يحدّد الشرفي مستويات
ثلاثة للإسلام، يتصل المستوى الأوّل بكون الإسلام مجموعة من القيم التي نصّ عليها
القرآن، وهي مجمل القيم الدينية والأخلاقية والوجودية، والمتعارف عليها بأنها
تتجاوز الزمان والمكان وتمثّل جوهر الإسلام. يتناول المستوى الثاني الممارسة التاريخية
لهذا الإسلام وما نتج عنه من قيام مؤسّسات في أعقاب التطور والتوسع الذي عرفه،
وضرورة وجود تشريعات تتناسب مع الأوضاع السياسية والاجتماعية المستجدّة. يدخل في
هذا المجال تحوّل الإسلام إلى مؤسسة لعب فيها رجال الدين دور السلطة الديينة
والزمنية، وقدموا أنفسهم ناطقين باسم الله على غرار ما عرفته الكنيسة في تاريخها
القديم والوسيط. أمّا المستوى الثالث فيتناول البعد الفردي في الإيمان، بما هو
عملية استبطان للقيم والمباديء وأثرها على الشخصية الإنسانية.
عندما يدور الحديث عن
علاقة الإسلام بالحداثة، من الطبيعي أن تنطلق من المقارنة بين العوامل التي أسهمت
في تكوّن الحداثة في العالم الغربي والمجالات التي تركزت حولها، وبين التطورات في
العالم الإسلامي والحدود التي وقفت عندها. تكونت الحداثة في الغرب في سياق تحولات
في البنى الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والعلمية، وما أفرزته من فلسفة سياسية
توجت هذه التحولات. شكلت العقلانية حلقة مركزية في الوصول إلى الحداثة، وهو صراع
خاضته المجتمعات الغربية ضد الكنيسة ورجال الدين منذ الإصلاح الديني على يد مارتن
لوثر في القرن السادس عشر وتتويج هذا الإصلاح في عصر الأنوار وما أفرزه من فكر
سياسي لعب دوراً مهماً في التغييرات السياسية وبناء الديمقراطية في المجتمعات
الغربية، حيث شكلت قضية العلمانية وفصل الدين عن الدولة خلاصة هذا الصراع المديد
على امتداد قرون، وبعد أن دفعت هذه المجتمعات كلفة باهظة من الحروب الأهلية ثمناً
لهذا التحول نحو الحداثة.
لم يمكن للمجتمعات
العربية والإسلامية أن تشهد المسار الذاتي التي عرفه الغرب في سيره نحو الحداثة
والتحديث. يعود السبب إلى جملة عوامل تتصل بدرجة التطور الإقتصادي والإجتماعي
والسياسي الذي مرّت فيه هذه المجتمعات قبل القرن التاسع عشر، والذي أبقاها خارج
العصر الذي كان صاعداً في الغرب. وعندما أتيح لهذه المجتمعات أن تتعرّف على
الحداثة الغربية، لم تستطع أن تنجز تحولات داخلية تسمح بصراع مع البنى الإجتماعية
والثقافية السائدة، بما يسمح بتوليد ثقافة جديدية مناقضة للفكر السائد. ظلت علاقة
هذه المجتمعات بالحداثة علاقة خارجية، تتلقى بعض تأثيراتها التي لم تتجاوز القشرة،
وتصدّ الجوهري منها الذي قد يؤثر في البنى القائمة. يشكل فكر النهضة الذي حاول أن
يشق طريق ثقافة جديدة متصلة بالحداثة لجهة العقلانية والديمقراطية وحقوق الإنسان
والحرية والمساواة.. يشكل هذا الفكر نموذجا لتصدي الإسلام بمؤسساته ورجال الدين
فيه إلى هذا الجديد القادم واعتباره خطراً على الإسلام والمسلمين لما يحمله من
أفكار تناقض ما قدمه الفقهاء من فكر جمّد الإسلام ومنعه من التطور والتفاعل مع
الفكر السياسي الحديث. وعند الحديث عن العوامل التي أجهضت التنوير في المجتمعات
العربية والاسلامية، يصعب إنكار الدور السلبي الذي لعبه الإسلام عبر مؤسساته
الرسمية والثقافية المتولدة عن ممارسته، والمعوقات التي وضعتها امام إدخال فكر
جديد يساعد في الملاءمة بين الدين الاسلامي ومنتجات الحداثة، والفصل بين الدين
والسياسة.
مما لاشك فيه أنّ
قضية الحكم والسلطة في الإسلام والفكر السياسي الذي تكوّن حولهما يشكلان أهم عائق
في علاقة الإسلام بالحداثة. ظل الفكر السياسي الإسلامي مشدوداً الى نظرية الدمج
بين الدين والسلطة واعتبار الإسلام دينا ودولة. وهي نظريات جرى تكريسها منذ اندلاع
الصراع بين المسلمين حول الخلافة إثر وفاة الرسول، وما تبعها لاحقاً في العهود
الأموية والعباسية من تكريس لهذه المقولة التي كانت تلعب دوراً مركزياً في تبرير
وتشريع السلطان السياسي. لم ينقطع السجال في هذا الموضوع قديماً وحديثاً، بل على
العكس يشهد الدمج بين الدين والدولة في الإسلام ذروة انبعاثه اليوم على يد الاسلام
السياسي الذي يرفع شعار الدولة الدينية والعودة إلى نظام الخلافة في وصفه الشعار
المركزي لأهدافه السياسية. في هذا المجال يقع التناقض في علاقة الإسلام بالحداثة،
وهو أمر شبيه بما مرّت فيه المجتمعات الأوروبية قبل أن تحسم العلاقة بين الدين والدولة
وتفصل بين المجالين الديني والسياسي، وهو الأمر الذي حرر المجتمعات الأوروبية من
الكثير من القيود التي كانت تمنع تقدم بلدانها وتجاوز بنى التخلف القائمة. لم يمكن
لإرهاصات الفكر النهضوي والتنويري الذي جادل ضد وحدانية الدين والدولة في الإسلام،
أن يتحول إلى صراع داخل هذه البنى ويجرف في طريقه مخلفات الفكر الموروث، بل إن حجم
التأثير الذي تمتلكه المؤسسات الدينية ومعها العلاقة القائمة مع السلطة السياسية،
منعت فكر النهضة من اختراق الثقافة السائدة والموروث من الأفكار الدينية، وانتاج
ثقافة بديلة تفصل بين الدين والدولة. يعود الأمر ايضا، خلافا لما عرفته اوروبا،
إلى درجة ضعف تكوّن القوى القادرة على حمل مثل هذا المشروع الجديد، وهي قوى
اقتصادية واجتماعية وسياسية مطلوبة.
تشكل قضية المرأة
ودرجة تحررها من ربقة التقاليد والثقافة السائدة أحد المقاييس الدالة على مستوى
تطور بلد من البلدان، ومدى انخراطه في التحديث والتقدم. يشير عبد المجيد الشرفي
إلى أفكار شائعة تتصل بدونية المرأة في المجتمعات الإسلامية، وتعيدها إلى الأحكام
التي قال بها الإسلام والتي تميّز بين الرجل والمرأة لصالح موقع الرجل وسلطته.
صحيح أنّ النص القرآني ومعه الكثير من الأحاديث تحمل ما يشير إلى دونية في موقع
المرأة، وهي نصوص اعتمد عليها الفقهاء المسلمون لتكريس منطق علاقة اللامساواة بين
المرأة والرجل، ولكن، على أهمية النصوص التي تعطي تبريرًا أيديولوجياً لهذه
المسألة من قبل رجال الدين والقوى الإجتماعية على السواء، إلاّ أنه يجب التعاطي مع
قضية النظرة إلى المراة ليس انطلاقا من النص الديني، بمقدار النظر الى درجة التطور
الإقتصادي والسياسي والإجتماعي، اي مستوى التطور الحضاري لبلد من البلدان، حيث
يحدد هذا التطور وحدوده التغيراات في موقع المرأة. بهذا المعنى لا تنفصل قضية تحرر
المرأة ومساواتها بالرجل في المجتمعات العربية والإسلامية عن درجة التخلف وحدود
التقدم الذي حصلته هذه المجتمعات، وهي درجة ما تزال غالبة لصالح البنى الجامدة
والثقافة التقليدية التي تحمل عداء للمرأة في الأصل.
إنّ دخول المجتمعات
العربية والإسلامية رحاب العصر، والنهل من منتجات الحداثة، وتحولها عوامل داخلية
في هذه المجتمعات، يطرح قضايا تتصل بالعوامل المساعدة على ذلك، وفي رأسها انخراط
الشعوب المعنية في حركة صراع داخلي ضد الثقافة السائدة والموروث الممسك بتلابيب
البنى القائمة، وهو عنوان لمشروع نهضوي مطلوب على جميع المستويات كشرط للدخول في
الحداثة والعصر.
بقلم: خالد غزال، موقع الأوان، 25 أفريل 2009.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.