إذا عدنا لأدبيات يهودية ومسيحية تقليدية ، وجدنا -كما نجد لدى الإسلاميين التقليديين- قناعات تنص على أن الدين والدنيا وجهان لا ينفصمان لعملة واحدة، فسياسة الدنيا في هذا المنحى العقدي عائدة للدين بالضرورة، لأنه يشمل جميع مناحي الحياة...إلخ. هذه الأدبيات مازال بعضها قائما حتى يومنا هذا لكنه ضئيل ومحدود التأثير ومسيج بالقوانين والمؤسسات، إنها نفس القراءة التي يتبناها إسلاميون كثر في أيامنا على خلاف اليهود والمسيحيين الذين باتوا قلة في مجتمعاتهم في الوقت الراهن، وان كانت بعض المؤشرات تنذر بتنامي حركاتهم من جديد .
وهؤلاء الاسلاميون كانوا إلى وقت قريب يلعبون شبه وحيدين ويقصون القراءات الأخرى بالتبكيت وإيقاع الخجل في نفوس أصحابها والعزل والطرد من حضيرة الجماعة وصولا الى الوصم بالزندقة والردة. وقد تمارس استراتيجيات أخرى تقوم على التذويب والصهر بوسائل عديدة كالترضيات والاستيعاب والمناصب والوجاهات والمصاهرات...إلخ. لكن بات يقاسمهم المقاربة للنص، بل ينافسهم ويزاحمهم بجرأة ووضوح، أطراف آخرون من داخل النص نفسه ولكن بوسائل مختلفة. ومن خارجه بوسائل مناقضة طبعا.
قلت هؤلاء المسيحيين واليهود الكليانيين لهم قراءاتهم التي تتنزل في هذا التأويل ، يبقى شيئان مهمان : أولا مدى انتشارهما في الأوساط المتدينة بهذين الدينين ، ونسبة المنتمين اليهما، ثانيا قطعهما النهائي مع مبدأ الإقصاء الذي كان يمارس في القرون الوسطى. نأتي الآن إلى مجتمعنا والطرح المقابل للعلاقة المزعومة بين الاسلام والسياسة؛ فإذا عدنا إلى الإمام محمد عبده وجدنا بدايات قراءة جديدة لعلاقة السياسي والاجتماعي بالديني، وإذا ارتقينا في الزمن وجدنا الفكرة أوضح وأنضج عند علي عبد الرازق في كتابه" الإسلام وأصول الحكم" حيث يبين بالوضوح أن لا وجود لنظام حكم في الإسلام حسب رأيه. ونرتقي مرة اخرى في الزمن فنجد تيارا تشكل في توافق مع هذه الأفكار مع مزيد تجذير لها بل ارتياد آفاق جديدة. نجده مثلا مع القرآنيين، وفي تونس مع الدكتور محمد الطالبي الذي يعتقد أن الفكر السلفي الذي ينتسب الى اهل السنة ؛ ابو بكر وعمر بن الخطاب ووو.... فكر غير قرآني ولعله بالتالي عنده غير إسلامي.
ويهمني أيضا أن أطرح قضية الاعتقاد في علاقتها بالشأنين السياسي والديني ، ومن خارج هاتين القراءتين كلتيهما: أي السلفية والتحديثية. وأعتقد أنه إذا لم يكن هناك اختلاف حول الحرية في الاعتقاد الفردي، فالمطلوب ألا يكون هناك اختلاف حول الحرية في الاعتقاد الجماعي أيضا، هذا بات من مكتسبات العصر، وعكسه هو رجوع إلى سحب الحرية الفردية من الفرد بدعوى الجماعية، ويعني ذلك أيضا ضرب من أحوال الذمة لا الأحوال الشخصية. لقد أثبت المجتمع التونسي تسامحية عالية وتحضرا كبيرا بثورة لم يسل فيها إلا دم الشهداء من طرف الجلادين والسماسرة ، لذلك فعلى أصحاب الرأي الحر وفكر المؤسسات -يمينا ويسارا - أن يكونوا أكثر وفاء لهذه التسامحية الفريدة التي ضربت لها الثورة التونسية مثلا رفيعا. فهل سنكون عند تحديات المرحلة المقبلة؟
الصراع حول مضامين الدستور والقوانين مقبول ومشروع، (والصراع هنا ظاهرة بناءة يصطلح عليها بالتفاوض المجتمعي) لكن الاستبداد مرفوض كليا. و اظن ان الضامن لذلك إلى حد الآن هو اللائكية التحررية أو علمانية الاختلاف أو فكر المواطنية -سمها ما شئت من هذه التسميات- بمبادئها المعروفة (ديمقراطية- شفافية- مؤسسات- قانون- مجتمع مدني -مؤسسات رقابة ....) فهي الحل الأساسي لأنها لا محتوى لها وإنما هي شكل يحتوي كل التوجهات وهي الشكل الأرقى الذي أبدعه الفكر الإنساني إلى حد الآن في تركيب مزجي فريد بين كل الحضارات التي عرفتها البشرية، وبعد صراع طويل مع الاستبداد شرقا وغربا إن التأمل ثم البحث في النقطة الأولى لتبين لك أن الانسانية مرت بفترة وسيطة غلب عليها فكر ديني شمولي كلياني يطغى على مختلف مناحي الحياة . وفي حين يرى الفكر السلفي الاسلامي أن هذا خاص بالإسلام أود ان أقول إن هذا غير دقيق.
لقد عرف هذه الكليانية نفسها المسيحيون واليهود في العصور الوسطى لكن اكتشف المسيحيون وحتى اليهود الذين عاشوا في الغرب وتأثروا بهزاته الفكرية والاجتماعية وثوراته العارمة منذ الاصلاح الكنسي أن هذا التأويل لا يتناسب مع روح التدين ولم يعد يناسب الحداثة التي تم الاقتناع بها بالمنطق ووقائع البناء الاجتماعي والسياسي والحضاري الجديد ومثلما كان عندهم إرهاصات فكر تحديثي وهرطقي عرف المحاصرة على مر العصور ثم تمكن من إيجاد موطئ قدم له في العصر الحديث، وجد أيضا في السياق الاسلامي فكر غير فكر السلف والتشيع، فكر معتزلي وفكر مقاصدي ، و فكر هرطقي أيضا بل إلحادي. إن النص الديني في الاسلام لم يعد يقرأ قراءة سلفية خارج نصية ( ثابتة) فحسب بل بات يقرأ قراءة نصانينة أقرب ما يمكن ان يناسبها من القديم هو فكر المقاصد. ومثلما قرئ قراءة تأويلية في إطار فكر الإمارة والفكر السلطاني، يقرأ اليوم قراءة تأويلية في إطار فكر مجتمع المؤسسات. هذا من داخل النص أما من خارج النص، فلم يعد الفكر الحديث يقبل الحكم باسم الله وإنما باسم الشعب، ولا التشريع من النص -على الأقل وحده- بل من روح الدستور و القانون البشريين بناء على نسبية الحقيقة الانسانية لا ثبوتية المصادرات من الغيب، ولم يعد يقبل أحوال الرعية وأهل الذمة بل الأحوال الشخصية وحقوق الإنسان. ونجد أن كثيرا من المؤمنين وحتى الاسلاميين يقبلون بعض عناصر هذا الفكر إلا ان مشكلتهم هي الانتقائية غير المتماسكة مبدئيا ومنهجيا.
وما تجدر الإشارة إليه أن كثير ا ما جاء على لسان منتقدي اللائكية والعلمانية ما ينم عن روح تسامحية سامية فعلا أرى أنها سمة يتصف بها قطاع واسع من الشعب التونسي، وانعكست أيضا في ثورتنا التي لم تسع الى القصاص من جلاديها. إلا أنهم قد يغفلون عن شيء مهم في تاريخ أوروبا: أن اللا ئكية استقرت رؤية ومنهجية بعد صراع عنيف وطويل ومرير، بدت إثره الائكية تسامحية. والحقيقة أنها بلغت تلك الدرجة بعد أن استقر لها وضع التدين في حدوده وسمته التفاعلية التسامحية غير الكليانية. سيعارضني البعض قائلا هو تدين وليس دينا ، وهو أيضا مدجن على المقاس ، أقول: التدين في نظري ممارسة إنسانية بغض النظر عن مصدره، فقد يكون فضا وقد يكون سمحا ذا رحمة، ولهذا وذاك عوامله ودوافعه وأرضيته ومنهجيته وبيداغوجيته فيما يخص تاريخنا الآن يغفل الناس عن أشياء كثيرة تدفع اللائكيين والعلمانيين إلى التطرف. تاريخنا الحديث -قبْلنا وحوالينا- يحكم باسم الله لا باسم الشعب ، وبالشريعة لا بالحقائق الاجتماعية المتمثلة في الدساتير والقوانين، وبمبدأ الرعية لا المواطنية، وبفكرة نقصان العقل والدين لا بحقوق الإنسان، وباسم العلماء مقابل العوام الذين مازال بعضهم يذهب إلى إلجامهم عن بعض العلوم، وباسم الخاصة لا باسم العامة....صحيح أنه يدعي الحداثة ويأخذ منها لكنه في عمقه من القرون الوسطى مع تحديث سطحي ومصلحي غير ملائم لا للماضي ولا للعصر. واشد ما فيه مثيرا للسخط عند العلمانيين ومدعاة للتطرف محاكمته للسرائر وإجباره للناس متى أراد أن يعيشوا عيش القطيع. نأتي الآن الى حزب النهضة فهو -أحببنا أم كرهنا- يمثل عصب الحركة الاسلامية ونهرها الواسع . والنهضة تاريخ عالق بالأذهان وواقع يتسم بالغموض: النهضة ما بعد المنفى وماقبل الثورة شيء، (أي الإدعاء بمراجعة الأفكار ونقد حتى الثوابت بل الشروع في إنجاز قراءة حداثية للنص) وأظن ان هذا ما جعل الكثير من الناس يحاولون مد جسور لعلاقة ما تضامنية او تعايشية أو ما شابه ذلك مع النهضة......، لكن يبدو أنها أثناء الثورة وبعد الثورة شيء آخر هلامي الملامح تتقدم لتتأخر على صعيد الحسم في مسألة الحريات ولاسيما العقيدة، هناك بعض الشواهد من المسكوت عنه: لا موقف من هجوم السلفيين على دور الجنس والاعتداءات المتكررة على هذه المؤسسة وعلى مومسات هن ضحية ولسن جلادا !!!. توظيف للمساجد من جديد في الشأن السياسي. القول بالمرجعية الاسلامية للدولة، إشارات الى رغبة في مراجعة مجلة الأحوال الشخصية ، الصلاة في الفضاء العمومي...إلخ....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.