عقدة ليليت: الجانب
المظلم من الأنوثة
هانس يوأخيم ماس
ترجمة: سامر جميل رضوان
ترمز الصورة الأسطورية
لليليت إلى الجزء المحرم من النفس الأنثوية. فليليت تعتز
باستقلاليتها وفاعليتها الجنسية، وترفض الأمومة. ليليت هي كل امرأة، ولكن ليس كل
امرأة تجرؤ، على خبرة هذا الجانب. الأمر الذي يقود إلى عواقب وخيمة كما يظهر ذلك
المحلل النفسي، هانس يوأخيم ماس.
تعني ليليت في اللغة
العبرية "العتمة". ومنذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة تطلق عليها في الأساطير
تسمية جنية الليل المجنحة. واعتبرها السومريون و البابليون والآشوريون
والكنعانيون والفرس والعبريين والعرب والتويتونيون آلهة وغاوية وقاتلة للأطفال.
ووفق التفسيرات العبرية المتأخرة كانت ليليت وفق سفر التكوين الزوجة الأولى لآدم.
فحسب الروايات اليهودية خلق الله سبحانه وتعالى ليليت، الزوجة الأولى لآدم
بالطريقة نفسها التي خلق بها آدم. غير أن آدم وليليت لم يتفقا مع بعضهما أبداً. فلم تكن ليليت مستعدة
للخضوع لآدم. وقد بررت مطالبتها بالمساواة مع آدم بأنها قد خلقت من التراب نفسه الذي خُلق
منه آدم. وقد عبرت ليليت عن مساواتها مع آدم من خلال امتناعها عن أن يلقي آدم جسده
فوقها أثناء ممارسة الجنس. فقد أرادت أن تكون مشاركة في الفعل الجنسي بصورة فاعلة
و "تنام" فوق آدم.
قاد امتناع ليليت عن
الخضوع لآدم إلى قلقه وغضبه. و أدت حدة الخلافات بينهما إلى هروب ليليت من الجنة
في النهاية. ومن هنا نشأت الصورة الأولى لليليت باعتبارها "الأنثى
الشهوانية"، ولاحقاً باعتبارها آلهة الدعارة و الجن والاستمناء.
ويصور التلموديون
ليليت على شكل أنثى متبرجة و مغرية، ذات شعر طويل ونهدين نصف عاريين تغوي الرجال
وتهدد الأطفال. وفي قصة فاوست لغوته يسأل الدكتور فاوست في أثناء الطيران السحري
على ظهر وعل الجبال: ومن هذه التي هنا؟ أجاب ميفستو: إنها ليليت، الزوجة الأولى
لآدم، احذر من شعرها الرائع ، من عقدها التي تزهو به، فإذا ما طوقت الشاب به،
فإنها لن تدعه يذهب أبداً.
وحسب الروايات فقد
عاقب الله ليليت لرفضها الخضوع، وعلى هروبها من الجنة.
وكان العقاب: بأن قضي عليها أبداً أن تظل غاوية شهوانية وقاتلة أطفال مرعبة وأن
تعيش في الأماكن الموحشة والمقفرة من الأرض-بين الحيوانات الكاسرة.
أما بالنسبة للحضارة
المسيحية فيعد من الأهمية بمكان أن ترجمة لوثر للتوراة لم تتمسك بدقة بالنص
التوراتي الأصلي. فالنص التوراتي الأصلي يشير بوضوح إلى أن حواء هي الزوجة الثانية
لآدم. ويروي النص الأصلي عن آدم قوله: "هذه المرة رجل من رجلي". ووفقاً
لذلك فقد كانت حواء "المحاولة الثانية". وعلى عكس حواء فقد استبعدت
ليليت من التوراة كلية تقريباً ولا يرد ذكر لها إلا عند jesaja (34.14).
فعندما اشتكى آدم ربه
بعد هروب ليليت من الجنة بأنه قد مل البقاء وحيداً، حلت رحمة الله عليه، فخلق له
حواء. ولكنه لم يخلقها من التراب كما فعل بليليت، وإنما من أحد
أضلاعه هذه المرة. ومن ثم فقد خلق الله حواء لتكون خاضعة
وليس مساوية لآدم. ونتيجة لهذا فقد كان من الممكن أن يحل الود والوفاق الدائم بين
الزوجين في الجنة، من خلال وجود جنس مسيطر وجنس خاضع، لو لم تتدخل الأفعى
–التي ترمز في هذه الصورة إلى ليليت كذلك- وتغري حواء نحو دفع آدم لتغريه بأكل
التفاح، وتعيد بهذا تأجيج نار المعصية والصراع من جديد وعلى هذا النحو قُسمت
صورة الأنثى منذ عشرات الآلاف من السنين إلى حواء وليليت، حيث تقدس البطريركية
صورة حواء و تلعن صورة ليليت وتحرمها. وعليه فإن حواء ترمز لخضوع
المرأة والسلبية الجنسية وللزواج الأحادي monogamy و
للأمومة "المضحية" وللمطبخ والعبادة وتربية الأولاد وخدمتهم. و هو في
الواقع مجرد جانب واحد فقط من الأنوثة. أما الجانب الآخر فتعبر عنه ليليت التي
ترمز للمساواة والفاعلية الجنسية والرغبة ورفض الإنجاب والأمومة.
إننا نتعرف في كل من
حواء وليليت على وجهين من الوجود الأنثوي، منفصلان عن بعضهما ومتنافران على
الأغلب، ويمتلكان مشاعر عدائية تجاه بعضهما. يمثلان نمطين مختلفين من النساء: القديسة والعاهرة.
حواء، المرأة الحنون
والوفية المخلصة والخاضعة للرجل. بالمقابل نجد ليليت تمثل حياة اللذة والرغبة
والإغراء والشهوة والاستقلال. أما الرجال فهم دائماً مشتاقون إلى كلا الوجهين
وخائفون في الوقت نفسه من كلا الوجهين من الأنوثة. إنهم يصدون خوفهم من الملل
وفقدان الرغبة في الزواج بحواء من خلال المعشوقات أو الانغماس مع العاهرات. ونتيجة
للخوف من القوة الأنثوية و جيشان الرغبة والاستقلالية يحاولون قمع ومقاومة أي مظهر
من مظاهر ليليت في كل امرأة وتحريمه أخلاقياً.
غير أن تحريم وإنكار
ليليت بالنسبة للرجال والنساء معاً يعد منبعاً للمعاناة الوخيمة التي لا يمكن
وصفها ولصراع الجنسين المرير وللعلاقات غير السعيدة، وهو السبب الكامن خلف ما يسمى
"الاضطرابات المبكرة" لدى الأطفال.
تحتوي عقدة ليليت على
ثلاثة مظاهر مقموعة أو منكرة أو منقسمة أو مهملة أو محرمة من الأنوثة:
- المرأة المساوية للرجل، والتي لا هي أدنى ولا أعلى منه، وإنما مساوية له، الناشئة من الأصل نفسه ومجهزة من ثم بالحقوق نفسها.
- المرأة الفاعلة جنسياً، المستقلة برغباتها والتي تتمتع بقوة جذب وإغراء، الأمر الذي يجعلها غير مهتمة بأن يتم اختيارها و "أخذها". إنها واعية لحاجاتها الجنسية، و تستطيع تأمين إشباع رغباتها ويمكن أن تكون معطاءة فاعلة في ممارسة الجنس.
- المرأة الكارهة للأطفال التي ترفض الأمومة، كي لا تكون مربوطة ومأسورة وملزمة ومتعلقة.
تنشأ عقدة ليليت في
الباثولوجيا المبكرة للعلاقة بين الأم وطفلها. فعندما تنجب امرأة تعاني من مشاعر
النقص وتتسم بالخوف وعدم الثقة بأمومتها، فإن حيوية الطفل العارمة و حاجاته الملحاحة
سوف ترعبها، لأنه قد تم تنشيط قَدَرَها الذاتي المبكر بشكل حتمي من خلال الطفل،
الأمر الذي يجعلها تنقل عدم استقرارها الذاتي الناجم عن أزمتها المتذبذبة إلى
طفلها. وسوف تنقل إلى طفلها الرفض والصد بشكل لاشعوري، طالما
ظلت تتهرب من حقيقتها الذاتية المبكرة، ولم تتمثلها انفعالياً، بعكس كل القناعات
والرغبات الشعورية المتمثلة في رغبتها في أنها ستقوم بالأمر بشكل
أفضل من أمها، وهنا يتحول إنكار العدوانية تجاه الطفولة إلى مأساة.
فالطفل، غير المرغوب
من أمه وغير المرحب به والمرفوض وغير المقبول في حيويته
وفردانيته لا شعورياً، يدرك الرفض وانعدام قيمته منذ البداية، وهذا ما
يجعل الطفل يشكك في حقه في الحياة وفي قيمته الذاتية. أما المأساة الحقيقية فتتمثل
في أن مثل هذا الرفض يمكن أن يتم توصيله للطفل من الأم بصورة لا شعورية كلية-
بالضبط كتعبير عن عقدة ليليت. ونتيجة للجرح النرجسي للطفل ينشأ ضعف في التماهي
لديه كاضطراب أساسي. وهكذا ينشأ من الطفل "آدم"، الذي لا يستطيع
أن يتحمل سوى "حواء" ضعيفة وخاضعة ،كي يكون هو قوياً وصلباً، ومن البنت تنشأ
"حواء" التي عليها أن تنكر قيمتها من تلقاء نفسها، كي يتم تحملها في
العلاقة الزوجية، و كي لا تضطر للهروب إلى الوحدة. وكوالدين سوف يعيق
"آدم وحواء" طفلهما في تفتحه الانفعالي و نشاطاته الحيوية، ويعتبرانه
موضوعاً للتربية عليه أن يكون مجبراً على النظام
والأدب والسيطرة على مشاعره، كي يتم لجم حيويته وتدفقه الجنسي الهدار. ومن
خلال هذا الأمر يتم تحريف المرأة المستقبلية إلى امرأة
مطيعة والرجل المستقبلي إلى مستفيد بارد لا حياة فيه.
غير إن القصور في الأمومة
الطيبة والأصيلة بشكل خاص يجعل الطفل يعيش حالة نقص الأم (الفقدان النفسي للأم (Mother
Deficit، الأمر الذي يجعله في المستقبل،
كرجل أو امرأة، يبحث في شريكه الزوجي عن بديل، وهو ما لا يتم أبداً
بصورة مرضية على الإطلاق. والأب المقيد بعقدة ليليت لن يتمكن-كثالث- من إيجاد
الطاقة والشجاعة للتثليث، ولهذا أيضاً لن يشكل بالنسبة للطفل إمكانية تعويضية
وحامية ضد نقص الأم وتسممها. و كأب غير مثالث أو أم غير متثالثة تظل العلاقات كلها
مثبته على الأم وتتجلى على الأغلب من خلال لوم الأب واتهامه و كرهه.
ومن ثم يتم اتهام الأب بأنه مسؤول عن كل اضطرابات النمو، ويظل نقص الأم المبكر
متخفياً يعيث فساداً. ويبرز هذا بصورة أشد كلما كان الأب أكثر فشلاً بالفعل و يخشى
مواجهة الأم.
أما العواقب النفسية
الاجتماعية لمركب ليليت فهي وخيمة. وتتمحور
الأعراض العامة لدى كلا الجنسين حول ضعف التماهي كرجل أو
كامرأة، بكل المخاوف وعدم الثقة
في العلاقة الزوجية. إذ تلقي المرأة بنفسها طواعية نتيجة حاجة لا شعورية أو حتى
مجبرة نتيجة سيطرة بطريركية في موضع أدنى و تابع، تعذب من خلاله الرجل بأشواقها
ورغباتها غير المحققة وتهدد العلاقة بخيباتها وحقدها وتدمرها. وتجعلها ليليت
المكبوته في داخلها تعيسة-ضمآنة ، لوامة-متذمرة، تفرغ انفعالاتها بشكل شيطاني.
(والمقصود بالشيطانيهنا سلوكاً تحاول المرأة من خلاله بشكل
مباشر و متخف الحصول على السلطة من خلال الشكوى والمعاناة و الاتهامات).
والرجل في عقدة ليليت يظل غير مخلص وغير
واثق من رجولته. ويحاول إخفاء ضعف تماهيه من خلال النقود والسلطة والوجاهة. إنه
ينفخ نفسه ويسعى للحفاظ على علاقاته مسيطراً وسائداً من خلال التباعدDistance .
و يظل الاندماج المشحون بالحب والثقة مهدداً ويتم تلافيه.
أما العلاقات بالنساء فيتم تجنيسها Sexualization ،
وهكذا يتم تحقير التوق نحو شريكة مساوية بالقيمة من خلال الاستعمال الجنسي
"والطيران". الجانب الآخر للمشكلة الكامنة نفسها يتم تفريغها من خلال
العجز الجنسي. ومن خلال حرمان المرأة من الحصول على استجابة لتهيجها، من خلال قضيب
نائم، لا ينتصب، فإنها تعاقب لوجودها كحوا، بدلاً من الاعتراف كرجل بالشهوانية
الذاتية اليليتية و تحدي المرأة.
وعادة يحاول كلا
الجنسين التنافس مع بعضهما في علاقتهما نحو السعادة المفقودة. ففي طور العشق يبدو
الآخر وكأنه يحقق ويرغب بكل الأشواق، إلى أن يرهق كلاهما الآخر في سباقه نحو
التوكيد والاهتمام وأن يكون مقبولاً. وينقلان غضب خيبتهما
الوجودية والمبكرة والموجودة أصلاً منذ أمد طويل نحو بعضهما، وهي ما كان يفترض أن
يوجهانها بالأصل لوالديهما، ويدمران بهذا كل تقارب ودي وشفافية متفهمة لأزمتهما
الذاتية.
ويتم بالنيابة توليد
المعاناة من صراعات العلاقة الزوجية ومن الحروب الصغيرة اليومية و الخيبات و
الاعتلالات المتكررة اللامتناهية، التي تصبغ الحياة الزوجية بطابعها، من أجل
التمكن من إبراز صراعات مفهومة وقابلة للتحديد، وكي لا يجدان نفسيهما مجبران على
تذكر قدرهما الباكر والغامض كلية. وبالتالي يتم تحويل المعاناة المبكرة التي لا
تطاق إلى مأساة راهنة مستقرة ودائمة.
لقد أسهمت عقدة ليليت
في نشوء حركة تحرير المرأة. إنهن يناضلن بالدرجة الأولى ضد السيطرة غير المحقة
للرجال، المستندين في تسلطهم إلى السلطة التي منحهم إياها العهد القديم. ولكن كما رأينا فإن
هذا الفهم خاطئ، لأن وجود ليليت وبالتالي عدم نضج آدم قد تم حجبه بالأصل. وكذلك
فعلت المسيحية، حيث أنكرت ليليت إلى أكبر حد، ويندر جداً أن نجد أي طفل قد عرف
شيئاً في الكنيسة عن ليليت. غير أن الحركة النسائية قد جعلت من أسطورة ليليت
أسطورتها هي وغالباً ما استخدمت اسم ليليت، غير أن عقدة ليليت الكلية عادة ما
لايتم إدراكها، لأن صراع الجنسين يظل هو النقطة المركزية. فالرجل يعد هدفاً منافساً
ووغداً، وغالباً ما يتم تمجيد الجنسية في صورتها الاستمنائية أو السحاقية، وغالباً
ما تظل إشكالية الأمومة محجوبة. وفي صراع المرأة نحو الحصول على العمل والشهرة
الاجتماعية الموازية للرجل يتم إنكار الأمومة وتبخيسها، ويتم النظر لرياض الأطفال
مع الانفصال المبكر جداً للطفل عن أمه على أنه ضرورة لا بد منها. وعلى هذا النحو
يتم بشكل حتمي توريث نقص الأم الذي تقوم عقدة لوليت عليه، إلى الجيل التالي.
أما أهم جزء من عقدة
ليليت، الذي اعتبره شخصياً مدمراً للحضارة ومصدراً أساسياً للعنف والحروب –الصغيرة
منها والكبيرة- فهو المظهر المعادي للأطفال. إنه الطراز البدئي للأم المرعبة
والموحشة والمستنزفة والملتهمة، التي تسرق الأطفال المولودين حديثاً وتقتلهم، التي
تمتص دماء الطفل وتشفط حتى لب العظم. ولهذا فإن اليهود الأرثودوكسيين ما زالوا حتى
اليوم يلبسن النساء اللواتي يلدن حجباً. وفي ثقافات و
ميثولوجيا كثير من الشعوب تظهر المخلوقات الخاطفة للأطفال
والماصة للدماء على هيئة امرأة غاوية، وهذا يدل على نموذج بدئي عام.
يدرك و يشير المرضى
الذين يعانون من ضعف في التماهي و اضطرابات القيمة الذاتية وحالات من القلق –أي من
أعراض أمراض مبنية بصورة مبكرة للذات- في الجلسات التحليلية المعمقة إلى خبرات رفض
مهددة من الأم. وغالباً ما يكونوا قد فصلوا بشكل مبكر عن أمهاتهم وكانوا ضحايا
للاستغلال النرجسي من الأم. وتتحول معرفة أن الأم كانت متسلطة وعدوانية ومطالبة و
وماصة، وأن الطفل كان موضوعاً لإشباع هذه الحاجات، تتحول إلى معرفة مرة ومؤلمة
وممزقة للقلب ومعذبة، غالباً ما تثير كذلك حنقاً قاتلاً واشمئزازاً مكثفاً.
والمظهر المعادي
للأطفال للأم ليس هو المشكلة المرهقة والمهددة بحد ذاته، وإنما إنكاره وكبته في
عقدة ليليت. فأسطورة ليليت تظهر لنا جانباً طبيعياً وحتمياً من شخصية الأنثى، يتيح
لنا فهم رفض الأم، لأنه من خلال الولادة تتم إعاقة الاستقلالية والمساواة المهنية
والاجتماعية، وحتى الاهتمامات الجنسية لفترة زمنية معينة. وغالبية الأمهات يرفضن
هذه الحقيقة من خلال من خلال الأمومة نفسها أو من خلال الالتزام بحركة تحرير مع
صراع إيدويولوجي من أجل حقوق المرأة، لا يحتل فيه الأطفال أي مكان.
وعلينا ونتيجة لكم من
الخبرات العلاجية أن نفترض بأن الطفل يشعر باتجاه الأم هذا نحوه، قبل فترة طويلة
من تمكنه من فهم ذلك بطريقة منطقية وقبل أن يتمكن من مواجهة ذلك لفظياً.
وقد تعلمنا من خلال
الأبحاث الحديثة حول الرضيع، أنه ينشأ منذ البداية تواصل متبادل بين الطفل والأم.
أي أن الطفل ليس مجرد متلق سلبي للرعاية الأمومية الطيبة أو
السيئة، وإنما يسهم بفاعلية
في بناء العلاقة مع الأم. وبالتالي فهو مجهز بمجموعة من المنعكسات الولادية والقدرات
التواصلية، تساعده على الاتصال وتنظيم العلاقة. وبهذا فإن كل أم ستتذكر لا شعورياً
من خلال طفلها بصورة حتمية خبراتها الأولى المبكرة. فالطفل يتواصل مع
"الطفل الداخلي" لأمه إن صح التعبير. ويتحدث
دانييل شتيرن عن "تشكيلة الأمومة" motherhood-constellation الخاصة. وهي حالة تدخل فيها كل أم
بعد الولادة، تختلط فيها لا شعورياً الخبرات مع أمها- الخبرات كابنة- مع بديهية الأم الشعورية
المترافقة بالاتجاهات المعروفة والمرغوبة تجاه الطفل. إن القدرة المهمة للأم على
التعاطف المتفهم مع طفلها يتحدد بدرجة كبيرة من خلال خبراتها الباكرة عندما كانت
هي نفسها رضيعاً. فالكيفية التي استجابت من خلالها لها أمها، وتفهمتها وفهمتها
وتقبلتها فيها، ووضعت حدودها، وعاشت فيها حبها و أوصلت إعاقاتها، تحدد إلى مدى
بعيد على ما يبدو الأمومة الذاتية.
تنتقل حالة الأم، أي مخاوفها
وشكها، عدم ثقتها وصراعاتها المتناقضة، رفضها وخيباتها، وحبها وتعاطفها بصورة
جسدية في بادئ الأمر، حيث تحتوي نوعية النظرات والملامسات وطريقة الحمل والحضن
والإيماءات والإشارات والصوت تأثيرات جوهرية. ومن هنا فليس من المستغرب أن يعزى
لبريق عينا الأم، و تقبلها للوجود الطفولي و التعرف الحنون على حاجاته أهمية كبيرة
في تشكيل خبرة القيمة الذاتية عند الطفل.
في كثير من العلاجات
كان علي أن أشهد الضياع الحائر للناس و رعبهم العميق عندما يدركون أنهم لم يحصلوا
ولا مرة على نظرات الحب من أمهاتهم، وأحياناً لم تقع نظراتهم على نظرات أمهاتهم
على الإطلاق. إن الاتجاه اللاشعوري للأم نحو طفلها، وحتى الخبرات
الباكرة غير المذللة وغير المعروفة للأم تؤثر على ما يبدو على الطفل بشكل أشد
بكثير من الأمومة المرغوبة والشعورية، وحتى أكثر من تلك الأمومة
المكتسبة من خلال دراسة كتب التربية والإرشاد. وهكذا يتحول الطفل المستجيب
والطبيعي جداً والناشط حيوياً إلى تهديد للدفاع الأمومي ويضع تعويض خبراتها
الذاتية المبكرة الصادمة موضع الشك. وهذا بالأصل نتيجة لعقدة ليليت أم الأم، أي
عقدة الجدة. وعندما تقوم الأم الشابة بإنكار ذلك الجزء من عقدة ليليت فيها، ذلك الجزء الرافض
للطفل والخائف منه لأنه يمكن أن يلحق الأذى بالأنوثة
المستقلة والتواقة، فإنها سوف تنقل إلى طفلها نتيجة
عدم أصالتها أو إرهاقها المتعب للأعصاب وتوترها الاتهامي، وتفرخ فيه
"اضطراباً مبكراً" من خلال الجرح النرجسي.
لا يوجد رجل يستطيع أن
يكون رجلاً مع "حواء" ، ولا توجد امرأة تمتلك فرصة أن تنضج مع
"آدم" إلى امرأة. فآدم وحواء يعيدان إنتاج حياة لا تطاق نتيجة عقدة
ليليت، يسممان حياتهما المشتركة من خلال خيباتهما
المتنامية ويزيدان بهذا معاناة أطفالهما التي يمكن تجنبها. فقط من خلال دمج
"ليليت" في ذاتهما يمكنهما أن يصبحا مثالاً لأولادهما في الحب والحياة
السعيدة ولتمثل وتقبل المعاناة التي لا يمكن تجنبها في حياة زوجية مسؤولة. غير أن
كلاهما أرادا بكل السبل الهروب من "ليليت". وهنا يتحول "آدم"
بالنتيجة إلى "محارب" و "حواء" إلى "شيطان رجيم".
ولا يستطيع الطفل
الانفكاك من أمه وكسب زوجته كشريك حياة وشريك جنسي مساو له، إلا عندما يكون
اشتياقه الأمومي مشبعاً، أو عندما يتعلم التمكن من الحزن على نقص الأم لديه بين
الحين والآخر-ليس بهدف تصحيح الواقع أو تهدئة النقص لاحقاً، كما هو الأمر في ثقافة
كاملة متمركزة على المتعة تسعى نحو التسويق بشكل إدماني أو حتى كما يوهم كثير من
المعالجين النفسيين متعالجيهم.
ترغب كثير من النساء إعطاء الرجل
الذي يعاني من عقدة ليليت ما كان يمكن لأمه أن تعطيه إياه وما هو مفقود
للأبد. أو أنه يريد معاقبة كل امرأة بكل وسيلة ممكنة لتعاسة
أمه.
كان على فرويد أن
يخترع "عقدة أوديب" من أجل جنسنة التثبيت المنتشر بكثرة على الأم ، ومن
أجل إعطاء –بطريقة خاطئة للأسف- المأساة النفسية الاجتماعية الباكرة تفسيراً
دافعياً نظرياً. إن إساءة استخدام التحليل النفسي الفرويدي الأرثوذوكسي لأسطورة
أوديب و تحميل الذنب العظيم للوالدين اللذين أرادا قتل ابنهما في علم نفس الجنس
الموهوم، جعلت جزءاً كبيراً من العلاج النفسي يتحول إلى نظام إنكار وتكيف في خدمة
عقدة ليليت.
يفيد تشكل الصراعات
العصابية "الأوديبية" بشكل خاص في صد المحتويات النفسية المهددة الناجمة
عن الرفض و التقليل من القيمة المبكرين. وكل العلاجات النفسية التي تهتم بشكل مكثف
ولفترة طويلة بتفسير التورطات الإنسانية اللانهائية والأزمات والاعتلالات
المتصدرة، تشكل بأسلوبها هذا خطراً كبيراً يتمثل "بتهذيب" عواقب الأزمات
الباكرة، من أجل تمويه عدم الأمن الحياتي الأساسي والسببي. ولابد من الاعتراف أنه
لن يتمكن المرء في كثير من الحالات فتح الهلع الباكر على الإطلاق أو لا يجوز له
ذلك على الإطلاق، لأن الإطار العلاجي أو الطاقة الموجودة للمعالج لن تكفي، من أجل
أن يترك مارد الحياة الباكرة الذي لا يمكن تصوره يصبح مدركاً و يتم تمثله
انفعالياً.
والأريكة Couch ليست
في كل الأحوال هي المكان الأمثل الذي ينفجر عليه الغضب القاتل والكره العميق
والألم الجارح والنفور المسبب للإقياء والحزن الممزق للقلب، والذي يمكن نقله بشكل
مقصود من خلال عملية النقل إلى المعالج. إذ أن الانفعالات الباكرة والتوق الباكرين
يكونان شديدان إلى درجة أنه لا بد من اتخاذ إجراءات علاجية أخرى، نسعى إلى تحقيقها
في علاج نفسي تحليلي للجسد في غرفة نكوص وحماية مركزية. وتشير الخبرات العلاجية
التي أمكن حتى الآن جمعها في هذه الأطر العلاجية إلى أن الأطفال الذين يعانون من
نقص باكر في الأم (عجز أمومي)، أي يعانون من انجراح نرجسي أساسي يحاولون بطرق ووسائل متنوعة
ومتعددة الحصول على حب الأم، ذلك أن نقص الحب يهدد بقاءهم.
تمثل جنسنة العلاقة
محاولة متكررة للشبان، من أجل "امتلاك" الأم، ومحاولة البنت نحو إيجاد
نوع من التعويض عند الأب على الأقل. ويبعث الاهتمام الجنسي genital النامي والمعرفة
المتنامية حول جنسانية الوالدين مع ما ينتمي لذلك من هوامات إضافية الأمل بإمكانية
التحرر و إيجاد سر الحب في الجنسية. ولا يمكننا أن نؤيد
ونثبت وجود ما يسمى بالتشكيلة "الأوديبية:" باعتبارها مرحلة طبيعية من
النمو النفسي ، يرغب فيها الولد تبجيل أمه و ويكبت الأب. ففي
كل الأحوال فإن مثل هذه الرغبات تقوم على أساس اضطراب طفلي مبكر. ففي "عقدة
أوديب" يتم السعي نحو تعويض نقص الأم المبكر، الأمر الذي لا يمكن أن ينجح على
الإطلاق، غير أن التثبيت غير السعيد على الأم والصراعات بالنيابة تضمن ذلك
التوازن، ويمكنها أن تقدم دعماً كذلك.
تصف أسطورة أوديب عواقب الذنب
الأسري: فعندما لا يريد الوالدان تقبل الطفل، ينزلق الأب
وابنه – بتحد من الأب- في نزاع قاتل كرمز للعنف الدموي بين الرجال، وتدخل الأم وابنها
في زواج غير مسموح – الأمر الذي لا يمكن أن يعرفه إلا الأم- كرمز للعلاقات الزوجية
غير السعيدة والمدمرة. كلاهما ناجم عن الكره وضعف التماهي من
المأساة المبكرة.
أما في عقدة ليليت
فإنه يرمز إلى عدم نضج الرجل والمرأة
بشكل خاص، الذي نمى عن حاجة
مبكرة غير مذللة (للأم). و "آدم" و" حواء" يورثان عدم نضجهما
إلى أولادهما، بحيث أنهما يتوقعان بالنسبة لحاجاتهما من الأطفال أكثر مما يكونان
قادران على إدراك حاجات طفلهما وإشباعها بقدر ما يستطيعون. وعن عقدة ليليت عند
الوالدين تنشأ "الاضطرابات المبكرة" عند الأطفال، والتي يرغبان بشفائها
من خلال التورط "الأوديبي".
عقدة ليليت تجعل من
الأمهات أمهات كاذبات، يخدعن أطفالهن بوعود الحب الزائفة، أكثر مما يستطعن
منحه لهم في الواقع. ويردن في النهاية وبشكل لاشعوري أن
يكافئهن أولادهن على مساعيهن الشديدة، لأنهن هن أنفسهن غير ممتلئات بحب الأم
بالأصل، حيث يقمن عندئذ باستغلال حب أطفالهن، الأمر الذي يبرر "تسمم الأم
"Poisoning –Mother .
أما الرجال فيظلون في عقدة ليليت صبيان طفليون متعلقون بالأم، ويتحولون إلى آباء
محبطين أو هاربين، حيث لا يكونوا موجودين كثالث محرر و موازن، لأنهم يستجيبون
بغيرة مرضية على اهتمام زوجاتهم بأطفالهم، حتى وإن كانت هذه الأمومة تعاش ناقصة
ومتشنجة.
وهكذا يتم إهداء عقدة
ليليت غير المتغلب عليها عند الأمهات والآباء في كل الأحوال إلى الطفل على شكل نقص
الأم وتسممها وفشل الأب وسوء استخدام الأب و إرهاب الأب.
والمرأة التي تنكر
"ليليت" وتعيش "حواء" سوف تلحق بشكل حتمي بطفلها الأذى من
خلال إنكارها اللاشعوري و أنوثتها المخفضة و الأحادية الجانب. وهذا يفسر لنا كثرة
اضطرابات الشخصية النرجسية لدى كثير من الناس، عدا عن العنف الصريح النادر على
سبيل المقارنة ضد الأطفال و والخطر المتنامي لمرض مجتمع نرجسي متفش – مجتمع عليه
أن يوجد مزيداً من مصادر الإشباع النرجسي الأولي وبالتالي ينمي طبيعة إدمانية
هدامة على المستوى الفردي والجماعي.
والرجل الذي ينكر
"ليليت" ويعيش "آدم" سوف يعيش بشكل حتمي في الطفل صورة منافس
على الأم. ولهذا سوف يرعب الطفل أو يسيء معاملته، وسوف يوجه غضب خيبته نحو شريكته
ويهرب إلى المومسات أو إلى الكحول أو إلى العمل أو إلى صراع السلطة.
أما المرأة المدموجة
فيها ليليت (المتكاملة فيها كل من حواء وليليت بالتساوي) سوف ترغب بالرجل كشريك
لها تكمل ذاتها معه كند لها، لا تكون معه مضطرة للخضوع ولا ترغب بالسيطرة ولا
ترهق نفسها معه في صراع تنافسي. وتكون أماً مع إدراك ما يرتبط بذلك من تقييد
وارتباط حر، الأمر الذي يمكنها من مواجهة الطفل بإخلاص وصراحة ضمن حدودها، وإدراك
الألم حول القصور الذي لا يمكن تجنبه والتعبير عنه. وسوف تمتلك الشجاعة للاعتراف
أمام الطفل بشكل خاص أنها يمكنها أن تشعر بالرفض والخوف والكره لطفلها، ولكن هذه مشكلتها
هي وليست مشكلة الطفل، وأن الأمور ستسير بخير عندما يستجيب الطفل لهذا بضيق و حزن.
غير أنه لن يكون للحقيقة التي تشعر بها أية عواقب هدامة على الإطلاق. بالمقابل
فإنه من المؤكد أن الحب الكاذب والاتجاه المتخفي يسبب الاضطرابات والمرض والعنف. والأم الصادقة
والأصيلة سوف تبارك منذ البداية انفصال واستقلالية الطفل من حيث المبدأ.
أما الرجل المدمجة
ليليت فيه (التي تتكامل فيه كل من ليليت وحواء) فسوف لن يحول زوجته إلى أم له وسوف
يعيش زوجته نداً وإغناء وإكمال وتنمية له، ويتشارك معها الحياة ويبنيها بشكل فاعل
وإبداعي. إنه رجل منفصل عن الأم، يتصرف بالفعل من داخله، من ذاته، دون أن يكون
عليه لأن يحقق شيئاً أو يبرهنه أو يصارعه مدفوعاً بعوزه الداخلي. إنه لا يستطيع
تحمل وجوده لوحده فحسب بل ويستطيع الاستمتاع بفردانيته النادرة وخصوصيته الوجودية.
طفله ليس منافساً له وإنما وظيفة طبيعية، يتحول بالنسبة له معلماً و مدرباً
ومثالاً أعلى. ويستطيع احترام اختلاف الخلف بوصفه
تعبير عن عمليات النمو الحيوية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.