدود أفكارهم المنغلقة.
أخيرا يمكن القول بأن الأستاذ الطالبي ساهم في حوار الأديان عن الجهة الإسلامية والتقى بممثلي الأديان الأخرى كالمسيحية واليهودية في مؤتمرات عالمية عديدة كانت تعقد ولا تزال في مختلف عواصم الغرب والشرق. وبالتالي فهو يسهم في تقديم صورة عقلانية مشرقة عن تراث الإسلام. وهذا أحوج ما نكون إليه اليوم بعد ان شوهت صورة ديننا وتراثنا في المحافل الدولية من جراء بعض الأعمال الإجرامية والتفجيرات الإرهابية العمياء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.