وحدة في الخطر، تعدّد في النظر
(حكايتي مع الوصول الى موقف مما يجري)
لم تتعرَّض ثورة شعبية في العالم لحالة من التباين في المواقف كما تتعرض له الثورة الشعبية في الوطن العربي. والمستغرَب في أن يحصل هذا التباين بين أبناء الصف الواحد الذين تجمعهم وحدة الهدف في التغيير لمصلحة أبناء الطبقات الشعبية من العمال والفلاحين. والأشد غرابة في أن يحصل بين أبناء الحزب الواحد الذي من أهم أهدافه الدفاع عن هذه الطبقات.
واقع لا بُدَّ من الوقوف على أسبابه لعلَّ تشخيصها يشكل البداية لحوار منتج يعيد توحيد تلك المواقف. وهي نتيجة إذا ما حصلت، ويجب أن تحصل، ستصب بلا شك في مصلحة تلك الثورة اتقاءً للمخاطر التي تواجهها، خاصة أن المخاطر تحيط بها من كل حدب وصوب.
وعن ذلك سأكتب عن تجربة شخصية حيَّة خضت جوانبها المتعددة وأنا محاط بهذه الإشكالية لعلَّ في كتابتي بهذا الأسلوب ما يفيد في تشخيص الإشكالية الحالية، وما يفيد في وضع أسس لحوار منتج.
كنت قد كتبت مقالاً قبل اندلاع ثورة تونس، وتحديداً في 4/ 1/ 2011، وقبل بزوغ أول أمل لنا في النظر الى المستقبل العربي بتفاؤل، هذا الأمل الذي أحيته ثورة تونس الشعبية. وجاء هذا المقال تحت عنوان (الحروب الأهلية في الوطن العربي بداية لتطبيق مشروع الشرق الأوسط الجديد). وكان سبب هذا المقال يعود إلى أن المتتبع والقارئ لما كانت تعمل الإدارة الأميركية على تنفيذه، خاصة منذ سنوات عديدة، يؤكد أن مخطط تقسيم الوطن العربي، على أسس دينية وعرقية، يجري على قدم وساق. وقد جاء في مقالتي المذكورة، ما يلي: إن مخطط الشرق الأوسط الجديد (يتم تنفيذه على أسس نشر الحروب الأهلية في كل مكان في الوطن العربي، من العراق إلى اليمن إلى فلسطين إلى لبنان إلى السودان فمصر، ... وحبل الفتنة سيمتد عبر جرار الأقطار الأخرى). (انتهى الاقتباس).
ولما جاءت الثورات المتتالية، وتتابعت فصولها، وأخص منها ثورتا تونس ومصر، انشدَّت الأنظار إليهما بما أثارتاه من أمل، وكأنَّ ثورة عربية كبرى باتت على الأبواب. لقد جاء التطور الذي حصل ليدفع الاهتمام بما كانت تنفذه الإدارة الأميركية إلى وراء الواجهة. بينما كانت تلك الإدارة تعد مسرح تنفيذ المشروع، مستفيدة مما يحصل، وذلك بأنها عملت للحصول على براءة ذمة شعبية عربية، ولذلك كانت في خطابها المؤيد للخلاص من الديكتاتوريات ووقوفها المشبوه إلى جانب الحركة الإصلاحية أكثر (عروبة) من العرب أنفسهم.
الحدث الاستراتيجي هو تنفيذ عملية تفتيت الوطن العربي:
إن ذاكرة التاريخ سلسلة لا تنقطع عند الأحداث الصغرى، وإن احتلَّت هذه الأحداث واجهة المشهد لحظة، فإنما لسبب جاء معاكساً لسير الأحداث الكبرى، التي ما إن تتم إزالة تلك اللحظة حتى تعود الأحداث الكبرى إلى الواجهة من جديد لتتابع حركتها كما هو مرسوم لها أن تسير. ولذلك كان مشروع الشرق الأوسط الجديد يمثل الحدث الأكبر، قبل اندلاع الثورة في تونس ومصر. فجاءت تلك الثورة، بمنظور الولايات المتحدة الأميركية، لتشكل المنعطف المرحلي، الذي اعترض مشروعها الاستراتيجي. وزاد إرباكها عندما انفجرت الثورة في مصر، وهي أكثر أهمية لعلاقتها وتداعياتها التي قد تنعكس سلباً على أمن الكيان الصهيوني متمثلاً باتفاقية كامب ديفيد.
لعلَّ الولايات المتحدة الأميركية كانت تعمل على إعادة إنتاج النظام المصري بوجوه أكثر شباباً بعد أن شاخ نظام حسني مبارك وهرم، ويبدو أن الحراك الشعبي المصري قد سبقها أو فاجأها سواءٌ بسرعته أم بحجمه. لكنها سارعت للتدخل المضاد على طريقة أنها لم تقف في وجه العاصفة فتنكسر، ولكنها انحنت أمامها لعلَّها تمنع أي تغيير جذري، وهي لا تزال تحاول.
أحرق محمد البوعزيزي النار في نفسه، بتاريخ 17/ 12/ 2010. وتوفي بتاريخ 4/ 1/ 2011. واشتعلت الثورة التونسية بداية من سيدي أبو زيد، مسقط رأس البوعزيزي، وانتشرت النار في الشارع التونسي وطالب المتظاهرون بداية بالإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، وانتهوا برفع شعار إسقاط النظام فسقط. وهرب زين العابدين بن علي بتاريخ 14/ 1/ 2011.
منذ ثورة تونس، الثورة الشعبية الأم، وحتى حصول ثورة مصر، لم تكن مواقف شتى الأحزاب والقوى والشخصيات القومية بمن فيهم المؤسسات الواجهية قد ابتدأت في التباين، بل كان هناك ما يشبه الإجماع على اعتبار أن الثورة الشعبية العربية قد ابتدأت، وكان على جميع الأحزاب والحركات السياسية أن تشارك فيها، أو تؤيدها وتدعمها والدعوة لدفعها الى تعميق مسيرتها وشعاراتها عسى أن تنتقل من مرحليتها الإصلاحية الى مرحلة الإفصاح عن أهدافها القومية.
في غمرة الأحداث في تونس ومصر، التي بهرت العقل العربي، وشدَّت إليها الأنظار والعواطف والقلوب، كان الغرب وفي المقدمة منه الولايات المتحدة الأميركية تعلن الكثير من العطف والتأييد لما يجري في الشارع التونسي والمصري، بل وإنها كانت تدعو بإلحاح مستغرب كلاً من الرئيسين التونسي والمصري للرحيل بأقصى سرعة، وغني عن القول أن الرئيسين كانا الأكثر أمانة وإخلاصاً للغرب وأميركا.
وبمثل ذلك المشهد، وإذ استأثرت تونس ومصر بكل الاهتمام، لا أظن أن الولايات المتحدة الأميركية قد غرقت بما اعتبرته مفاجئاً لها، بل راحت تعمل على توظيفه لمصلحة مشروعها الاستراتيجي. وهنا لا يختلف إثنان أن أميركا تعمل بكل جهد ويقظة لتخفيف خسائرها في تونس ومصر بواسطة إيقاظ عوامل الثورة المضادة التي تعمل ليل نهار في كل من القطرين لتثبيت أنظمة تضمن لها حصة فيهما تحول دون حصول انقلابات دراماتيكية ضد ثوابتها في حماية أمن العدو الصهيوني وأمن مصالحها في الوطن العربي.
لقد كنت مواكباً لتلك الثورات، كمثل جميع المثقفين الذين انشدوا إليها بطبيعة حسهم القومي والوطني، ولم يكن ما أخشاه عليهما أكثر من هاجسين، وهما:
-الأول: أن تنجرَّ الثورتان إلى حرب أهلية تقوم بتخريب كل ما له علاقة بأمن المواطن ومملتكاته، وأمن المؤسسات الخدمية العامة ووحدتها، ويأتي على رأسها انقسام القوى الأمنية من أمن داخلي وجيش وطني.
-الثاني: أن تدخل قوى الثورة المضادة لركوب موجة الحراك الشعبي لتحويل الثورة عن أهدافها.
لم يكن إلى تلك اللحظة ما يخيف من دخول الخارج على خط الثورتين، خاصة أن ثورة مصر تعني الشيء الكثير لذلك الخارج، بكل ما له علاقة بأمن الكيان الصهيوني وخاصة اتفاقية كامب ديفيد. ولم تكن مخاوفي الشخصية تتجاوز الهاجس من أن تتدخل القوى الدولية والإقليمية المتفقة على تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، ويأتي في المقدمة منهما الولايات المتحدة الأميركية وإيران.
في تلك اللحظة كان الوضع في اليمن ينذر بخطر التقسيم، كون ما يجري بين النظام من جهة والحركة الحوثية من جهة أخرى يؤشر إلى أن ما يجري في اليمن مسنود من قبل إيران. ومن أهم أهداف إيران تقسيم اليمن كان ضمان حصتها، ولذلك كانت تدعم الحركة الحوثية لدواع مذهبية تؤسس لها موطأ قدم على أكتاف مضيق باب المندب. بينما كانت اهتمامات الولايات المتحدة الأميركية لا تخرج عن هدف نشر الحرب الأهلية كوسيلة للتقسيم. وجدير بالذكر أن لا أحد أعطى صكَّ براءة للنظام اليمني من التقصير بواجباته تجاه الشعب اليمني، بل كان الموقف هو أنه على النظام أن يحافظ على وحدة اليمن بالمقدار الذي عليه أن يقوم بإصلاح داخلي جذري على شتى المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
أما في السودان فقد أنجزت الولايات المتحدة الأميركية التقسيم بثوب ظهر وكأنه ديموقراطي هادئ، على أن تنهي مهمتها بتقسيم ما ظل موحداً بوسائل وأساليب أخرى.
وفي العراق حصل التقسيم الجغرافي، وكانت المحاولات تجري لتعميق التقسيم النفسي على قواعد مذهبية وعرقية على قدم وساق. وما كان ينقص اكتمال التنفيذ هو تعميم التقسيم في أقطار عربية أخرى.
الحدث الليبي بداية لاستئناف مشروع تفتيت الوطن العربي:
ولكن ما إن اندلعت الثورة الشعبية في ليبيا، كان الفرح عارماً لأن الذي كان يطفو على سطح الأحداث في الشارع العربي هو انتقال الثورة من قطر إلى قطر آخر، بسرعة لم تعهدها الثورات الشعبية في العالم. ولم ينقض وقت طويل على اندلاع الثورة الليبية حتى أخذت التقارير كما الأحداث الغامضة تتسرب وتنتشر. ولو كانت التقارير هي ما كان يتسرب من دون أن تترافق مع مظاهر كانت غامضة أيضاً في مسلك الثورة الليبية، لكان أمر الاستمرار بتأييد الثوار الأوائل أمراً طبيعياً. ومن هنا ابتدأت، عند بعض المتبصرين بخلفيات ما يجري، مرحلة (نحن نؤيد الثورة الليبية، ولكن...).
أحدثت مظاهر الغموض بلبلة ونشرت دخاناً عتَّم على الرؤية، فانشطر المؤيدون إلى تيارين. وكان الأكثر خطورة هو أنهما لم يتفقا على تحديد مفاهيم التأييد ومفاهيم الاختلاف. كما جرى الحوار على قاعدة الافتراق الحاد وبدت المواقف كأنها بين من هو مع الثورة الشعبية، ومن هو ضدها. ولم يتوقفا عند ضرورة توحيد مضمون تعريف مصطلح الثورة، كما لم يأخذ مصطلح الثورة المضادة اهتماماً بالحوار. وقد زاد طين الحوار بِلَّة دخول إعلام الثورة المضادة بكثافة وغزارة لتشويه وقائع ما كان يجري في ليبيا، الأمر الذي لم يضلِّل الجماهير العفوية فحسب، بل أسهم بتضليل النخبة أيضاً. ونتج عن ذلك أن الموقفين السياسيين المتعارضين بين أبناء الصف الواحد، أو حتى الحزب الواحد، تميَّزا بالانقطاع من دون وجود نقاط مشتركة تشكل جسراً للحوار بينهما، أي بين من تبنى هذا الموقف أو ذاك.
أما على الصعيد الشخصي، فكنت متردداً بتحديد موقف نهائي خوفاً من الغرق باتخاذ موقف مبني على قاعدة الفصل الحاد بين التيارين. وكنت قلقاً من وصول الموقفين إلى مأزق يستحيل التلاقي بينهما. وكنت أشعر بالفعل بالحاجة إلى التروي والحوار مع أكثر من طرف من أجل توفير جسور للحوار قبل الحسم باتخاذ موقف قد يتم تفسيره على الشكل التالي: من هو مع الديكتاتورية، ومن هو مع حق الشعب بالثورة، بحيث يحل بديلاً للموقف المبدئي الثابت، هو أن الكل مع الثورة، والكل ضد الديكتاتورية.
ومن أجل ذلك مهدت لموقفي بالإضاءة على ثوابت الثورة التي إن خرجت عنها فكأنها انحرفت عن القوانين التي أثبتت التجارب التاريخية صحتها. فحصرت مقالي الأول، عنواناً ومضموناً، بأهم مقاتل الثورات، فجاء تحت عنوان (إسقاط الطغاة لا يبيح المحظورات).
ولأننا ضد الديكتاتورية بالمطلق، ومع حق الشعب بالثورة بالمطلق أيضاً، اعتبرت أن الموقف المبدئي يوجب وقوفنا إلى جانب الثورة الشعبية وأن ننخرط فيها.
ولكن ولأننا نؤمن بالمبدأ العلمي الذي أثبت أن كل ثورة تحمل في أحشائها ثورة مضادة، كان من العلمي أيضاً أن نأخذ احتمال اختراق الثورة الشعبية من قبل الثورة المضادة على محمل الجد والموضوعية. وإننا إذا أغفلنا هذا الجانب نكون كمن يعرِّض الثورة إلى الخطر، وإذا ما حصل هذا الأمر، فإننا نكون قد دفعنا من تضحيات الشعب الشيء الكثير ليستفيد منها كل متسلل على قاعدة القول المأثور (يفجِّر الثورة مجنون، ويستغلها إنتهازي). وعامل الثورة المضادة في الثورات القائمة على ثنائية الصراع بين النظام والشعب، هم الانتهازيون من أبناء الوطن، أو من أبناء الطبقات البورجوازية أو الرأسمالية.
هذا بالنسبة للثورات بمفهومها الكلاسيكي، أما الثورات في واقعنا العربي فتتميز بدخول عوامل مضادة من الخارج، لأن الوطن العربي يقع على رأس أطماع القوى الرأسمالية في العالم. ولهذا لا يمكن الفصل بين ما يجري في أي قطر من أقطار هذا الوطن عن اهتمام القوى الدولية. وبالتالي من غير الممكن أن نفصل بين الثورات التي تحصل في هذا القطر أو ذاك عن أي تدخل خارجي.
واستناداً إلى ذلك هناك إجماع على أن المتسللين والمتدخلين هم كُثُر من داخل ومن خارج؟ وإذا كان يصح قول من قال: الثورة يفجرها مجنون ويقطف ثمارها انتهازي، فليس من العلمية بمكان أن لا نرصد حركة الانتهازيين الذين يركبون موجة الثورة.
وإذا كانت الثورات الوطنية معرَّضة للضياع بفعل الانتهازيين من الداخل، فكيف يكون الأمر إذا كان مطموعاً بالوطن من الخارج؟ في هذه الحالة سيزداد وضع الثورات سوءاً إذا كانت للثورة المضادة إسنادات جدية من القوى المعادية.
وحيث إن وطننا العربي مطموع به تاريخياً من الخارج، وهو محط أطماع الكثير من الدول الكبرى، وكذلك من الدول الإقليمية، الأمر الذي يجعلنا نصنف عوامل الثورة المضادة إلى عوامل داخلية وعوامل خارجية. هذا الأمر يضيف إلى أعباء المثقف الثوري عبئاً على عبء.
أما إذا كنا نعرف أن لعوامل الداخل إسناد جدي من عوامل الخارج، فهذا يرتب علينا أنه إذا كانت مهمتنا رصد حركة عوامل الثورة المضادة الداخلية فعلينا أيضاً أن نرصد عوامل الثورة المضادة الخارجية. وهنا نستدل على خطورة تحالف قوى الثورة المضادة من خلال التجربة التاريخية، خاصة أن مثال التدخل الخارجي في العراق لا يزال شاهداً عياناً أمام كل من يريد أن يرى أو يسمع.
إن معرفتنا بالأسس النظرية، التي أثبتت التجارب التاريخية صحتها، وجه أول للمعرفة، أما الوجه الثاني، فهو الوجه العملي الميداني.
ولأن الثورة في تونس، كما في مصر، كانتا موجَّهتين ضد نظامين منحازين تماماً إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية ويأتمران بإملاءاتها. كما كانت المؤسسات المدنية والأمنية التي تحميهما واضحة المعالم أيضاً. ولذلك لم تبذل الثورتان جهداً كبيراً لكشف الأقنعة عن عوامل الثورة المضادة بأشخاصها ووسائلها، بل كانت قوى الثورة المضادة واضحة للعيان أمام الثوار. فخصوصية الثورتين أنهما كانتا موجَّهتين ضد عوامل الثورة المضادة الداخلية والخارجية. وكان إضعاف أحد العوامل إضعاف للآخر. فهما ثورتان حقيقيتان موجهتان ضد عوامل الثورة المضادة مباشرة، ولا تصح عليهما صفة الاستعانة بالخارج، لأن الخارج كان موجوداً بالأصل في كل زوايا النظامين الأمنية والسياسية. وذلك الواقع لا يضع على الثوار في تونس ومصر عبئاً غير اكتشاف من هو مستور ومعلَّب من عملاء الخارج.
أما الأمر في ليبيا، وإن كان نظام القذافي نظاماً قمعياً من جهة، ولم يكن يتميز بمواقف ثابتة من الغرب والولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، بل كانت له مواقف مائعة منهما، وهذا ما لا يستجيب بشكل كامل للمصالح الغربية، والدليل على ذلك احتضان الغرب لبعض صنوف المعارضة الليبية، التي تثبت الوقائع يوماً بعد آخر صحة وقوع بعض تلك المعارضة في أفخاخ أجهزة المخابرات المعادية لليبيا ولأمتنا العربية.
أما بعد اندلاع الثورة الليبية مباشرة، وقبل اتضاح الصورة التي عليها الآن، وقبل انكشاف الأقنعة عن وجوه من تسللوا إلى صف الثوريين الوطنيين. وفي معرض اختلاف المواقف منها بين من يُعتبرون من الحريصين على الثورة الشعبية في وجه ديكتاتورية القذافي، فقد تردَّد بعض المتتبعين الحريصين على الثورة العربية الشعبية باتخاذ موقف سريع. وكنت أنا من هذا البعض. ولذلك كنت حريصاً على أن يكون موقفي مبنياً على ثوابت نظرية تنص عليها مبادئ الثورات الناجحة، خاصة بعد أن أخذت مظاهر وعلامات الثورة المضادة تزداد بين صفوف الثورة الليبية.
ولهذا، ولكي أكوِّن قناعة، وأنا غير مصدِّق ما تراه عيناي، ولم يتقبَّله عقلي، مما كان يتردد من تقارير تؤكد تسلل عوامل الثورة المضادة إلى صفوف الثوار الليبيين من داخل ومن خارج، نشرت أول مقال تحت عنوان (إسقاط الطغاة لا يبيح المحظورات)، والتي حصرتها بالمحاذير التالية: تسلل الانتهازيين، والاستعانة بالأجنبي، والحؤول دون انحراف الثورة باتجاه الحرب الأهلية، والوصول إلى تقسيم ليبيا.
ولأن مظاهر التدخل الأجنبي الماثلة بقرارات مجلس الأمن أخذت تتكاثر، واستقبال العواصم الغربية لمندوبين عن المجلس الوطني الانتقالي، والبدء بما يشبه الحرب الأهلية انطلقت من بنغازي عاصمة الثورة، كان لا بُدَّ من الاستنتاج بأن ليبيا تتعرض إلى احتلال عبرت عنها بمقال عنوانه (هل هو احتلال للقطر الليبي بقبعة ثورية؟)، واستكملته بمقال ثالث تحت عنوان (هل قيمة الإصلاحات تعادل قيم التضحية بوحدة ليبيا؟).
لقد أخذ البعض عليَّ إظهار موقفي تجاه الثورة الليبية على شكل أسئلة. وأوضحت أن هذا الأسلوب فرضته عليَّ ظروف ضياع الموقف المبدئي عند الآخرين، كما غياب فرص الحوار الموضوعي بين الحريصين على الثورة الشعبية انطلاقاً من مصلحة الأمة والعاملين من أجل هذه المصلحة.
خطة طريق تفتيت الجزء العربي من أفريقيا تمر من ليبيا:
وما يحصل في ليبيا الآن، بعد أن انكشف الغطاء تماماً عن دور الغرب ودور الولايات المتحدة الأميركية، أصبح من الواضح أن الثوار في ليبيا أغرقوا أنفسهم بحماية القوى المضادة للثورة. ودخلت الثورة الليبية في نفق الخطر، وسلَّم الثوار أوراقهم، بوعي أو من دون وعي، إلى قوى الثورة المضادة. كما دخلت ليبيا في متاهات مزيج عبثي عناصره خليط من الحرب الأهلية والتقسيم والاحتلال. ودخلت ليبيا في فخ ديكتاتورية تمارسها الآلة العسكرية الأطلسية، كما دخلت في دوامة الموت والجوع. والله يحمي ليبيا من مصيرين خطرين، وهما:
-مصير العراق تحت الاحتلال الأميركي، ومن مكائد من سيلعبون في ليبيا دور المالكي في العراق. -ومصير التقسيم الذي سيعزز خطة تفتيت الجزء الأفريقي من الوطن العربي: انطلاقاً من السودان التي بدأت فيها خرائط التقسيم. ومروراً بمصر التي ستُغرَق في حرب إسلامية – مسيحية. وانتهاء بدول المغرب العربي التي سطا عليها مقص الرقيب الأميركي تقطيعاً وتفتيتاًً.
إننا بالعودة إلى نص مشروع الشرق الأوسط الجديد، نقرأ مستقبل هذا الجزء ومصيره، الذي بدأ في السودان، ويمر الآن بليبيا، وسيحرق أصابعنا في مصر ودول المغرب العربي.
خطة تفتيت المشرق العربي تمر من سورية:
بعد أن عجزت الولايات المتحدة الأميركية عن وضع يدها على العراق، ولأن تقسيمه لن يكتمل إلاَّ بإحراز تقدم بالاستيلاء على أقطار أخرى وتقسيمها.
وبعد أن حصل الغرب على غطاء عربي لتدخله في ليبيا، وشرَّع عدوانه بمظلة دولية، ترك الساحة الليبية تتقاذفها أمواج الحرب الأهلية والتقسيم والاحتلال.
وبعد أن ضمن شرذمة المواقف العربية، التقدمية منها بشكل خاص، وتركها تتقاتل على تحديد جنس الملائكة في ليبيا، تفرَّغ للعمل على اختراق ثورات أخرى في أقطار عربية أخرى، كما يفعل في سورية الآن.
وكما حصل في ليبيا، يحصل الآن في سورية ولكن من دون تدخل عسكري، بل بسلاح فرض العقوبات التي تنهمر ضد سورية تحت ستار معاقبة النظام.
وكما سيكون مصير ليبيا، كمقدمة لتفتيت المغرب العربي، سيكون مصير سورية استكمالاً لتفتيت العراق وتقسيمه، وتمهيداً لترسيم خريطة لبنان والأردن. لقد نص مشروع الشرق الأوسط الجديد على ما يؤكد أن الحلقة السورية تقع في مركز دائرة ستؤثر على رسم مصير كل من لبنان والأردن. فلبنان سائر إلى نظام متصرفية عثماني جديد، والأردن سائر إلى تكبير رقعته لإسكان الفلسطينيين.
خطة تفتيت الجزيرة العربية تمر عبر تفتيت اليمن:
كانت خطة تفتيت اليمن تسير على قدم وساق قبل اندلاع ثورتيْ تونس ومصر، وقد ازدادت حدة أزمته من بعدهما، وكمثل الشعارات الظاهرة التي رُفعت في الثورات الأخرى، أي الصراع بين الطغاة والشعوب المقموعة، رُفع شعار إسقاط النظام في اليمن. ونحن لا نلتزم الحياد بل ننحاز إلى صف الثورة الشعبية طالما لن تكون نتائج الصراع لمصلحة مشروع الشرق الأوسط الجديد، ونحن ضد الإثنين معاً طالما استمر الصراع بين النظام والمعارضة بصيغة حرب أهلية أم وصل إلى خاتمة التقسيم.
لقد نص مشروع الشرق الأوسط الجديد على أن يكون تقسيم اليمن بداية لتقسيم الجزيرة العربية إلى ثلاث دويلات: دويلة شيعية في شرقها، ودويلتين سُنِّيتين في كل من نجد والحجاز.
هل تجوز المقايضة بين الإصلاح وإنجاز مشروع الشرق الأوسط الجديد؟
وهنا لا يجوز اجتزاء قضايا الثورات الدائرة الآن، وحشر المواقف منها بين اللونين الأبيض والأسود، أي الخيار بين الدفاع عن الثورة الشعبية أو الدفاع عن الأنظمة، لأن الموقف السليم أن يكون في صف الثورة الشعبية. إن بعض الثورات الشعبية الآن لا يجوز تصنيفها وحشرها في ثنائية (الشعب – النظام)، وإنما يمكن تصنيفها في ثنائية (الدولة الوطنية – التدخل الخارجي)، والتي تُقنِّع نفسها بشعارات الإصلاح. ولهذا فإن التمييز بين الثنائيتين عنصر ضروري في اتخاذ الموقف المبدئي السليم. لذلك واستناداً إلى ما نعرفه عن خطورة مشروع الشرق الأوسط الجديد، وإلى أن الغرب يعمل من أجل تطبيق هذا المشروع، ومن المستغرَب أن لا نعترف بأن استراتيجية الفوضى الخلاقة حقيقة واقعة. لكل ذلك نجد في تجاهل حقيقة التدخل الأجنبي قصوراً كبيراً في النظر. ولما كنا على يقين بأن أي تدخل أجنبي لن يكون إلاَّ مشبوهاً، فهل نعتبر استمرار الثورة الشعبية إلاَّ مغامرة تساعد الأجنبي على قطف ثمن دم الشعب العربي وروحه؟ وهل هناك من يضمن أن يحول الثوار دون ذلك؟
باستثناء ما لا يزال يجري في تونس ومصر لخصوصيات واقع الثورة فيهما، بحيث ارتبط البعد الإصلاحي بالبعد الوطني، بحيث إن إحراز التقدم بالمعركة الإصلاحية يتم توظيفه بشكل مباشر بالبعد التحرري الوطني.
وباستثناء العراق، لخصوصيات إعطاء الأولوية لمقاومة الاحتلال، فإن أي حراك إصلاحي سوف يصب في مصلحة التحرير من الاحتلال.
واستناداً إلى ذلك علينا التمييز بين وجهين للصراع الدائر الآن على طول مساحة الوطن العربي، خاصة في ليبيا وسورية واليمن، وهما:
-الوجه الطبقي: إذا كان للثورة أبعاداً إصلاحية أي إذا كان الصراع بين الشعب والنظام ينحصر بأبعاد داخلية، أي بعيداً عن أي تدخل خارجي، فنحن لسنا على الحياد مطلقاً، بل سيكون خيارنا إلى جانب الشعب وفي القلب من معركته. لأن نتائج الصراع سوف تصب لمصلحة الطبقات المقهورة.
-الوجه الوطني: أي إذا كان الصراع وطنياً (الدولة – التدخل الخارجي)، والذي ستكون نتائجه (حرب أهلية، تقسيم للأرض..)، فالأولوية لمعركة التحرر الوطني، ولا تجوز المفاضلة بينها وبين الإصلاح. فمجرد التدخل الأجنبي على خط الصراع الداخلي الإصلاحي، لن يكون الإصلاح بريئاً حتى يُعيد الشعب والنظام قوانين الصراع إلى نصابه المشروع.
ولهذا، وإذا كانت الثورات الشعبية تتجاهل قوى الثورة المضادة، أو تساعدها على تحقيق مآربها بشكل غير مباشر. فدعوتنا للثوار أن يرحموا دماء الشعب وأرواح بنيه، والحؤول دون أن تذهب هدراً، خاصة وهم يرون حجم التدخل الخارجي وهجمته البربرية.
ليس ما تنفذه الولايات المتحدة الأميركية مضمون النجاح:
وإننا إذا عالجنا موضوع الثورات من منظور خطورة تطبيق مشروع الشرق الأوسط الجديد مستغلاً ما يجري في الوطن العربي، فلا يعني أن ذلك سينجح حتماً، كما لا يعني أن الحركة الثورية التي حصلت في كل من تونس ومصر لن تحصل على مكتسبات ملموسة. وأن الحراك الشعبي في أقطار أخرى ستذهب دماء الشعب هباءً منثوراً. كما أن هذه المخاطر المحدقة بكل من الثورتين لا يعني أنهما يجب أن تتوقفا، بل عليهما أن تستمرا. وإننا نعتقد أيضاً أنه إذا حصل صراع بين قوى الثورة، وقوى الثورة المضادة، فعلى الثورة أن تستمر على أن تصر على إحباط كل وسيلة من وسائل الثورة المضادة الداخلية، على شرط عدم الانزلاق إلى حرب أهلية. وإنه في حين الشعور بحصول تلك الحرب فعلى النظام والشعب أن يوقفا الصراع فوراً، لأنه إذا بدأت الحرب الأهلية يعني دخول الدائرة الجهنمية التي يعجز العقل فيما بعد أن يحدد من سيكون المسؤول عن استمرارها.
بعد أن أوقفت الثورات الشعبية الزمن أشهراً، لتؤخر تنفيذ مشروع التفتيت الجديد، وتُشغل الإدارة الأميركية طوال تلك الأشهر. وبعد أن ضمنت تلك الإدارة وجود (ملائكتها) هنا أو هناك، استأنفت تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد من جديد. واستفادت من تجربة الحراك الشعبي في تونس ومصر، واستخدمته أنموذجاً يُحتذى في ساحات عربية أخرى، خاصة أن حالة الغليان الشعبي على أشده تعم كل الأقطار العربية كلها نتيجة سوء أداء تلك الأنظمة التي عمَّها الفساد بكل أوجهه السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية.
حول ذلك، وإن كان الألم يعتصرني وأنا أستنتج بأن ما حصل في تونس ومصر، كانت من الأحداث المرحلية التي شذَّت عن السير باتجاه الحدث الاستراتيجي، قامت قوى الشر والجريمة بترتيب مسرحها ووضعت أسساً ودعائم لها من الداخل لترتيب أوضاع الأنظمة التي يتم تشكيلها في كل من تونس ومصر، ولكن هذا لا يلغي أهمية ما أنجزته الثورتان. وفي هذا الوقت لم تترك الولايات المتحدة الأميركية اللحظة التاريخية تفلت من بين أيديها. ولأنها تعرف أن النار التي اندلعت في تونس ومصر لن تكون من دون تداعيات على الأنظمة الأخرى التي تتماثل معها الى حدٍّ بعيد، عملت على ركوب موجة الحراك الشعبي فيها، واستخدمت المعارضات العربية التي تربَّت في أحضان مخابراتها، ودفعت بهم للانتشار بين الثوار الحقيقيين، ووفَّرت لهم الإمكانيات اللازمة التي تدعم مواقعهم وحركاتهم.
وإذا كانت ثورتا تونس ومصر لم تقعا في حبائل الحرب الأهلية لأسباب موضوعية وذاتية لها علاقة بخصوصية كل من القطرين، الا أن أقطاراً أخرى، كمثل ليبيا وسورية واليمن، تمتلك خصوصيات الحد الأدنى التي تضمن نجاح حروب أهلية، ومن أكثر تلك الخصوصيات بروزاً تأتي العشائرية والتعددية الطائفية.
هل تتعرض الأمة العربية لخديعة أخرى؟
نحن على أبواب تجربة جديدة تقودها هذه المرة الولايات المتحدة الأميركية، شبيهة بالتجربة التي نجحت فيها كل من بريطانيا وفرنسا في ظل الحرب العالمية الأولى، وهو ما عُرف بـ(الثورة العربية الكبرى) التي قادها الشريف حسين في ظل وعود أعطيت له ببناء الدولة العربية بعد انتصار الحلفاء في الحرب ضد الإمبراطورية العثمانية.
لقد تعرَّضت الثورة العربية الكبرى، في تلك المرحلة، إلى الخداع الذي مارسته بريطانيا وفرنسا، وهما في الوقت الذي أغدقوا بالوعود له، كانوا قد أعدوا اتفاقية سايكس بيكو للتنفيذ. وما حصل بالفعل هو أنهما نكثتا بوعودهما للعرب وقسَّما بلادهم.
فهل يعيد التاريخ نفسه، وتنطلي الخديعة الكبرى مرة أخرى على الثوار العرب الذين فجروا الثورة العربية المعاصرة، فلا يرى العرب أنفسهم إلاَّ وقد وقعوا في مشروع تقسيم آخر متمم لمشروع سايكس بيكو التعيس الذكر؟ وهل نرى أنفسنا في المستقبل القريب أسرى لمشروع الشرق الأوسط الجديد؟
كي لا نكون كالبومة التي تزعق في نفق لم يعد مظلماً:
على الرغم من كل ذلك، فما نستطيع أن نقوله عن موقفنا من الثورات المندلعة في معظم أقطار وطننا العربي، هو أننا كلنا عرب، ومن يتحرك في الشارع عرب. من ينوء تحت سياط الظلم الاجتماعي والظلم السياسي هم عرب. وإذا تحرك جائع عربي أم مقموع سياسي فكأنه يتحرك باسمنا جميعاً ويصرخ من آلامنا جميعاً. وإذا كان من حقه علينا أن نشاركه وندعمه فمن واجبنا أيضاً أن لا نحجب الدعم عنه. ولكن، على الرغم من مرارة (لكن)، علينا أن لا نتجاهل أن مقابل كل ثورة تقف ثورة مضادة لها بالمرصاد، وما أكثر عوامل الثورة المضادة التي تغزو الثورة العربية الآن. وما أخطرها إذا رفعت شعارات الجائع والمقموع، وجرَّت الشارع إلى خارج ثوابت الثورة، أي إلى الحرب الأهلية والتقسيم و...
كل ثورات العالم المعروفة في التاريخ التي أنتجت متغيرات جذرية لمصلحة شعوبها، كمثل الثورة الفرنسية، لم تتعرَّض إلى عوامل مضادة من الخارج. لذا لا يمكن قياس وسائل الثورة عندنا إلى مقاييس الثورات الأخرى. كما أنه لا يمكننا أن نقيس وسائل ثورة في هذا القطر على وسائل الثورة في القطر الآخر. فإذا كانت وحدة المعاناة هي التي جمعت الثورات في أقطار الأمة إلاَّ أن وحدة النتائج لن تكون متساوية. وما جرى في تونس ومصر، من بدايات ووسائل ونتائج، لا ينطبق بالكامل على ما يحصل في ليبيا وسورية واليمن....
لعبت الثورة المضادة في تونس ومصر دوراً مختلفاً عن الدور الذي تلعبه في الأقطار الأخرى. في تونس ومصر انتزعت الجماهير نظامين كانا محسوبين بالكامل على القوى المعادية للأمة العربية، وكان طموح قوى الثورة المضادة، ولا يزال، أن تقلل خسائرها فيهما. أما في الأقطار الأخرى فتعمل القوى المعادية على تجريد أنظمتها من كل إيجابية على قلة تلك الإيجابيات. وإنها تحت دخان مكاسب ثورتيْ تونس ومصر التي حصَّلها الثوار فيهما، تعمل القوى الغربية على قواعد أخرى، لعلَّ من أهمها وأكثرها إلحاحاً يأتي تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد استكمالاً لما بدأته تلك القوى قبل أن تتفاجأ بثورتيْ تونس ومصر.
ففي ليبيا القذافي كانت الدول القوية تترك له بعضاً من حرية الحركة مستفيدة من مواقفه المتذبذبة التي لا تستند إلى ثوابت، وإنما كانت مواقفه عبارة عن ردود فعل تفرضها الأحداث والظروف. ولما اكتملت لدى تلك القوى عوامل التدخل لتغيير كلي في بنية النظام فعلتها، ولكنها كانت في عجلة من أمرها مما جعل مخططها ينكشف بأكثر مما كنا نحسب. وهل ما يجري في ليبيا الآن إلاَّ حرباً أطلسية تشنها من الجو، وتوفر لمن يحارب على الأرض كل وسائل الحماية السياسية والمالية والتسليحية؟
أما في سورية، ولماذا يُفرض علينا أن نحصر اهتمامنا بديكتاتورية النظام وظلمه وتعسفه؟ وهل يجوز أن نتغافل عندما سكتت الإدارة الأميركية عن أخطائه في لبنان، وعن خطاياه في داخل سورية؟ ولماذا أرغمه على الخروج من لبنان في أوائل العام 2005 بعد فترة تفويض طويلة؟
إنها المصلحة الأميركية التي تعلو أية مصلحة أخرى. بعد احتلال العراق، وإصدار القرار 1546، ذات العلاقة بترتيب أوضاع الاحتلال، ولحماية قواته وحماية عمليته السياسية في العراق، طُلب من النظام السوري أن يتعاون مع الاحتلال فيما عبَّر عنه القرار المذكور بدعوة الدول المجاورة للعراق لمحاربة ما سماه القرار بالإرهاب، ويعني الإرهاب بالمصطلح الأميركي المقاومة العراقية.
ولأن القرار 1546، صدر في حزيران من العام 2004. ولما كان هذا القرار سابقاً القرار 1559، الصادر في أيلول من العام 2004، والمتعلق بحصار المقاومة في لبنان. أي أن القصد من القرارين كان حصار المقاومة العربية أينما كانت. ولما لم يستجب النظام السوري لتنفيذ ما طُلب منه، كانت بداية الافتراق مع الولايات المتحدة الأميركية، التي دفَّعت النظام السوري ثمناً بإرغامه على الخروج من لبنان.
نتيجة المتغيرات في العلاقات الأميركية – السورية، ونتيجة التراجعات المتلاحقة التي أصابت الولايات المتحدة الأميركية، خاصة في العراق منذ انطلاقة المقاومة العراقية، وتلتها الهزيمة التي لحقت بالعدو الصهيوني في العام 2006 على أيدي المقاومة اللبنانية، أصبحت أميركا بأمس الحاجة إلى تغيير الواقع لفك الحصار عن نفسها، وللخروج من مآزقها. ولهذا فقد استغلَّت حاجة الشعب السوري للإصلاح فدخلت على خط حراكه، ونقلت المعركة إلى الداخل السوري لإثارة حرب أهلية مخيفة بوقائعها ونتائجها.
ولما كانت إدارة أوباما قد غيَّرت بوسائل الهجوم، وليس بالأهداف، عملت على الالتفاف حول مآزقها بطريقة تجعلها لا تدفع الخسائر من جيوبها التي شارفت أصلاً على الإفلاس، فكانت عملية استخراج أوراقها مما اختزنته طوال سنوات من كل أنواع المعارضة لتستخدمهم كـ(حصان طروادة) في الثورة المضادة التي تغلغلت بواسطتها في الثورة الليبية كما في الثورة السورية، فحملت شعاراتهما من جهة وزجَّت بكل وسائل الدعم المالي والإعلامي والسياسي لمصلحة الواجهات التي استخدمتها من جهة أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.