" كتب الأخ الأكبر عادل بن عبد الله يقول:
نحتاج في بلادنا الى تجاوز التسامح الى مبدأ الاحترام -مثلما حصل في المراجعات الفلسفية لمفهوم التسامح ومحدوديته الأخلاقية القائمة على لا تكافؤ جوهري في علاقة "المواطنين" بعضهم ببعض رغم تناقض ذلك مع المحدّدات الصورية للمواطنة-، كما أنّ علينا تأصيل الاحترام في تراثنا من خلال ما يمكن أن نسمّيه بالنظرة "الرحمانية" أي تلك النظرة التي تحاول التموضع في مدارات الرحمة الالهية اللاّنهائية الأصل والتجلي ،حيث ترى الكل بعين الرحمة و لا تستعلي على أحد من عيال الله وتطلب النجاة لمن في الأرض جميعا و تعتذر لمن أخلف الفُلك بسبق القدر لا بسوء التقدير ..هل يعني ذلك اللامبالاة واستواء الأضداد؟ بالطبع لا و لكن يعني البدء في كسر وهم التألّه الذي لا يفارق من آمن أو من ألحد منّا".
وقد عقّبت على ذلك بالقول :
دعوة جميلة صادقة النوايا، لكن الحديث يدور عن محدّدات "صوريّة" للمواطنة، فماذا عن محدّداتها "السوسيولوجيّة" ؟ أليس تعريتها وفضحها بالحديث عنها وفيها ومن خلالها هو ما يمكّن على صعيد المعيش الراهن من الإمساك بها وفهمها وبالتالي العمل بمقتضاها ؟ أليس الحديث عن العودة إلى التراث لاستلهام مفاهيمه بطريقة "فرديّة" (بمعنى شخصيّة) هروبا من استحقاقات "المواطنة" ذاتها بوصفها انخراطا في منظومة قيميّة "جماعيّة" ؟ فكيف نتحدّث عن "مواطنة" دون حديث عن "شعب"، والحال أنّ من مقتضيات "الشعب" أنّه مكوّن من أفراد "متذرّرين" بمعنى تحقّق قيمة "الفردانيّة " (وليس "الفرديّة") فيهم على مستوى الإدراك وتاليا السّلوك المندرج في اليوميّ المعيش، والحال أنّنا ما زلنا كائناّت "جماعويّة" (وليس جماعيّة)؟ قد يجرّنا هذا إلى الحديث عن النزعات "الجهويّة" و"القبليّة" و"الطائفيّة" التي تنخر مجتمعاتنا، ذلك أنّ المرور إلى "الفردانيّة" غير ممكن إلاّ بتفكيك الاواليّات المتحكّمة في إفراز تلك الأنماط من الاجتماع، وهذا حديث قد يطول، وإنما مرادنا هنا التنبيه فحسب إلى هذا الأمر. شكرا للصديق عادل بن عبد الله على شذراته، وللصديق خالد الحلاج على إضاءاته...".
وعقّب الأستاذ بن عبد الله بقوله:
"الأستاذ الدكتور محمد حاج سالم. شكرا على طرحك "السوسيولوجي" للمسألة و استدراكك عليّ من مقتضيات هذا المنظور. ولكن ،سيدي، اعذرني أن أعقّب على ما تفضّبلت به من قضايا باستفهام بسيط يختزل الاختلافات الاشكالية بيننا :هل نحن في مجتمع تحكمه المواطنة خارج محدّداتها الصورية او خارج أدبياتها السلطوية التي تتحدّث عن مواطنة لا وجود لها الاّ في مساحة الخطابات المدافعة عنها ؟ انّ المواطنة كما كتبتُ في مواضع أخرى ،هي أفق مفهومي و مؤسّسي وليست واقعة سوسيولوجية متعيّنة ، وذلك لأنه لا يمكن الحديث عنها من منظور تراثي ما قبل حداثي( باعتبار المفهوم الاجرائي عندها سيكون مفهوم الرعية ودوره في تشكيل الهوية الجمعية على أسس دينية مذهبية"شبه مغلقة") ، كما لا يمكن الحديث عن مواطنة في الدولة "القطرية" التي أعقبت الاستعمار إلاّ باعتبارها مفهوما "موضعيا"أو ذرائعيا يتمّ توظيفه سلطويا للتغطية على ممارسات لا علاقة لها باستحقاقات المواطنة "السوسيولوجية" ( أي الحقوقية الفردية و الجماعية في المستويات الاقثتصادية و الاجتماعية والسياسية) . أمّا الحديث عن عودة "فردية" الى التراث باعتباره هروبا من استحقاقات المواطنة فهو تأويل بعيد . فأيّ منظومة قيمية "معيارية" تمّ الهروب منها في هذه الحالة،يا دكتور؟ هل هي المنظومة العلمانوية اليعقوبية التي لا تشتغل الاّ بمفهوم المواطن المتعلمن كلّيا- حسب التقسيم المعروف عند عبد الوهاب المسيري- والذي يرمي بالأسئلة المتعلقة بالمعنى و الغايات النهائية الى دائرة الوجود الفردي ،أم هي المنظومة الفقهية التي لا يمكن الحديث فيها عن مواطنة الاّ بضرب من التجوّز و التأويل-لأنها أساسا تعبّر عن ابستيمي مباين لمفهوم المواطنة في السياق الغربي-منذ أصوله اليونانية - ؟ إنّ المواطنة ،أستاذ حاج سالم، هي مشروع تركيبي يتجاوز هاتين المنظومتين ، وليس استدعاء مفهوم "النظرة الرحمانية" الاّ رغبة في بيان تلك المناطق المفهومية التي هي من اللامفكّر به داخل المرجعيتين الفقهية و العلمانوية. فالمواطنة -كما أفهمها وكما يستدعيها التعدد المرجعي و القيمي في مجتمعنا- هي تثوير للأطروحات "المقدّسة" في المنظور العلمانوي و الفقهي. وفي ما يتعلّق ب" الفردانية" فقد سقتَ فيها من التوضيحات ما يجعلها في غنى عن أي تفصيلات أخرى، ولكنك تطرح إشكالية نظرية كبيرة من خلال اشتراطك لبعد الفردانية و التذرّر باعتبارهما مكوّنينن ضرورين للحديث عن الشعب: هل علينا الخضوع الى النماذج الجاهزة و المحددات المفهومية المستنبطة من التاريخ الغربي و وحداته التحليلية الدنيا (أي مفهوم الفرد)؟ أحسب أنّ هذا الفهم ،أستاذي، هو فهم يحتاج الى مزيد من التعمق و المراجعة قصد التخلص من هيمنة النماذج التفسيرية الغربية، وتبيئة بعض مفاهيمها داخل السياقات الطّرفية ( ومنها السياق التونسي). ولا أحسب أننا مضطرّون الى اتباع التاريخ الغربي ( باعتباره مستقبل تاريخنا) و انما نحن في حاجة الى استلهام هذا التاريخ و معارفه النظرية (مثل علم الاجتماع) دون أن نقع في الاسقاط أو في المقايسات المغالطية. وختاما ، أشكرك ،أستاذ محمد على إعطائي هذه الفرصة لتوضيح بعض المسائل و الاستفادة من معارفكم التخصصية في العلوم الاجتماعية . مع الشكر".
فكان هذا الردّ منّي:
هذا ردّ على الاستاذ عادل بن عبد الله حول ما كتبه ردّا على بعض ما أبديته من ملاحظات بخصوص دعوته استلهام "رحمانيّة" التراث في سبيل تأصيل مفهومي "الفردانيّة" و"المواطنة" في مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة المعاصرة، وهو ردّ يعلم الاستاذ بن عبد الله أنّه يدخل ضمن مشروع فكري كنت بداته منذ زمن ولم تنكشف بعد معظم مجاهيله ولم ينفتح لي منه إلاّ القليل من مغاليقه، وإنّي لأعتذر شديد الاعتذار لمن وجد في هذا الردّ بعض المفاهيم التي قد تستحقّ شرحا أكثر إذ يقصر المجال هنا عن التفصيل فيها، ولمن رأى فيه اختزالا مشطّا لإشكاليّة رحبة بما يجعلني حاطب ليل...
إذا ما كان سبق للماوردي وابن
خلدون أن لاحظا أنّ «الدين هو أصل الملك» لا
في ما يختصّ بتاريخ الإسلام السياسيّ فحسب، بل وكذلك في جميع الأمم، وهو ما يتوافق
كليّا مع ما أثبتته معطيات البحث الإناسيّ الحديث، فإنّ ذلك معناه باختصار أنّ
الدين هو المشكّل تاريخيّا لإمكان نشوء الدوّلة. إلاّ أنّ الاطمئنان إلى هذه
النتيجة النظريّة العامّة حول اكتساء الدولة طابعا دينيّا بحكم منشئها من رحم
الدين، لا ينفي حرارة الشكّ وبالتالي السؤل التالي: هل يقتصر الأمر على وظيفة
يؤدّيها الدين في لحظة تاريخيّة معيّنة لينسحب بعدها تماما، أم هو يظلّ على تخوم
الدولة مراقبا تصرّفاتها من خلال المجتمع الذي ارتضى التنظّم بإرادته في إطار
دولة، شرط أن ألاّ تحيد الدولة عن المبادئ العامّة التي أسّسها الدين وأنشأ الدولة
منها وعليها ومن أجلها ؟
إنّنا
نلاحظ في مرحلة التأسيس الإسلاميّ تطابقا تامّا بين «وحدة الأُمَّة» و«وحدة السلطة» حين
مثّل الدين الجديد الرابطة الاجتماعيّة الجديدة بين مكوّنات الجماعة الإسلاميّة
الأولى. فقد اتّخذ الدين وقتها شكل بوتقة التنظيم المجتمعيّ لتلك «الجماعة/الأُمَّة» باستبعاده
لكلّ انقسام اجتماعيّ فيها، وذلك رغم الاعتراف بالتعدّد الدينيّ داخلها بدليل وجود
يهود ونصارى مكّونا أساسيّا لها. إلاّ أنّ رؤيتنا للمسألة، تدعو إلى الاعتقاد بأنّ هذا الأمر ما كان له
ليتمّ إلاّ بعد تحييد السلطة النبويّة رمزيّا بوصفها الناطقة باسم المتعالي، إذ
اعتبر القرآن النبيّ طوال جميع مراحل الدعوة سواء في مَكَّة أو في يَثْرِب مجرّد
مبلغّ سلبيّ عن الله ولا دخل له بالتالي في هداية البشر أو إكراههم وقسرهم على
الانخراط في الدين الجديد وبالتالي في الجماعة الوليدة ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي
الدينِ﴾(البقرة، 256) ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾(الكافرون،6) مادام
الله هو المشرّع وما دام النبيّ مجرّد مبلّغ ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُسَيْطِرٍ﴾(الغاشية، 22).
لقد
تأسّست الجماعة الإسلاميّة الأولى على مبدأ توحيد الكلمة كي تكون ﴿كَلِمَةُ
اللهِ هِيَ العُلْيَا﴾ (التوبة، 40) والاعتصام به ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ
اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾(آل عمران، 103) بهدف تحقيق خلافة الله في الأرض حسب التعبير
الإسلاميّ الشائع، لم تخرج عن المبدأ الناظم لكلّ اجتماع بشريّ والمتمثّل في قيام
وتشكّل الجماعات على قاعدة دينيّة (وهو ما لا يتعارض مع اتّساعها لديانات أخرى)،
إذ يبدو أنّ الشكل الدينيّ هو القادر وحده على إبعاد السلطة إلى عالم الغيب
والماورائيّات، بحيث لا يكون خضوع البشر بعضهم لبعض، بل لمرجع يتجاوزهم ويتعالى
عليهم، مرجع يدينون له بمعنى وجودهم وقواعد اجتماعهم ونظام عالمهم.
إلاّ أنّه لا مناص من اعتبار السلطة النبويّة، إذا ما نظرنا من مسافة نقديّة ومهما كانت زاوية النظر، شكلا سياسيّا لتنظيم المجتمع عبر تقنين ممارساته وبناء مؤسّساته الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة الخاصّة به من خلال تشريعات جديدة تتّفق مع الأهداف المرجوّة من الجماعة. وهذا ما جعل التشريعات، وقد اتّخذت شكل التحليل والتحريم وبصفة عامّة شكل أحكام دينيّة، في نهاية المطاف ورغم ما اتّصفت به من طابع دينيّ، أحكاما سياسيّة. ذلك أنّها كانت متّصلة بالعلاقات الاجتماعيّة بين المسلمين، لكن وبالخصوص لأنّها كانت المنظّمة للعلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة بين جماعة المسلمين وسائر الجماعات الأخرى المناوئة أو الحليفة، ممّا يكسب الجماعة الإسلاميّة في نفس الوقت تفرّدها واستثنائيّتها ووحدتها الداخليّة وبالتالي استقلاليّتها تجاه الخارج، دون أن ينفي ذلك أيضا في نفس الوقت إكساب الدولة بجميع مكوّناتها الدينيّة تمايزها عن الخارج، سواء كان ذاك الخارج دولة ذات سلطة سياسيّة مركزيّة ممثلة في بشر حيّ أو نائب عن المتعالي، أو قبيلة لَقَاحِيَّة لا تخضع لأيّ سلطة عدا تلك التي تمثلها منظومتها العُرْفِيَّة أي سلطة الأسلاف الأموات. وفي جميع الحالات، لا يمكن تمثّل الدينيّ بمعزل عن شكله السياسيّ أو مضمونه الاجتماعيّ.
إلاّ أنّه لا مناص من اعتبار السلطة النبويّة، إذا ما نظرنا من مسافة نقديّة ومهما كانت زاوية النظر، شكلا سياسيّا لتنظيم المجتمع عبر تقنين ممارساته وبناء مؤسّساته الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة الخاصّة به من خلال تشريعات جديدة تتّفق مع الأهداف المرجوّة من الجماعة. وهذا ما جعل التشريعات، وقد اتّخذت شكل التحليل والتحريم وبصفة عامّة شكل أحكام دينيّة، في نهاية المطاف ورغم ما اتّصفت به من طابع دينيّ، أحكاما سياسيّة. ذلك أنّها كانت متّصلة بالعلاقات الاجتماعيّة بين المسلمين، لكن وبالخصوص لأنّها كانت المنظّمة للعلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة بين جماعة المسلمين وسائر الجماعات الأخرى المناوئة أو الحليفة، ممّا يكسب الجماعة الإسلاميّة في نفس الوقت تفرّدها واستثنائيّتها ووحدتها الداخليّة وبالتالي استقلاليّتها تجاه الخارج، دون أن ينفي ذلك أيضا في نفس الوقت إكساب الدولة بجميع مكوّناتها الدينيّة تمايزها عن الخارج، سواء كان ذاك الخارج دولة ذات سلطة سياسيّة مركزيّة ممثلة في بشر حيّ أو نائب عن المتعالي، أو قبيلة لَقَاحِيَّة لا تخضع لأيّ سلطة عدا تلك التي تمثلها منظومتها العُرْفِيَّة أي سلطة الأسلاف الأموات. وفي جميع الحالات، لا يمكن تمثّل الدينيّ بمعزل عن شكله السياسيّ أو مضمونه الاجتماعيّ.
ومن
هنا، يمكن القول إنّ نجاح الإسلام يعود في شطر منه إلى ما أبداه من قدرة على
استيعاب مبدأ إسناد السلطة السياسيّة (بمعنى الإشراف على الانتظام الاجتماعيّ) إلى
المنظومة العُرْفِيَّة التي سنّها الأسلاف الغابرون المؤسّسون للجماعة، وذلك بضرب
من التماهي مع هذا المبدأ واستبطانه حين جعل الوحيُ النبيّ مبلّغا عن المتعالي
المفارق للجماعة. إلاّ أنّ هذه الاستراتيجيّة لئن كانت تهدف على المدى المباشر
المنظور إلى مسايرة مبدأ اللَّقَاحِيَّة العربيّ بجعلها حقّ التشريع حكرا على
الغائب، فإنّها كانت تهدف بلا شكّ في مداها المستقبليّ البعيد إلى الالتفاف عليه.
فبعد أن كان الدين في نسخته الجاهليّة ضامنا لمبدأ اللَّقَاحِيَّة بإسناده حقّ
التشريع للغائب (الأسلاف الأموات)، فإنّه سيضحي منذ سماحه في نسخته الإسلاميّة
لبشر حيّ (النبيّ) التكلّم باسم الغائب، هادما له. فقد غدا النبيّ، تحت غطاء
التبليغ عن المتعالي على مستوى الخطاب الدينيّ أي تبليغ القرآن، نائبا عن الله على
المستوى الاجتماعيّ، وأضحى الرضا بأحكامه في المنازعات بين الأفراد والجماعات من
شروط الإيمان بالدين ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمَا﴾(النساء،65) وأضحى
الدين حاضّا على اتّباع ما يسنّه من تشريعات وإن كان ذلك باسم الله ﴿مَا
آتَاكُمُ الرسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(الحشر، 7).
لقد سمحت هذه الاستراتيجيّة بأن يغدو النبيّ صاحب سلطة أو بالأحرى «صاحب السلطة»،
وذلك منذ ارتضت الجماعة الجديدة (الأُمَّة) أن تكون أقواله وأفعاله مبادئ فعل
وقواعد سلوك اجتماعيّة لا بدّ على المؤمنين اتّباعها، وبذلك انقلب الدين على نفسه
وسمح بانبثاق نصاب منفصل عن المجتمع هو ما سيغدو مع الأيّام ما نسميّه الدولة.
ونحن
نفهم، من خلال النصّ القرآنيّ على الأقلّ، أنّ النبيّ لم يفصل بين ما هو دينيّ وما
هو سياسيّ، إلاّ أنّه لم يماه بينهما بل كان سبيله التمييز بين الشأنين بمعنى حضور
الدين في السياسة، باعتبارها مبادئ موجّهة، مع الاعتراف باستقلاليّة الممارسة
السياسيّة عن كلّ سلطة باسم الدين حتّى وإن كانت سلطة دينيّة في جوهرها، إذ لا
وجود تاريخيّا لمؤسّسة دينيّة في الإسلام، وهذا يبدو لنا واضحا حتّى وإن كان
مخالفا لما كان يعتقده بعض مناوئي السلطة النبويّة زمن النبيّ حين رأى فيها أمثال
أبي سفيان صخر بن حرب شكلا من أشكال الملوكيّة (عبّر عن ذلك بقوله: «لقد
أضحى ملك ابن أخيك عظيما»)، أو حين يرى فيها بعض المستشرقين سلطة
سياسيّة/نبويّة بمعنى لا يخلو من التلميح بأنّ هدف النبيّ كان بالأساس سياسيّا
وأنّه لم يتّخذ لبوس الدين إلاّ لحدس النبيّ بأنّ ذلك كان السبيل الوحيدة المتاحة
لتحقيق هدفه السياسيّ، مستندين في ذلك على السمة الدينيّة التي كانت غالبة إمّا
على عصر النبيّ برمّته أو على البيئة التي باشر فيها دعوته.
إنّنا
نرى وبكلّ وضوح أنّ النبيّ لم يؤسّس «سلطة سياسيّة/نبويّة» هي
ما سيبرّر لاحقا ما يشطّ البعض في مماهاته بما عرفه الغرب الأوروبيّ من حكم
باسم «الحقّ الإلهيّ»، وهذا لا
ينفي بأيّ حال أنّ النبيّ كان بحقّ مؤسّس دولة، إلاّ أنّ عمليّة التأسيس تلك في
الظرف التاريخيّ الذي بوشرت فيه وفي ظلّ الرفض العامّ لأيّ إصلاح دينيّ بوصفه
إخلالا بعمليّة الانتظام الاجتماعيّ ذاتها أو لنقل بالنظام الاجتماعيّ السائد
القائم بالخصوص على مبدأ اللَّقَاحِيَّة، وبالتالي الإخلال بالانتظام السياسيّ
للمجتمع القبليّ بكامله، كلّ ذلك كان يقتضي من النبيّ في سعيه إلى إنجاح دعوته أن
يباشر عمليّة التغيير الشامل انطلاقا من تغيير أضعف حلقة في المنظومة التي كانت
تربط الدين بالمجتمع ومن ثمّ بالسياسة (شرك يعتمد تعدّد الآلهة، قبيلة مستقلّة
تعتمد اللَّقَاحِيَّة، زعامة ذات سلطة سياسيّة مفرغة من محتواها)، أي أن يكون
رئيسا سياسيّا للجماعة المؤمنة بدعوته (أو رئيسا للدّولة الناشئة) إلى جانب دوره
العباديّ القائم على التبليغ الدينيّ عن الله بوصفه ﴿رَسُولَ اللهِ
وَخَاتَمَ النبِيّينَ﴾(الأحزاب،40) و﴿شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا
وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾(الأحزاب، 45-46).
وبتعبير
آخر، فإنّ النبيّ كان «إماما للأمّة»،
بما يتضمّنه هذا اللّفظان من معاني التأسيس لواقع اجتماعيّ اقتصاديّ جديد والقيادة
الروحيّة للجماعة المنتظمة في ذلك الواقع. فقد كان من مهامّه إرساء المبادئ
الأخلاقيّة العامّة المنتظمة لعمليّة التأسيس تلك إلى جانب إقامة سلطة
تشريعيّة/تنفيذيّة كانت هي الوحيدة القادرة على ضمان بلوغ الهدف الأسمى من الرسالة
المحمّديّة، ألا وهو «تحققّ الوحي في التاريخ» أو بالتعبير
القرآنيّ حتّى تكون الأُمَّة الإسلاميّة ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ﴾(آل عمران، 110) ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى الناسِ﴾(البقرة، 143). ولئن كانت
هذه الثنائيّة المميّزة للسّلطة النبويّة هي ما مكّن من تأسيس دولة كانت بحقّ
قائمة على سلطة عليا هي سلطة النبيّ، فإنّها كانت سلطة مدنيّة منذ أن أعلن قيام
الدولة ذاتها من خلال «وثيقة المدينة».
فقد وضعت تلك الوثيقة/الدستور أسسا جديدة للاجتماع السياسيّ على أساس «تعدّديّ» يعتمد
حرّية العقيدة والعبادة بما يجعل المقيمين في دولة المدينة «مواطنين» فيها
(بالتعبير الحديث، تجوّزا) مهما اختلفت ديانتهم (أمّة بتعبير الصحيفة)، لهم من
الحقوق وعليهم من الواجبات ما للمسلمين وما عليهم. وقد كانت الوثيقة تصرّفا
دنيويّا من النبيّ بوصفه رئيسا للدّولة، إلاّ أنّها تضمّنت في توجّهاتها العامّة
جملة المبادئ الإسلاميّة العليا التي يجب على الجميع اتّباعها مراعاتها تحقيقا
للمصلحة العامّة، أي مصلحة المجتمع المنضوي تحت لواء الدولة بكلّ فئاته الدينيّة،
وهو ما مكّن الدعوة الجديدة من اختراق المجتمع الجاهليّ ومداورة إواليّاته
الدفاعيّة المرتكزة على الدين الجاهلي أساسا بوصفه نسغ اللَّقَاحِيَّة المانعة
لانبثاق سلطة مستقلّة عن المجتمع أي الدولة، ليحقّق في النهاية ما كان المجتمع
الجاهليّ يخشاه ويستميت في سبيل منعه، أي إسناد السلطة بما هي احتكار للتكلّم باسم
المتعالي إلى بشر، أي تحويلها إلى نصاب مستقلّ عنه سيغدو منذ قيام جماعة المسلمين
الأولى نواة للدّولة المرتقبة.
دولة مرتقبة ؟ ... هذه إشكاليّة أخرى قد نعود إليها.
فكان هذا تعقيب الأستاذ بن عبد الله:
"الأستاذ الدكتور محمد حاج سالم. شكرا على طرحك "السوسيولوجي" للمسألة و استدراكك عليّ من مقتضيات هذا المنظور. ولكن ،سيدي، اعذرني أن أعقّب على ما تفضّبلت به من قضايا باستفهام بسيط يختزل الاختلافات الاشكالية بيننا :هل نحن في مجتمع تحكمه المواطنة خارج محدّداتها الصورية او خارج أدبياتها السلطوية التي تتحدّث عن مواطنة لا وجود لها الاّ في مساحة الخطابات المدافعة عنها ؟ انّ المواطنة كما كتبتُ في مواضع أخرى ،هي أفق مفهومي و مؤسّسي وليست واقعة سوسيولوجية متعيّنة ، وذلك لأنه لا يمكن الحديث عنها من منظور تراثي ما قبل حداثي( باعتبار المفهوم الاجرائي عندها سيكون مفهوم الرعية ودوره في تشكيل الهوية الجمعية على أسس دينية مذهبية"شبه مغلقة") ، كما لا يمكن الحديث عن مواطنة في الدولة "القطرية" التي أعقبت الاستعمار إلاّ باعتبارها مفهوما "موضعيا"أو ذرائعيا يتمّ توظيفه سلطويا للتغطية على ممارسات لا علاقة لها باستحقاقات المواطنة "السوسيولوجية" ( أي الحقوقية الفردية و الجماعية في المستويات الاقثتصادية و الاجتماعية والسياسية) . أمّا الحديث عن عودة "فردية" الى التراث باعتباره هروبا من استحقاقات المواطنة فهو تأويل بعيد . فأيّ منظومة قيمية "معيارية" تمّ الهروب منها في هذه الحالة،يا دكتور؟ هل هي المنظومة العلمانوية اليعقوبية التي لا تشتغل الاّ بمفهوم المواطن المتعلمن كلّيا- حسب التقسيم المعروف عند عبد الوهاب المسيري- والذي يرمي بالأسئلة المتعلقة بالمعنى و الغايات النهائية الى دائرة الوجود الفردي ،أم هي المنظومة الفقهية التي لا يمكن الحديث فيها عن مواطنة الاّ بضرب من التجوّز و التأويل-لأنها أساسا تعبّر عن ابستيمي مباين لمفهوم المواطنة في السياق الغربي-منذ أصوله اليونانية - ؟ إنّ المواطنة ،أستاذ حاج سالم، هي مشروع تركيبي يتجاوز هاتين المنظومتين ، وليس استدعاء مفهوم "النظرة الرحمانية" الاّ رغبة في بيان تلك المناطق المفهومية التي هي من اللامفكّر به داخل المرجعيتين الفقهية و العلمانوية. فالمواطنة -كما أفهمها وكما يستدعيها التعدد المرجعي و القيمي في مجتمعنا- هي تثوير للأطروحات "المقدّسة" في المنظور العلمانوي و الفقهي. وفي ما يتعلّق ب" الفردانية" فقد سقتَ فيها من التوضيحات ما يجعلها في غنى عن أي تفصيلات أخرى، ولكنك تطرح إشكالية نظرية كبيرة من خلال اشتراطك لبعد الفردانية و التذرّر باعتبارهما مكوّنينن ضرورين للحديث عن الشعب: هل علينا الخضوع الى النماذج الجاهزة و المحددات المفهومية المستنبطة من التاريخ الغربي و وحداته التحليلية الدنيا (أي مفهوم الفرد)؟ أحسب أنّ هذا الفهم ،أستاذي، هو فهم يحتاج الى مزيد من التعمق و المراجعة قصد التخلص من هيمنة النماذج التفسيرية الغربية، وتبيئة بعض مفاهيمها داخل السياقات الطّرفية ( ومنها السياق التونسي). ولا أحسب أننا مضطرّون الى اتباع التاريخ الغربي ( باعتباره مستقبل تاريخنا) و انما نحن في حاجة الى استلهام هذا التاريخ و معارفه النظرية (مثل علم الاجتماع) دون أن نقع في الاسقاط أو في المقايسات المغالطية. وختاما ، أشكرك ،أستاذ محمد على إعطائي هذه الفرصة لتوضيح بعض المسائل و الاستفادة من معارفكم التخصصية في العلوم الاجتماعية .مع الشكر".
وأضاف تعقيبا آخر:
هذا كان ردّي على تعقيبك قبل صياغته في صورة تساؤل. وأرجو أن يكون قد بيّن لك ،أستاذ حاج سالم ، بعضا ممّا جاء مختزلا في "الشذرة" التي كانت مبدأ لهذا الحوار . وعسى أن يتّسع باب المحاورة بيننا لتتضح الأطروحة التي أسعى الى بنائها -مع كل محاوريّ- أكثر ممّا كانت عليه عندما كانت فكرة مفردة لا ظلّ لها و لا غيرية تُنسّبها. مع خالص الودّ سي محمّد.
فكان ردّي:
أستاذ عادل: يبهرني فيك قدرتك على قول الكثير بالنزر اليسير من الخطاب، لكن ردي يندرج ضمن إشكالية فرعية ممّا طرحته أنت قبلا، فهو مجرّد محاولة تأصيل لدعوتك بادراجها في منظور إسلامي لا يقطع مع الموروث ويبتعد عن تصوّر "المواطنة" مفهوما غربيّا غريبا عنّا. أمّا عن البعد السوسيولوجي، فهذا ما لم أتناوله لأنّ الإيغال فيه يستدعي نصّا طويلا وتهويمات نظريّة لا يقدر ذهني المكدود على محاصرتها راهنا،،، فإلى أن يتيّسر ذلك ، لك منّي كلّ الودّ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.