"الصورة
والجسـد: دراسات نقديّة في الإعلام المعاصر" لمحمّد حسام الدين إسماعيل، من
تلك الكتب التي تقدّم مقاربة وصفيّة لوسائل الإعلام العربيّة، وطرق اشتغال هذه
الوسائل في ظلّ العولمة وانفتاح السماوات، والمشاكل التي تعترضها، سواء المنبعثة
من ذاتها، أو تلك المفروضة عليها من الخارج، بحكم تزايد مدّ انتشار المعلومات
والمعطيات عبر الحدود وغيرها.
بالفصل الأوّل (الإعلام وما بعد الحداثة: صعود الصورة وسقوط الكلمة)، وهو الفصل الأساس
بالكتاب، يتحدّث المؤلّف عن الحداثة باعتبارها "مرحلة تاريخيّة تأتي تالية
لأحداث 1968 التي شهدتها الجامعات الأوروبيّة، والتي انطلقت من باريس كحركة سياسيّة
ثقافيّة اجتماعيّة، ردّا على النمط الثقافي المهيمن آنذاك، والاصطفاف العالمي في
معسكرين شرق وغرب، وما بينهما من فروقات، تصل إلى حد التضادّ التامّ. وتمتدّ هذه
المرحلة حتّى سقوط جدار برلين 1989، وما تلا ذلك من سقوط للمعسكر الشرقي".
إنّها، يتابع المؤلّف،
مرحلة تؤرخ لهيمنة الثقافة الرأسمالية، بنمطها الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي، وتؤرخ لطغيان صورتها على مجمل مرافق المجتمع، الاجتماعي منها،
كما السياسي والثقافي، كما "الأنساق المغلقة من الثقافات الموجّهة، وحالة
إنكار الأديان، ورفض العقلانيّة، وتفسير كلّ شيء من خلال القوّة".
ثمّة علاقة أساسيّة وجوهريّة بين العولمة والإعلام وما
بعد الحداثة، يقول المؤلّف. وأنّ إخفاقات الحداثة التي بلغت ذروتها في القرن
العشرين، "قد مهّدت لحركة ما بعد الحداثة التي كان من العلامات الفارقة على
فكرها، الشكّ في الخطابات الكلّية والأنساق الأيديولوجيّة والطوباويّة والفلسفيّة
الكبرى، التي تطمح إلى إعطاء معنى كوني للحياة الإنسانيّة، والبحث عن يوتوبيا
جديدة تفارق اليوتوبيات الحداثيّة".
إنّ فكر حركة ما بعد الحداثة، يؤكّد المؤلّف مرّة أخرى،
إنّما مرتكزه جملة قيم ومقولات، "كالاعتقاد بالنسبيّة الاجتماعيّة واستحالة
امتلاك الحقيقة، والقول بالحتميّة الثقافيّة التي تؤمن بإيجابيّة الاختلافات بين
البشر، وبأنّ لكلّ ثقافة حقيقتها الخاصّة، ورفض الأنساق المغلقة والمعايير العلويّة
المفارقة للواقع الإنساني، وإطلاق العنان للغرائز الطبيعيّة ورفض العقلانيّة".
صحيح، يقرّ الكاتب، أنّ الصحافة المكتوبة والصورة
الصحافيّة والتلفزيون والإعلانات والانترنت، قد حملت كلّ فيما يخصّها، راية
التجديد والفكر المعرفي الجديد، وأسهمت "في تعدديّة الحقيقة التي تعدّت
العالم الواقعي إلى عالم افتراضي معتمدة على الخيال الذي تصنعه هذه الوسائل".
إلاّ أنّ دخول الإنترنت على نطاق واسع في الإعلام، قد طرح بقوّة إشكاليّة الحقيقة،
"إذ لم تعد هناك حقيقة واحدة مع الانترنت، كما أنّ تقليص تكنولوجيات الواقع
الافتراضي للزمان والمكان جعل الحقيقة بلا أساس مادي ومعتمدة على الخيال، وبات لكلّ
فرد حقيقته الخاصّة، إذ لا يمكن لأحد أن يدّعي امتلاك الحقيقة. ورافق ذلك امتلاء
الفضاءين المعلوماتي والإعلامي بمضامين تركّز على التفسير الغريزي للحياة، الأمر
الذي يعني رفض العقلانيّة الحداثيّة، واتّخاذ النصّ ما بعد الحداثي شكل تجمّع
عنقودي من الرموز، قابل للتأويل بأشكال مختلفة".
من جهة أخرى، يلاحظ الكاتب، أنّ ولوج عدد كبير من رجال
المال والأعمال العرب لمجال الإعلام، سيّما امتلاكهم للعديد من القنوات الفضائيّة،
إنّما اقتصر أداؤه على تقديم صورة نمطيّة "اكتفت بتقديم الجسد، والصورة
الجميلة، من دون أيّ مشروع خاص، ورضيت بتقديم المشروع الغربي على علاّته، لتندمج
هذه الآليّات في خطاب واحد، بعيدا عن الخطاب الغارق في الماضي بالنسبة للعرب
والمسلمين".
ويدلّل الكاتب على ذلك عندما يعرض بالفصل الثاني (الأغاني
المصوّرة العربيّة المعاصرة) لما يسمّيه بـ"الحداثة العربيّة" التي تجلّت
بقوّة في هذا الجانب، مشيرا إلى أنّها إنّما "تقدّم الدليل على الفصام
الثقافي الذي يحدث ليس نتيجة للعولمة، لكن بسبب الماهيّة العميقة التي تجد تجليّاتها
في الأفكار الدينيّة لاسيّما تجاه المرأة".
من هنا، فإن الأغاني المصوّرة إنّما تحقّق بنظره،
"إشباعا لأحلام اليقظة لدى الجماهير العربيّة المحرومة من الحبّ والحريّة
الجنسيّة، والمستكينة تحت أثقال التقاليد والأعراف والشرائع، في مجتمع يعاني من
العنوسة والانفجار السكاني والأزمات الاقتصاديّة".
وهو ما يؤكد عليه أكثر في الفصل الثالث من الكتاب (الاقتصاد
السياسي لثقافة الصورة) حيث تحول البطولة من المكتوب إلى المرئي، وتحول الجسد
الأنثوي إلى ما يشبه المعبود الأوحد، "بحيث تحول هذا الجسد إلى حامل لكل صورة
جميلة للمجتمع، رغم أن الرسالة التي حملتها هذه الأجساد الجميلة لم تكن سوى رسالة
تجارية ذات النزعة الاقتصادية".
إن الجسد هنا، بنظر الكاتب، إنما يلعب الدور المحوري في
تقديم السلعة والترويج لها، بالتالي، فمن الطبيعي في ظل اقتصاد يعتمد على
العبودية، أن يتم "تطوير وترويج صورة للعبيد تبرر مؤسسة العبودية، وتجعل من
هؤلاء العبيد نخبة المجتمع الأمثل، التي يحلم بها الكل والمثل الأعلى للمجتمع".
في الفصل الرابع (التحليل الثقافي للعري) يحاول المؤلف
تبيان أن ثقافات العالم والشعوب، إنما ارتبطت تاريخيا "بشيء من العري، كنوع
من الثقافة العامة والحالة الطبيعية، والعادية لدى شعوب لم تعرف اللباس، ومجتمعات
قدست الجسد حينا لذاته، وحينا لجماله، وللجنس والإنجاب في أحيان أخرى".
بهذه النقطة يقول الكاتب: إن "تقديم صورة الجسد
الجميل بمرافقة السلعة في ترويج سلعي استهلاكي، تبدأ بالجسد وتشمل كل ما هو
إنساني، وكل ما يحيط بالإنسان، بحيث اختزلت الإنسانية في شكل الجسد، وفي مفارقة
غريبة بعيدة كل البعد عن كل التعاليم الدينية والفلسفات الإنسانية الاجتماعيّة".
ويخلص الكاتب بالنهاية إلى الاعتقاد بأن "المعلم
المميز الذي يشكل جوهر إعلام ما بعد الحداثة، هو ارتباطه بالعولمة الاقتصادية،
بتركيزه على الإنسان الجسماني الاستهلاكي، المنشغل بتحقيق متعته الشخصية خارج أية
منظومات قيمية اجتماعية أو أخلاقية، وخارج أي انتماء وطني، في عملية تنميط للعالم،
بحيث يصبح وحدات متشابهة، هي في جوهرها وحدات اقتصادية تم إخضاعها لقوانين العرض
والطلب، كي يصبح الإنسان، إنسانا اقتصاديا جسمانيا، لا يتسم بأية خصوصية بعد إمحاء
ذاكرته التاريخية، ما يفتح الحدود أمام السلع ورأس المال لتتحرك من دون قيود أو
عوائق".
يحيى اليحياوي
مشكورين جدا
ردحذف