17 يونيو 2011

من عيون المقالات: عقائد المسلمين بين الأيديولوجيّ والمعرفيّ... سامي براهم

المدخل إلى علم الكلام مدخل أساسي لا غنى عنه لفهم الكثير من إشكاليّات الحاضر ذلك أنّ الثقافة العربيّة الإسلامية تعيش تداخل الأزمنة المعرفيّة ولم تنجح إلى اليوم في تحقيق القطيعة المعرفيّة التي تؤسّس لحداثة حقيقيّة. وحال هذه الثقافة بين أمرين:
استصحاب لإشكاليّات التّراث دون مسافة وعي نقدي أو انقطاع عن التّراث دون استيعاب لقضاياه… وكلا الموقفين متشابهان من حيث العوائق المعرفيّة التي تحول دون التمثّل النقدي الموضوعي للماضي والحاضر على حدّ سواء. فالمستصحبون للتّراث منقطعون عن الحداثة دون استيعاب لإشكالاتها يعيدون إنتاج نفس إشكالات الماضي لمواجهة رهانات الحاضر. والمنقطعون عن التّراث مستصحبون للحداثة دون مسافة الوعي النّقدي بحيث لا يرون في التراث أيّ قيمة إيجابيّة لأنّهم لم يستوعبوا إشكالياته.
ويعبّر كلا الموقفين عن حالة من الاغتراب المعرفي والنفسي، إذ كلاهما مستصحب لما يراه مستجيبا لحاجات الرّاهن منقطع عمّا يراه معيقا لتطلّعات الحاضر، والحال أنّ الرّاهن لا يقرّ له قرار ولا يستقرّ على حال ولا يقنع بالجاهز سواء صيغ في الزّمن القديم أو الزّمن الحاضر … الرّاهن لا يعترف إلا بالجدل والحراك والحوار القائم بين استقراء الواقع والمنظومة القيميّة التي يقوم عليها الاجتماع البشريّ للمجموعة التي تضمّ طاقات وموارد بشريّة متنوّعة المشارب والمهارات والخبرات .
لذلك فإنّ تخصيص مجال للنّظر في علم الكلام نشأة وتطوّرا وقضايا وإشكالات، هو إعادة تأسيس للرّاهن وتشكيل له في ضوء تمثّل موضوعيّ سليم للماضي، للخروج من نفقي الاستصحاب والانقطاع، خاصّة وأنّ هذا الماضي لا يزال يجثم بثقله المادّي والمعنوي على الضّمير الجمعيّ والوعي العامّ للمنتمين للثقافةّ العربيّة الإسلامية؛ إذ يوجّه سلوكاتهم وفعلهم في الشّأنين العامّ والخاصّ، ولا سيما في ما يتعلّق بالمنظومة العقديّة التي تشهد اليوم نفس الجدل التّراثيّ القديم بنفس العناوين والمرجعيّات والتقسيمات المذهبيّة والآليات الذّهنيّة، وكلّ يدّعي انتماءه إلى ما يفترض أنّها العقيدة الحقّ ويصنّف بقيّة أفراد المجتمع من خلال ما ترسّخ في الوعي المذهبيّ أنّه أصول معتقده بل وحتّى فروعه بتمثّل لا تاريخيّ للسياق الذي نشأت فيه تلك المعتقدات، كيف وقع استصفاؤها وإعلاؤها لتستقرّ على أنّها الأصول العقديّة للملّة التي بمقتضاها يصنّف النّاس إلى مؤمنين وكافرين وفاسقين ومبتدعين وخارجين عن الملّة.
قد يسأل سائل ما جدوى استعادة مسائل علم الكلام والحال أنّ المدوّنات القانونيّة وفلسفة القانون في المنطقة العربية والإسلامية تنحو شيئا فشيئا نحو مزيد من العلمنة واقتباس النظم الحديثة وتشريعاتها؟ بل إنّ استحقاقات العولمة، ولا سيما عولمة القوانين والتّشريعات، أصبحت تقتضي انتظام شعوب العالم وفق روح مدنية وضعية موحّدة تنضوي تحت فلسفة قيميّة إيتيقيّة وحقوقية مغايرة لعلم الكلام؛ تنهل من المواثيق الدّوليّة لحقوق الإنسان والعهود التي تعبّر عن روحانيّة كونية جديدة تشير إلى ما عبّر عنه الأستاذ المنصف بن عبد الجليل من إمكان للنّجاة بأخلاقيّة "Ethique " من خارج الرّموز الدّينية واستقامة الحقيقة خارج المؤسسة الدينية … مما يدلّ على الوعي بتقدّم الإنسانيّة على الشّرع الديني(1).
ليس لدينا تحفّظ مبدئيّ على هذا التّحليل، طالما أنّ هذه الروحانيّة المعاصرة هي خلاصة التجربة الإنسانيّة وتراكم الخبرات البشريّة وعصارة حكمة الشّعوب المتأتّية من مختلف روافدها الثقافيّة على امتداد الحقب… غير أنّ ذلك لا يعني القفز على متطلّبات الواقع العربي والإسلامي الرّاهن، الذي لا تزال شعوبه ممزّقة بين الانتماء للمواطنة التي لم تتحقّق من جهة، والانتماء لجهاز الملّة الذي يعبّر عن رهانات الماضي، فترى تلك الشّعوب الوجود من خلال ما تحدّد سلفا من معتقدات وقيم لا تزال متغلغلة في الضّمير الأخلاقي والوعي الجمعي تحدّد علاقة الفرد بنفسه وبالآخرين وبالعالم الشّاهد والغائب … فمجهود التّنوير لا بدّ أن يكون قائما على الجدوى والفاعليّة، والتربية على حقوق الإنسان ليست عمليّة دعويّة تبشيريّة نخبويّة بل هي مجهود معرفيّ نقدي تفكيكيّ تحليلي تأليفي مضن، يستهدف كلّ المضامين التي تعيق العقل والضّمير العربي عن التقبّل الإيجابي التّفاعلي التّثاقفي لقيم الحداثة ومعارفها. ويتوجّه هذا المجهود إلى النّاس بقصد أخلاقيّ هو التّنوير لا التّدمير، والقطيعة المعرفيّة لا الانقطاع وفكّ الارتباط مع ثقافة المجموعة البشريّة التي ننتمي إليها … كلّ ذلك يتطلّب الكثير من الصّبر والمعاناة والإبداع المعرفي.
وفي ما يخصّ إشكاليّة هذا المقال نحتاج إلى مساءلة المنظومة العقديّة الإسلاميّة وخلخلتها، عبر نقد العلم الناطق باسمها والمنافح عنها والمحاجج لخصومها، وهو علم الكلام. ممّا يستدعي تعريف هذا العلم من حيث:
* نشأتـه.
* السّياق الموضوعي الذي حفّ بتلك النّشأة.
* الطّابع الذي وسم مرحلة النّشأة و تأثيره على المسار التّاريخي لعلم الكلام باعتباره الإطار الذي تبلورت فيه عقائد المسلمين.
* المراحل التي مرّ بها.
* مدارسه ومقالاتها.
* أهمّ الإشكاليّات التي شغلته.
* قابليّته للتّجديد في العصر الرّاهن.

وأوّل ما يمكن الإشارة إليه هو غياب الوثائق والمعطيات العلميّة الدّقيقة التي تكشف خصائص الكلام الأوّل، ذلك أنّ آثار النّشأة غير مدوّنة:

* اندثار مصنّفات المتكلّمين الأوائل.
* اندثار المجموعات الكلاميّة الأولى التي أطلق عليها أسماء مثل الأزارقة والصّفريّة والسّبئيّة والمرجئة، بحيث لم تجد من ينقل آراءها للأجيال اللاحقة.
* وصول آراء هذه الفرق من خلال أعدائها وخصومها في سياق الرّدود الحجاجيّة والتّكفيريّة أو التبديعيّة في أدنى الحالات التي تشوّه هذه المقالات وتحرّفها.
* اضطرار بعض الفرق إلى التكتّم على عقائدها في فترة الاضطهاد السّياسي التي صاحبت مرحلة النّشأة.
* غلبة الطّابع الشّفوي والشّعاراتي على الكلام الأوّل وغياب الأطروحات النّظريّة.
كلّ ذلك يجعل تصوّرنا عن الكلام الأوّل استقرائيّا استدلاليّا استنتاجيّا لا برهانيّا.

ومن خلال التّعاريف السّائدة يمكن أن نستشفّ ملابسات نشأة هذا العلم :
وأقدم تعريف للفارابي ت 339 هـ في كتابه إحصاء العلوم إذ اعتبره صناعة، وعرّفه بأنّه ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرّح بها واضع الملّة، وتزييف كلّ ما خالفها بالأقاويل.
ويعرّفه الإيجي (ت 756 هـ) في كتابه المواقف باعتباره: علما يقتدر به على إثبات العقائد الدّينيّة بإيراد الحجج ودفع الشّبه.
وأشهر تعريف لابن خلدون (ت 808 هـ) في مقدّمته حيث اعتبر انّه: علم يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقليّة والردّ على المبدّعة والمنحرفين في الاعتقادات على مذاهب السّلف وأهل السنّة.
ويمكن أن نستنتج من هذه التّعاريف النتائج الأوليّة التالية :
* نحن أمام علم لا تتأسّس في كنفه العقائد أي ليس هو علم استنباطيّ برهانيّ يستقرئ المادّة لينتج المعرفة العقديّة ولكنّه مخوّل للدّفاع عن العقائد بشكل بعديّ أي بعد تشكّلها واستقرارها.
* هو علم جداليّ إقناعيّ حجاجيّ سجاليّ بامتياز من أوكد مهامّه إفحام الخصم وتبكيته ودحض شبهه ومغالبته بالقول الحجاجيّ القائم على العقل … لكنّ العقل هنا ذرائعيّ نفعيّ تبريريّ.
* هو علم مذهبيّ بامتياز أي ناصر للحقّ كما استقرّ في المذاهب، فليس من دوره وضع أصول المذاهب وحقائقها موضع النّقد والتّشكيك، إلا إذا تعلّق الأمر بمذاهب الخصم. فهو إذن، علم خادم للإيديولوجيا الرسميّة لمذهب من يوظّفه.
* كلّ هذه الاستنتاجات الأولية تسحب عن هذا العلم صفة العلم العقليّ البرهاني الاستقرائي المنتج للمفاهيم إذ العقل فيه أداة خارجيّة ذرائعيّة لتبرير الأيديولوجيا المتشكّلة والمستقرّة قبله.
وهذا ما يميّز علم الكلام الإسلامي عن علم التّيولوجيا أو علم اللاهوت المسيحي الذي تشكّلت في كنفه العقائد المسيحيّة في المجامع المسكونيّة .
تأسيس علم الكلام بين الهاجس العملي السّياسي والرّهان النّظري المعرفي
يمكن التّمييز بيمن مرحلتين أساسيّتين في تشكّل علم عقائد المسلمين:
  1. مرحلة النّشأة التي يمكن أن توسم بغلبة العملي على النّظري وهذا العمليّ سياسيّ بامتياز، ويمكن إطلاق صفة الكلام السّياسي على هذه المرحلة منذ الفتنة الكبرى إلى منتصف القرن الثّاني.
  2. مرحلة الانفصال التّدريجي للنّظري عن العملي وإن بقي العمليّ أي السّياسي هاجسا خفيّا، ويمكن أن نطلق عليها مرحلة التّشكّل العلمي النّظري للكلام من منتصف القرن الثّاني إلى مشارف القرن الخامس الهجريّ.
وسنقتصر في هذا السّياق الخاصّ على هاتين المرحلتين لما لهما من أهمّية قصوى في فهم إشكاليّات هذا العلم وقضاياه.

I الكلام العملـــــــــــــــيّ
انتبه العديد من الباحثين إلى تأثير أحداث الفتنة الكبرى على مسار التّاريخ الإسلامي وحضارته، ذلك الحدث الدّراماتيكيّ الذي زلزل الضّمير الإسلامي وأخرجه من برد اليقين العقائديّ والاطمئنان المعرفي والاستقرار الاجتماعي النّسبي إلى أتون حرب أهليّة كبرى عنوانها الأكبر التنازع على الحقّ الدّيني والشّرعيّة السّياسيّة، ممّا ولّد حيرة سياسيّة وقيميّة جماعيّة عبّر عنها الفاعلون السّياسيّون كلّ بطريقته وفق مصالحة وانتماءاته وموقعه وتطلّعاته وملابسات الفعل وردود الفعل في الواقع. في ظلّ هذا السّياق السّياسيّ المضطرب تشكّلت إرهاصات علم الكلام الإسلامي أو علم العقائد، فكانت عبارة عن مقولات سياسيّة مختزلة مركّزة تعبّر على مواقف أصحابها من الأحداث مشبعة بالعمق العقائديّ والنّفس الكفاحوي. كانت الأسئلة واقعيّة مباشرة ظرفيّة لكنّها سرعان ما أنتجت مقالات كلاميّة وإرهاصات تشكّلات سياسيّة عقائديّة ستتألّف عنها لاحقا فرقٌ، ويمكن أن نجمل تلك الأسئلة المبثوثة في كتب التاريخ في النقاط التّالية :
* هل قتل عثمان ظلما أم قصاصا؟
* ما حكم الصّحابة الذين قتلوا بعضهم البعض والحال أنّ قتل المسلم كبيرة من أعظم الكبار التي تندرج ضمن الكفر في بعض الآثار " لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض " ؟

* هل يعتبر الظلم وارتكاب الكبائر مسقطا لصفة الإيمان، أي التّوحيد؟ وبالتالي مسقطا لعصمة صاحبه في دمه وماله وعرضه ؟
* ما حكم تحكيم الرّجال في ما يعتقد أنّه حكم الله ؟
* ما حكم مبايعة الإمام الفاسق والولاء له ؟
* ما حكم تغيير المنكر بالقوّة والخروج على السّلطان الجائر ؟
* ما حكم القعود عن قتال جور السّلاطين وتفشّي البدع في جسم الجماعة ؟
* ما حكم ما حصل للجماعة الإسلاميّة من حوادث في ضوء علاقته بالقضاء والقدر؟
* ما مدى مسؤوليّة الإنسان في ما يجترحه من أفعال ؟
ولا نجد نصوصا مبكّرة تعكس باستفاضة الجدل الذي دار حول هذه الأسئلة بين الفرقاء سوى بعض الرّسائل المحدودة التي تعتبر صدى لذلك الجدل من مثل الرسائل التي أرسلها ابن أباض ت 88 هـ إلى عبد الملك بن مروان والحسن البصري ت 110 هـ إلى الحجّاج بن يوسف ت 95 هـ، وكتاب البصري في الإرجاء ورسالة محمّد بن الحنفيّة ت 100 هـ في الإرجاء. مع بعض الشّذرات التي نقلتها كتب الكلام لاحقا.
وفي إطار الجواب عن هذه الأسئلة تشكّلت أربع فرق كلاميّة كبرى كانت تجيب عن هذه الأسئلة بالعمل والقول في آن واحد: هي الخوارج أو المحكّمة كما أطلقوا على أنفسهم والشّيعة والمرجئة والقدريّة.
ونفصّل أهمّ المقولات العقائديّة المبكّرة لهذه الفرق الكبرى النّاشئة في خضمّ الواقع السّياسي وملابساته والمشكّلة لمعالم علم الكلام.

(1) الخــــوارج
اعتبروا أنفسهم مثل كلّ الفرق السّياسيّة الكلاميّة ممثّلي الإسلام الحقّ لذلك أطلقوا على أنفسهم اسم جماعة الحقّ وجماعة المسلمين، فأقرّوا خلافة أبي بكر وعمر، وفسّقوا عثمان وعليّا لمخالفتهما أحكام الشّريعة كما يتصوّرونها. من عقائدهم التّحكيم والولاء والبراء والشّورى وعدم اشتراط قرشيّة الإمام أو حتّى نسبه العربي والكتمان والظّهور والاعتراض والشّراء. وهي مصطلحات قرآنيّة، وتكفير مرتكب الكبيرة والقول بخلوده في النّار ونزع العصمة عنه وتكفير من لا يكفّره. هذه العقائد هي نتاج طبيعيّ لما تعرّضوا له من قمع واضطهاد على يد بني أمية، لكن أهم ما يميّزها أنها مقولات سياسيّة صنعها واقع سياسيّ ونفس ذلك الواقع السّياسي حوّلها إلى أصول عقائديّة تثبّت وحدة جماعة الشّراة ويتمّ من خلال هذه الأصول تحديد الانتماء إلى دائرة الإيمان والكفر والجماعة وما يقتضيه ذلك من أحكام عمليّة كالمصاهرة والمناكحة وعصمة الدّم والمال والعرض بل وحتّى المؤاكلة والمجالسة والمصافحة وإفشاء السّلام… كان متكلّمو الخوارج هم أنفسهم قادة العسكر في الحملات التي كانت تشنّ على السّلطة الأمويّة في المركز أو الأقاليم، وكانت حملاتهم موجعة للدّولة التي جابهتها بأقسى الوسائل… ورغم انتصارات فرق الخوارج الأولى فإنّها أنهكت وبدأت في الاضمحلال تاركة المجال لضرب جديد من المنزع الكلاميّ القائم على فكرة القعود في مقابل الشّراء وتحوّل القعود من حلّ سياسيّ لتجاوز وضع سياسيّ قاهر إلى عقيدة دينيّة، بل إلى أصل من أصول عقيدة الإباضيّة، ولعلّ تصعيد القعود إلى مرتبة الأصل العقائدي هو في سياق تثبيت التّمايز مع الخوارج الشّراة وترسيخ النّهج التّصالحي الجديد مع السّلطة .


(2) غلاة الشّيعـة
ونقصد بهم الكيسانيّة وزعيمهم المختار بن أبي عبيد الثّقفي ت 65 هـ، واقتصرنا على هذه الفرقة باعتبار أنّه لم يكن لغيرها من فرق الشّيعة المتأخّرة كالإماميّة الاثناعشريّة و الزيديّة مقالة كلاميّة في ذلك الوقت، بل لم يكن لها وجود فعليّ أصلا، إذ نما التشيّع الأول في شكل انتصار عاطفي لعليّ بن أبي طالب وآل بيته تعمّق مع مقتل الحسين وقيام حركة التوّابين . ظهرت الكيسانيّة بعد القضاء على حركة التوّابين التي قادها سليمان بن صرد ت 67 هـ وأعلنت محمّدا بن عليّ بن أبي طالب بن الحنفيّة ت 81 هـ إماما بعد الحسين، ثمّ ابنه أبا هاشم ت 98 هـ من بعده … وقام ما اصطلح على تسميته بالكلام الغالي "نسبة إلى الغلاة" على مركزيّة الإمامة، لا باعتبارها خطّة سياسيّة أو باعتبار أحقية آل بيت النبيّ فيها، بل باعتبارها محور الوجود وأداة للنّفاذ إلى حقائقه وأسراره الخفيّة… ومن أهمّ المقالات الكلاميّة لهذا الضرب من التشيّع المبكّر؛ الارتقاء بعليٍّ الذي كان يلعن على المنابر وبالأئمّة من آل البيت عموما من مرتبة قرابة الرّسول المطهّرين إلى رتبة الأولياء والأوصياء الذين هم فوق رتبة الأنبياء والذين لا يجب أن يخلو منهم الزّمان والمكان لحظة واحدة، ونسبوا إليهم الخوارق والكرامات والمعجزات والحضور والغيبة والرّجعة، ولكنّهم لم يلتزموا بترتيب مضبوط لسلسلة نسب آل البيت النّبويّ، واعتبروا الاعتقاد في الأئمة أصلا عقائديّا يدخل به المرء دائرة الإيمان أو يخرج به إلى دائرة الكفر.

(3) المرجئــة
هم في الأصل المسلمون الذين لم يشهدوا اندلاع الفتنة لانخراطهم في الفتوح، ولمّا عادوا إلى مركز الخلافة والفتنة على أشدها لم يتبيّنوا المخطئ من المصيب، فاعتزلوا الفتنة وحكموا بإيمان الجميع واجتنبوا إصدار أحكام دنيويّة تخطّئ طرفا من الأطراف المتحاربة. ولكنّهم مع ذلك أرجؤوا حكمهم إلى الله في الآخرة… غير أنّ موقفهم هذا اقتصر على أهل الفُرقة الأولى، أي أصحاب عثمان وأصحاب الجمل وصفّين، لعدم شهودهم أطوار الخلاف بينهم وخفاياه، لكنّ حكمهم على أهل الفُرقة الثّانية كان واضحا حيث أدانوا الانحراف الأمويّ عمّا ترسّخ أنّه الخطّ الرّاشد للخلافة دون السّقوط في التّكفير، هذه مقالة الإرجاء المبكّر او الطّور الأوّل من الإرجاء. وأوّل نصّ إرجائي عبّر عن هذا الجمهور من المؤمنين الذين نزعوا هذا المنزع هو كتاب الإرجاء للحسن بن محمّد الحنفيّة ت 100 هـ الذي عبّر فيه عن انفصاله عن الكيسانيّة واعتبر فيه الإرجاء شريعة الأنبياء. ونزع الإرجاء في هذا الطّور إلى المزج بين المناظرات الكلاميّة والسّلوك الثّوريّ حيث شنّ المرجئة من غير القعدة حملات على الخلافة الأمويّة بقيادة غيلان الدّمشقي والحارث بن سريج ت 128 هـ . وقامت مقالتهم الكلاميّة على مبدأ "لا تضرّ مع الإيمان معصية ولا تنفع مع الكفر طاعة"، وذلك ليس فقط لتأكيد فكرة أنّ الإيمان عاصم للدّم والعرض والمال، دون اعتبار العمل، لتنزيه أهل الفرقة الأولى من الصّحابة المتقاتلين، ولكن خاصّة لتكريس المساواة بين المسلمين الدّاخلين في دائرة الإيمان في سياق ما كان يمارسه الأمويّون من عدم التّصديق على إيمان الكثير من الموالي من غير العرب لأخذ الجزية منهم بدعوى عدم التزامهم بالشّعائر والمناسك والعبادات. فكانت هذه المقالة تخفيفا على الدّاخلين الجدد في الإسلام من غير العرب الذين لم يتقيّدوا بعد بالضّوابط الإسلاميّة كما حدّدها الفقهاء.

وأفضل من عبّر عن مقالات المرجئة هو جهم بن صفوان ت 128 هـ الذي اعتبر الإيمان اعتقادا ومعرفة وتصديقا قلبيّا، مخالفا بذلك الخوارج الذين اعتبروا الفصل بين الإيمان والعمل كفرا. وأحسّ الأمويّون بالخطر السّياسي لهذه المقالة فنكّلوا بأتباعها وقتلوا الجهم بن صفوان. ومُني المرجئة بهزائم عسكريّة تسبّبت في اندثارهم كفرقة سياسيّة ولكنّ مقالاتهم الكلاميّة تبنّاها المعتزلة والسنّة لاحقا واستوعبوها وطوّروها.

(4)القدريـّة
قد يبدو للوهلة الأولى أنّ أهل القدر هم أصحاب مقالة كلاميّة نظريّة قوامها أنّ الإنسان فاعل بإرادته وقدرته وهو مسؤول في الدنيا والآخرة على أفعاله، لكنّ هذه المقالة سياسيّة بامتياز إذ تأسّست عليها ثورات ضدّ الحكم الأمويّ.
ويمكن التّمييز بين :
  • قدريّة البصرة وزعيمهم الحسن البصري ت 110هـ، وكانوا رغم تحفّظهم على السياسة الأمويّة ومعارضتهم لها ملتزمين بالنّهج الإصلاحي السّلمي على اعتبار أنّ ظلم الحكّام هو نتاج فساد الرعيّة أي كما تكونون يُولّى عليكم.
  • قدريّة الشّام الذين اختاروا المعارضة العسكريّة بقيادة غيلان الدّمشقي.
وقد تسبّب ذلك في اندثار قدريّة الشّام وتواصل قدريّة البصرة الذين شكّلوا لاحقا نواة بشريّة وقاعدة نظريّة للاعتزال.

خلاصة
  1. نشأ الكلام الأول في شكل مقالات سياسيّة هي نتاج واقع سياسي محتدم وقع فيه تحويل حوادث سياسيّة إلى أصول وقواعد عقائديّة أساسيّة لتحديد معايير تشكّل هويّات عقائديّة دينيّة ذات أهداف سياسيّة.
  2.  تداخل الكلام بالفعل السياسي المتفاوت بين السّلمي والثّوري.
  3.  غلبة طابع المعارضة السياسيّة على الكلام الأوّل لذلك ناصب الحكّام المتكلّمين العداء.
  4.  دفعت المعارضة الكلاميّة السياسيّة فئات من المسلمين إلى تشكيل جماعات موازية لجسم الجماعة الأمّة ولكلّ جماعة مقالة خاصّة بها تشكّل رابطتها الأخلاقية والمعرفيّة والاجتماعيّة العضويّة .
  5.  جعل الكلام الشأن السياسيّ شأنا عامّا يخوض فيه النّاس من العرب والأعاجم الدّاخلين حديثا في الإسلام، على عكس ما خطّطت له السّلطة الأمويّة من رغبة في حصر الشّأن السياسي في أيدي أولي الأمر المأمور بطاعتهم، وتركيزه في يد العرب من البيت الأموي.
  6.  اندحار مقالة الجبر التي اتّخذها الأمويون إيديولوجيا رسميّة لإضفاء المشروعيّة الدّينيّة على سلطتهم.
  7. التداخل و التّمازج و التّماهي بين الدّيني والسّياسي بشكل جعل من المواقف السّياسيّة الظّرفيّة النّسبيّة المحكومة بسياق الإكراهات التّاريخيّة حقائق دينيّة مطلقة ومعايير للفرز والتّصنيف العقدي وتحديد الولاءات وشروط الانتماء ليس فقط للدّائرة السياسيّة بل لدائرة الإيمان.
  8.  قيام مقالات الكلام السياسي على الإقصاء والتّكفير المتبادل وتسويغ العنف السّياسي تجاه السّلطة وتجاه المخالفين.
  9. فشل الكلام السياسي في إنتاج مقوّمات إسلاميّة لمشروع سياسيّ متكامل او نظريّة مدنيّة في السّياسة واضحة المعالم فضلا عن نظريّة في الأخلاق تضبط المنظومة القيميّة والعقديّة.
II الكلام النّظـــــــــــــــري




و يمثّل الطّور الذي انفصل فيه علم الكلام منهجيّا ومضمونيّا في أواسط القرن الثّاني للهجرة عن المشغل العملي أيّ السّياسي و إن بقي الهاجس السّياسي حاضرا بشكل خفيّ . كانت المقالات السياسيّة من قبيل الإمامة و القدر والإرجاء و مرتكب الكبيرة و الخروج والشّراء والقعود قاعدة موضوعيّة لنشوء جدل نظريّ أكثر عمقا ودقّة وأقرب إلى المنزع المعرفي الابستملوجي منه إلى المنزع السّياسي العملي وتحوّلت معه المغالبة العسكريّة الميدانيّة إلى مغالبة حجاجيّة عقليّة من خلال فنّ المناظرة التّبكيت والإفحام .
كيف وقع هذا التحوّل؟
(1) تبيّن فشل النّهج العسكريّ المناطح للسّلطة الذي أدّى إلى اندحار المعارضات المسلّحة التي تركت مكانها للمعارضات السّلميّة أو الأقلّ تشنّجا المصنّفة تحت مسمّى القعدة
(2) القضاء بشكل لافت على المعارضات المسلّحة وفّر جوّا من الأمن والسّلم الذي مكّن من توفّر مجال للتّفكير والنّقد والجدل النّظري خاصّة مع بداية عصر التّدوين وما بعده حيث نشط جمع الحديث والشّعر واللغة والمعارف والآداب وترجمة ما سمّي بعلوم الأوائل من فلسفة وعلوم نظريّة.
(3)اقتناع فئات من المتكلّمين والفاعلين السّياسيين في أواخر القرن الثاني الهجري بإمكان التّغيير من داخل السّلطة ممّا أدّي إلى نوع من التّحالف بين فئات من العلماء ينتمون إلى فرق كلاميّة مختلفة والسّلطة فساهم ذلك في الحدّ من عداء السّلطة تجاه المتكلّمين واحتوائهم على اختلاف مشاربهم ومنطلقاتهم واقتناعها بفائدة هذه الفئة من العلماء. ويشهد على ذلك المناظرات التي كانت تعقد بين الفرقاء في مجالس الدّولة الرّسميّة وبلاطات الخلفاء والأمراء وقد دشّن المأمون هذا التوجّه بتنظيم مجالس مناظرات دوريّة نقلت الخلاف من دائرة المغالبة والخصومة السّياسيّة الى دائرة الجدل والحجاج العلمي العقلي النّظري.
(4) الحاجة الملحّة إلى صنف من أهل الاختصاص يذودون عن دين الدولة وعقائد المجتمع تجاه المقالات الدّينيّة والملل والنّحل غير الاسلاميّة التي يدين بها سكّان أراضي الفتوح الذين بدؤوا يعبّرون عن هويّاتهم الدّينيّة بكلّ حريّة ونديّة ومنافسة للإسلام وكذلك معتقدات الغلاة من داخل العقيدة الإسلاميّة وما سمّي بتيّار الزّندقة … هذه المهمّة الخطرة التي تتعلّق بحماية وحدة الدّولة والأمة لم يتمكّن من النّهوض بها الفقهاء ولا أهل الحديث فتمحّض للقيام بها فئة المتكلمين لتمرّسهم على الجدل والمناظرة السّياسيّة طيلة عقود.
(5) الحاجة الى مأسسة مجال الاعتقاد من طرف السّلطة السّياسيّة أو من داخل المذاهب والفرق لتحقيق الانسجام ممّا يتطلّب شروطا علميّة منهجيّة معرفيّة لصياغة منظومة عقديّة متجانسة منسجمة متكاملة.
(6) العودة الى النصّ المؤسّس القرآن لإضفاء المشروعيّة على هذه المعتقدات والحال انّ بيان المعنى القرآني خاصّة في آيات العقائد ملتبس لتعارض منطوق الآيات وخفاء المعنى في متشابهها ومجملها ومفصّلها ممّا استوجب التسلّح بالمعارف اللغويّة والعقليّة للتّأويل.
ويعتبر المعتزلة الذين أطلقوا على أنفسهم اسم أصحاب العدل والتّوحيد أوّل من خاض غمار هذا التحوّل من العملي الى النّظري أو من الكلام السّياسي إلى الكلام العلمي او المعرفي النّظري بعد أن تشرّبوا مقالات سابقيهم من متكلّمي الفرق خاصّة المرجئة والقدريّة " قدريّة البصرة " وساعدهم على ذلك عدم انخراطهم البارز في المعارضة المسلّحة ضدّ الحكم المركزي رغم تحالف بعض وجوههم مع إبراهيم أخو محمّد النفس الزكيّة ضدّ الخلافة العبّاسيّة على عهد أبي جعفر المنصور سنة 145 هـ وهو التحرّك العسكري الوحيد المحسوب على المعتزلة الذي سبّب لهم بعض الإشكالات مع السّلطة. ولكن بمرور الزّمن تمكّن زعماء الاعتزال من الانخراط في مشروع الدّولة دون فقدان استقلاليّتهم كفرقة كلاميّة لها أصولها ومناهجها ومعتقداتها. ويعتبر الاعتزال استيعابا وإعادة إنتاج معرفي ابستملوجي لمقولات التيار القدري البصري الذي حافظ على الموقف الرّافض للخيار العسكري ضدّ السّلطة الأمويّة وعلى عدم التّعاون معها ومناصرتها وعدم الرّضي على سياساتها ومعارضتها بالقول وانتقادها … فاستعاضوا عن مقالة الخروج بمقالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعن مقالة الجبر بمقالة الاختيار كلّ هذه المعطيات مكنت المعتزلة من شقّ طريق الرّيادة في تأسيس هذا العلم.

III خصائص علم الكلام الناشئ ومضامينه
الخصائص
(1) تحويل العقائد السياسيّة الموروثة عن فترة الكلام السياسي الى موضوع بحث ونظر معرفي واستنباط أصول عقديّة منها.
(2) التّواصل مع الآخر والانفتاح عليه من خلال الرّدود والمناظرات التي تقتضي الإطّلاع على أطروحاته وتناولها بالنّقد والتّحليل والتّفكيك والنّقض ممّا مكّن من التأثّر الخفيّ بها والاستفادة منها منهجيّا أو مضمونيّا.
(3) التّعايش بين مختلف الفرق الكلاميّة رغم الاختلاف والتّباين الذي يصل حدّ التّكفير.
(4) تطوّر ثقافة الجدل والمناظرة الحجاج بشكل لافت ممّا خلّف مدوّنة زاخرة بأساليب الإقناع والمحاجّة وإفحام الخصوم.
(5) تطوّر مادّة تهتمّ بما يشبه في العلوم الحديثة والمعاصرة بعلم الأديان المقارن في كتب الملل والنّحل وإن كان يغلب عليها المنزع الانتصاري المذهبيّ.
(6) استنفار العقل وتقديمه في كثير من السياقات على النّقل في تعليل العقائد وصياغتها صياغة معقولة، وإن كان مصدرها في الأصل نقليّا مذهبيّا، لذلك كان دور العقل بعديّا مقتصرا على إضفاء المشروعيّة العقليّة الحجاجيّة على عقائد تشكلت قبليّا في سياق سياسي والذّود عنها تجاه الخصوم. هذا الوضع الخاصّ جعل المتكلّم النّاطق باسم فرقته يتمحّل الحجج أحيانا ويفتعل الأدلة للدّفاع عن عقائد فرقته ودحض عقائد خصومه.
(7) التأثير اللافت للمعتزلة ومناهجهم في النّظر على كلّ الفرق الكلاميّة التي نهجت النهج العقليّ للاعتزال وتشرّبته وكيّفته مع عقائدها.
ولكن مع ذلك مكّن هذا النّشاط المعرفيّ من انخراط جميع الفرق، حتّى تلك التي عادت الكلام والمتكلّمين، في منهج الجدل الكلامي القائم على الاستدلال العقلي حتّى أحدث ذلك نوعا من التّراكم الذي أفضى إلى قيم استدلاليّة حجاجيّة مشتركة تكاد تكون محلّ إجماع واتفاق عامّ هي بمثابة قانون عامّ للتناظر يرجع إليه عند الاختلاف والافتراق.
وتشكّلت حول هذا الفنّ مدارس كلاميّة وارتقى الكلام إلى مصاف العلم القائم بذاته، بل إلى أشرف العلوم، لأنّ شرف العلم كما يتصوّر المتكلّمون بشرف المعلوم وأشرف معلوم عندهم هو الله الذي ينصبّ قسم من اهتمام علم الكلام على ذاته وصفاته وأفعاله. وأصبح هذا العلم يسمّى بالفقه الكبير في مقابل الفقه الصّغير وهو علم أحكام العبادات المعاملات.

واستقرّ في تعريف هذا العلم أنّ : موضوعه العقائد الدّينيّة، وأداته الاستدلال والحجاج العقليّان، ومهمّته نقض الباطل ودرء الشّبهات وتحقيق اليقين بإظهار الحقّ، وعمدت كلّ فرقة إلى بناء منظومتها العقائديّة بتحديد أصول اعتقاد خاصّة بها إضافة للأصول المشتركة؛ "الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر"، وهذه الأصول المذهبيّة هي في غالبها مستنبطة من تلكم المقالات الكلاميّة السياسيّة المتوارثة من عصر الصّراع السياسي مع الانفتاح على مضامين جديدة أكثر تجريدا وأقرب إلى المفاهيم الميتافيزيقيّة التي تناولها الفلاسفة بالنّظر.
وانقسمت مضامينه إلى ما أصبح يصطلح عليه بالإلهيات والمتعلّقة بذات الله وصفاته وأفعاله وإعجاز القرآن والنبوّة، وأدخلت فيها قضيّة خلق القرآن وقِدَمه ورؤية الله في الآخرة، والإنسانيات والمتعلّقة بالكفر والإيمان بين العلم والعمل والمصير الأخروي لمرتكب الكبيرة والوعد والوعيد وأفعال الإنسان بين الجبر والاختيار والكسب والإمامة.



خلاصة
نخلص إلى أنّ انتقال علم الكلام من الطّور السياسي إلى الطّور المعرفي العلمي مكّن من :
(1) اندحار الفرق الغالية أو غلاة الفرق على اختلافها.
(2) الحدّ من غلواء التّكفير الاعتباطيّ وتنظيم قانون للتأويل يضبط الإيمان.
(3) تكريس مركزيّة العقيدة في بناء المجتمع والدّولة أي مركزيّة العقيدة نظريّا وعمليّا في تحديد معالم الأمّة والجماعة والسّلطة السياسيّة والضّمير الإسلامي… فهويّة الاجتماع البشري الإسلامي وبنيته النفسيّة العميقة ولاشعوره الجمعي عقائديّة بامتياز، وطالما أنّ العقائد خاضعة للجدل والنّظر والاختلاف المذهبي والسياسي النّفعي والتّنازع على الحقّ والانتساب إلى الفرقة النّاجية، ظلّ الاجتماع البشريّ الإسلامي محكوما بجدل حقّ الخروج وحرمة الفتنة.
(4) ظلّ الاجتماع البشري الإسلامي مفتقرا لنظريّة سياسيّة تحقّق الإجماع التّوافقي على قيم سياسيّة مدنيّة مشتركة، ممّا يدعو إلى التّساؤل هل يمكن أن يصدر عن مصادر المعرفة الإسلاميّة ولا سيما النصّ المؤسّس منظومة من القيم التي يمكن أن يتأسّس عليها تصوّر مدنيّ للشّأن العام يفصل بين الزّماني والرّوحي دون فصل للشّأن العامّ عن مرجعيّاته الثّقافيّة؟
(5) عدم قيام هذا العلم على استقراء النصوص التي وقع التعامل معها بشكل بعدي ذرائعيّ لتبرير عقائد متشكّلة سلفا بمعزل عن النظر في النّصوص فوّت على المنظومة العقديّة الإسلاميّة جدلا حيويّا حول مقاصد النصّ وروحه ومراكز الثقل المعنوي والقيمي فيه.
فما الذي يجعل مثلا الإيمان بالملائكة والجان من أصول المعتقد، والحال أنّ النصوص التي تحيل عليهما محدودة بالمقارنة مع النصوص التي تحيل على الإنسان؟ لماذا وقع التغافل عن النّصوص التي تعلن الكرامة الآدميّة باعتبارها قيمة ابتدائيّة عليا منذ الخلق الأوّل قبل تأسيس الأديان والمعتقدات؟ لماذا لم تتضمّن المنظومة العقديّة الإسلاميّة تنصيصا على الإعلاء من مركزيّة الإنسان في الوجود وحرمته وكرامته وحريّة ضميره ومسؤوليّته الفرديّة أمام خالقه؟؟؟ كان ذلك يمكن أن يفضّ الكثير من الإشكاليّات المتعلّقة بالعنف المسلّط على الفرد من طرف السلطة أو المجتمع في الماضي والحاضر والمستقبل… إنّ المؤمن الذي يجرّم رسما كاريكاتوريّا يستهدف أحد رموزه الدينيّة ولا يجرّم بنفس الحدّة وأكثر قتل النفس البشريّة مؤمن مختلّة لديه موازين الأمور.
هذه الأسئلة قد ينظر إليها على أنّها إسقاط تاريخيّ لعقل وضمير متشبّعين بقيم العصر التي لا يمكن أن يكون التراث إلا قاصرا عن إدراكها… غير أنّ التحليل الذي أوردناه طوال هذا المقال يبرز أنّ التمشّي العكسي الذي سلكه المتكلّمون "من الواقع إلى النصّ عوضا عن جدليّة النصّ والواقع"، هو الذي جعل علم الكلام قاصرا عن تمثّل الكثير من القيم التي ظلّت كامنة في النصّ وظلّ سقف المتكلّمين دون ما في النصّ من قيم إنسانيّة… وإن كنّا لا ندّعي أنّ هذه القيم مماثلة لقيم العصر ولكنّها في أدنى الأحوال غير متعارضة معه في الجوهر.
إنّ علم الكلام الذي نشأ ليكون منافحا عن منظومة عقديّة تشكّلت في سياق سياسيّ أيديولوجي مذهبي لا يمكن حسب تقديرنا أن ينهض برهانات العصر التي تقتضي البحث في كلّ الثقافات والتّجارب البشريّة السّابقة واللاحقة عمّا يحقّق إنسانيّة الإنسان ويضفي على وجوده معنى ويوفّر له الأمن الدّاخليّ ويضمن له الكرامة والسّعادة والاستقرار النفسي وسط ما أصبح يعرف في الفلسفة المعاصرة بافتقاد المعنى الذي أفضى بدوره إلى فوضى القيم واضطراب علاقة الإنسان بذاته وبالعالم من حوله. ولذلك فالدّعوات لتجديده وإعادة إحيائه لا تستقيم إلا في اتّجاه ابستملوجيّ مغاير يكون فيه هذا العلم "ولا تهمّ الأسماء" قادرا معرفيّا ومنهجيّا على تحمّل مهمّة إبداع المعرفة التي تفضي إلى تجديد تصوّر المؤمنين لعقائدهم وإعادة إنتاجها من جديد من خلال آليّة الحفظ والتّجاوز… حفظ الإنسانيّ وتجاوز المحليّ في كلّ التجارب سواء التراثيّة أو الحداثيّة.

هامش:
المنصف بن عبد الجليل "مساهمة المعاصرين في تجديد الفكر الإسلامي" حوليات الجامعة التونسية عدد 45 كلية الآداب منوبة 2001 صص 35 .





عن الأوان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.