يرى داريوش شايغان في كتابه "اوهام الهوية" (دار الساقي) ان الثورة الاسلامية في ايران عام 1979 فتحت مسارا جديدا في تعيين الهوية الجديدة القائمة على الدين بديلا من الهوية القومية الفارسية السائدة في ايران منذ قرون. هذا التوجه لم يقتصر على ايران "الجديدة"، بل شكّل المنطلق الايديولوجي للحركات الاصولية الاسلامية في معظم البلدان العربية والاسلامية التي طرحت الهوية الاسلامية في وصفها الاساس الموحد والجامع لمجمل الامم التي تدين بالاسلام. اتخذت الهوية الاسلامية حجما اوسع مع التفسخ الذي شهدته ولا تزال المجتمعات العربية وانهيار المشروع القومي ولحمته العروبية، وصعود العصبيات العشائرية والطائفية لتحتل موقع الدولة. وهذا ما اعطى مفهوم الهوية الدينية زخما لكونه اتى يملأ فراغا ناجما عن فشل المشروع القومي والعروبي. هذا الواقع طرح اشكالية الهوية، فهل يعتبر الدين عنصرا موحدا وجامعا، ام انه بحكم موقعه الفئوي والعصبوي والانغلاقي على سائر المجموعات المخالفة، يشكل معضلة وليس حلا؟
ينطلق شايغان في مناقشته معضلة الهوية في البلدان الاسلامية من طبيعة العلاقة بالحداثة الغربية وكيفية التعاطي معها. فالنخب المسيطرة في البلدان الاسلامية رأت في الحداثة الغربية مجمل التقنيات الحديثة، فنقلتها الى مجتمعاتها واجرت تحديثا وليس حداثة. رفضت هذه النخب ان تأخذ مع التقنية الغربية مجمل الافكار والمفاهيم التي كانت وراء انتاج هذه التقنية، ليس عبر نقلها الحرفي بل عبر موضعتها في المجتمعات الاسلامية. فهذه التقنية الغربية المتطورة كانت الابن الشرعي لمجمل الافكار والتطورات العلمية والفلسفية التي سادت الغرب منذ قرون. لذا شكل النقل المشوّه الثغرة الاولى في هوية المجتمعات الاسلامية وخصوصا في علاقتها بالغرب، واوجد حالا من الانغلاق تجاه الفلسفة الغربية بديلا من الافادة منها في انتاج تحديث حقيقي.
يزداد الامر سوءا في المجتمعات العربية والاسلامية لدى هروبها من مناقشة ازماتها البنيوية واسباب تخلفها وعجزها عن اللحاق بالغرب، بل ومناقشة هذا الغرب من دون عقد نقص كما هو حاصل اليوم. هذا الرفض لقراءة الواقع الاجتماعي يترجم لدى هذه المجتمعات برفض التجديد والتمترس عند العقليات القديمة، بالهرب الى استعادة العصر الذهبي للحضارة العربية والاسلامية في القرون الوسطى، والاكتفاء بما جرى انتاجه في تلك الفترة في ميادين العلوم والفلسفة، والاثر الذي تركته هذه الحضارة على مجمل التطور الحضاري في الغرب. هذا التمترس في الماضي والاصرار على الاقامة فيه، يرى شايغان انه من اكبر المعضلات التي تعوق تحرر النخب الاسلامية من هذا الماضي، والانطلاق نحو ما يقدمه العصر الحديث. لم تخل المجتمعات الاسلامية من دق ابواب الحداثة والاصرار على وجوب الدخول الى مقتنياتها سبيلا لنهضة موعودة، لكن هذه النخب ظلت اسيرة التراث وقيوده، مما وضعها في حالة الانفصام الثقافي، الذي يترجم نفسه بعدم تجاوز الماضي والعجز عن استيعاب الحاضر، وهو عنصر مسؤول عن التخبط الذي تعيشه المجتمعات الاسلامية ونخبها الثقافية في الان نفسه.
يتساءل شايغان حول مدى اقتحام النخب الاسلامية مجمل البنى المهيمنة وحجم مسؤوليتها عن الاخفاق في قراءة عناصر الفشل التي منيت بها هذه المجتمعات في بناء تنمية حقيقية، اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية. كما يتساءل عن مبررات الخوف من الدخول الى المحرمات المفروضة على هذه الشعوب، من اجل تحطيم الاصنام والتقاليد المتخلفة، وهو إحجام لا مبرر له، بل يقدّم افضل المساعدة لمجمل الحركات الاصولية في نشر فكرها السلفي المتجمد والرافض كل تجديد في مفاهيمه. يستعير شايغان من الكاتب سيوران مقولة ان الفكر الرجعي يتميز بـ"عبادة البدايات" حيث يقول: "كلما ابتعدنا عن التغريب اندمجنا اكثر في البيت الابوي".
لكن اخطر ما يراه شايغان في المجتمعات الاسلامية، تلك النظرة التي تقرن الحداثة بالمؤامرة، فيجري التعاطي مع التقدم الغربي والعلوم المتطورة والسعي الى ادخالها الى مجتمعاتنا في وصفها مؤامرة هادفة الى تدمير هويتنا الاسلامية واطاحة مقوماتنا الثقافية، مما يعني استلابا وإلحاقا بالغرب الاستعماري والمساعدة في سيطرته على مجمل بلداننا. من هذه النظرة المؤامراتية خرجت ثقافة التخلف وسادت وثبتت موقعها ونجحت في إحداث حالة من التخويف، بل والتشكيك في هوية حاملي الافكار الغربية، وصولا الى تكفير من يدعو الى اقتباس الحداثة بمفاهيمها الفكرية وتقنياتها في الان نفسه. يشير الى حال مجتمعاتنا اليوم التي تتسم بـ"تشوش مبلبل عند الانسان المسلم ازاء الحداثة والتقنية، حيث تقوم بعض المفاهيم ذات الطابع اللاهوتي بطمس الطابع الابستمولوجي للظاهرات التاريخية".
لا شك ان مجتمعاتنا الاسلامية تعيش اليوم حالة انفصام معرفي، لأن مشكلة التقنية وتمثلها ونقلها الى بلادنا، اضافة الى المنازعات المندلعة بين التراث والحداثة، هي في اساس المعوقات المعرفية. انه تمزق فيه الكثير من الوضوح، كما فيه الكثير من المكبوت، لكنه في الحالتين يولد تناقضات كبرى ومعضلات ليس من السهل تجاوزها او الاقدام والشجاعة على إعمال معول الهدم في ما يقف منها حجرة عثرة امام تقدمنا وتطورنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.