لفت انتباهي تصريحان أو مقالتان في الصحف العربية هذا الأسبوع عن الإسلام وحركات التغيير. أما المقالة الأولى فكتبها الأستاذ التونسي التسعيني محمد الطالبي، وهو يحمل فيها على «الشريعة» والدعوات لتطبيقها. فالشريعة في نظره اختراع أدخل على أصول الإسلام، وصارت أيديولوجيا في الأزمنة الحديثة، وهي في نظره مقولة يستحيل معها إقامة دولة من أي نوع. أما المقالة الأخرى فكتبها الشاعر المعروف أدونيس في صحيفة «السفير» اللبنانية يوم 13-7 ووجهها للمعارضة السورية بشأن الدين ودوره الغلاب منذ قيام الإسلام. وكان قد وجه رسالة أولى للمسيحيين العرب الذين رحبوا بالتغيير، ورسالة ثانية إلى الرئيس بشار الأسد، حثه فيها على مغادرة حزب البعث لأنه صار يشبه الدين الإسلامي الجامد.
ولست أريد هنا العودة لمجادلة الطالبي الذي له تاريخ طويل في قول الشيء ونقيضه، ولا أدونيس الذي له تاريخ طويل في التنظير لكراهية الإسلام، والإسلام السني الأكثري على الخصوص. بل ما أقصد إليه قراءة أصول وخلفيات هذه الحملة الجديدة على الإسلام وأهله بمناسبة اشتعال حركات التغيير العربية. فنحن نعرف أن الجدال نشب في وسائل الإعلام الغربية في الأسبوعين الأولين لاندلاع المظاهرات في تونس ومصر، وهل ينبغي تأييدها أو التوقف عن ذلك بسبب طابعها الأصولي واندساس الإرهابيين فيها. وقد ذكر ذلك بإلحاح الإعلام الرسمي في تونس ومصر، وساندهما في هذه «الاتهامات» بعض الدارسين الاستراتيجيين الغربيين، باعتبار أن التفكير الديني الأصولي هو المسيطر على المجتمعات العربية، ولذلك فإن الاحتجاجات لا بد أن تكون من أصل ديني، أو سوف تؤول لذلك رغم شعاراتها «المدنية» عن الحرية والكرامة والعدالة. إنما المعروف أن سائر السلطات الغربية حسمت أمرها لصالح نصرة الاحتجاجات في وجه السلطات، وظل هذا الخطاب الرسمي سائدا حتى الآن، ومن تونس ومصر وإلى ليبيا واليمن وسوريا. والواقع أن الحركات الدينية ما شاركت في الاحتجاجات والمظاهرات في تونس في الأسابيع الأولى، ولا في مصر في الأيام الأولى. وعندما شاركت بعد ذلك، تبنت الشعارات ذاتها التي حملها ويحملها الاحتجاجيون «المدنيون»، أي الحرية والكرامة والعدالة والدولة المدنية الديمقراطية! إنما بعد أربعة أشهر أو خمسة عادت بعض الأصوات لترتفع في الغرب وفي العالم العربي محذرة من إمكان سيطرة الإسلاميين (الإخوان والسلفيين والمتشددين الآخرين) على الانتخابات والأنظمة الجديدة في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا. وحجتهم في ذلك الاستفتاء على تعديل الدستور بمصر، وكيف انتصرت وجهة نظر المتدينين بفارق ضخم وهائل. وذلك لأن المزاج الشعبي محافظ، ولأن الإسلاميين على اختلاف فئاتهم وحركاتهم وأحزابهم الأفضل تنظيما وعلاقات بالجمهور العام من سائر البلدان. والمطالبون بالمدنية المبرأة في الدساتير الجديدة، ليسوا جميعا من الراديكاليين العلمانيين من أمثال الطالبي وأدونيس؛ بل هم يطالبون من أجل المساواة بين المواطنين أن لا ينص فيها على أن دين الدولة هو الإسلام، ولا على أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي أو المصدر الرئيسي في التشريع، كما كان عليه الحال في دساتير الأنظمة القائمة أو التي كانت قائمة! إن الواقع أن الغربيين والعلمانيين العرب، كانوا يعتبرون تلك الأنظمة علمانية ومستنيرة رغم وجود هذا النص أو ذاك في دساتيرها. وهم يذهبون إلى أن الأنظمة الدهرية تلك، إنما كانت تنافق الجمهور، في الوقت الذي تقمع فيه المتدينين سواء انتموا إلى حركات سياسية سرية أم لا. بل أكثر من ذلك؛ فإن الدعاية العلنية للأنظمة الجمهورية الخالدة مع الغرب أن على هذا الغرب أن يظل واقفا مع تلك الجمهوريات المؤبدة، لأن الأصوليات هي التي سوف تحل محلها إن سقطت. وقد قال ذلك القذافي وبن علي وإعلام النظام المصري، وإعلام النظام السوري، والرئيس اليمني علي عبد الله صالح! ويقول ذلك الآن إعلام النظامين الجزائري والموريتاني، واللذان يذهبان إلى أن «القاعدة» ذاتها هي التي سوف تسيطر إن سقطا!
ولنعد إلى أصل القضية أو القصة. فالذين يتحدثون الآن، كما من قبل، عن الخوف من الإسلام أو الإسلام المتشدد بالتحديد؛ إنما يتحدثون عن زمن انقضى وراح. فالجمهوريات الخالدة العلمانية والمستنيرة، كانت تواجهها حركات تمرد إسلامي أو باسم الإسلام، وسواء أكانت تلك الحركات عنيفة أو معارضة سلمية. والطرفان كانا راديكاليين: المسيطرون كانوا يعتبرون تلك الحركات ظلامية وإرهابية، والثائرون كانوا يعتبرون الجمهوريات الخالدة جاهلية أو متغربة ومعادية للدين. وقد تغيرت الأمور تغيرا جذريا بنزول الجمهور إلى الشارع. والجمهور في عمومه مسلم ومتدين وغير حزبي، وهو المؤتمن على الإسلام، لكن مطالبه ما عادت دينية، بل هو يريد الحرية والكرامة والعدالة والمشاركة في إدارة شأنه العام على أساس المواطنة. ولهذه المطالب طابع أخلاقي قوي ذو أصل ديني، لأن مجتمعاتنا مسلمة، ونظامها الأخلاقي إسلامي. إنما كما سبق القول؛ فإن الأمر ما عاد متعلقا بالخوف على الإسلام، بل باسترداد إدارة الشأن العام. ولأن الإشكاليات تغيرت؛ فقد كان على الجميع أن يتغيروا ويتلاءموا مع الأولويات الجديدة. ولذلك فإن المسألة الآن: كيف نقيم أنظمة للمشاركة تكون لجماعة المواطنين الكلمة الفصل فيها. وبالفعل فإن السلفيين والإخوان (والإخوان أكثر من السلفيين) يسعون بقوة للتلاؤم مع حركيات الجمهور العام، متقصدين تبني الأولويات الجديدة، دون أن يخلو الأمر من الضرب على الحس الإسلامي العام لاكتساب المزيد من الشعبية. ولأن الساحة مفتوحة بالفعل بعد طول انقفال؛ فإن من يسمون بالمدنيين أو بالعلمانيين يفعلون الشيء نفسه: التأكيد على اعتبارات المواطنة، والتأكيد في الوقت نفسه على أنهم ليسوا خصوما للإسلام؛ بل هم خصوم للإسلاميين الحزبيين الذين كانوا يستغلون الدين، وهم يريدون الاستمرار في ذلك. فالتنافس الآن وفي سائر مجتمعات الجمهوريات الخالدة السابقة، هو تنافس أو صراع سياسي، ولا تغلب فيه العقائديات؛ بل إقناع الجمهور المتحشد بأن مصالحه العامة تكون محفوظة أو مراعاة أكثر مع برنامج هذه الحركة أو تلك.
أين دور الدين أو الإسلام في ذلك كله؟ كانت مجتمعاتنا مسلمة وهي ما تزال كذلك. وستظل أخلاقيات الإسلام الخاصة والعامة بالغة التأثير؛ إنما ليس على أساس الهوية الموتورة والمتوترة والنافية للآخر كما كان عليه الأمر من قبل. ولدينا مئات النماذج على ما نقصده. فالنقاش المشتعل على الساحة المصرية حول أولوية الانتخابات أو أولوية الدستور هو نقاش سياسي وأخلاقي في الوقت فسه، وهو ليس ذا طباع عقائدي ديني أو مصلحي؛ بل يدخل فيه الأمران. وقد كانت مدينة حماه السورية بين عامي 1980و1982 (عندما ارتكب نظام الرئيس حافظ الأسد مذبحة فيها) ذات توجه إخواني غلاب. والذين لم يكونوا من الإخوان قاتلوا معهم بسبب شراسة قوات النظام البعثي السائد. وقد خرج سائر الحمويين بمئات الألوف قبل أيام يدعون لإسقاط النظام، وهؤلاء هم أبناء الذين تمردوا عام 1982 وأحفادهم. والبحث الآن ليس عن عقائدهم ولا عن ثاراتهم بل عن شعاراتهم ومقاصدهم وسلوكهم. هم يريدون الحرية والعدالة والمشاركة. وقد حمل آباؤهم السلاح في وجه النظام عام 1982، والنظام ذاته ما يزال قائما، وقد استقدم دباباته وطائراته ومدفعيته مهددا بتكرار ما ارتكبه من قبل. وسقط من المتظاهرين بحماه بالفعل بضع مئات. إنما الفرق أن النظام وحده هو الذي يمارس القمع الآن، والحمويون يمارسون التظاهر السلمي، وما حمل أحد منهم سكينا. فالنظام لم يتغير، وإنما تغير الحمويون.إنهم الجمهور كله، وهم ما يزالون مسلمين بالطبع؛ لكنهم ليسوا حزبا ولا جماعة عقائدية؛ بل مواطنون يريدون استعادة إدارة شأنهم العام. وهم واثقون أنهم يستطيعون ذلك بقوة الجمهور وكثرته وإجماعه وليس بحمل السلاح. لقد تغير الموضوع، وتغيرت الأهداف، وتغيرت المفاهيم، وتغير الجمهور، فانقضى النظام لأنه صار نظام الزمن المنقضي! ماذا يريد الطالبي، وماذا يريد أدونيس، وماذا يريد كل الذين يزعمون الآن أن الموضوع ما يزال صراعا بين الأصولية والتنوير؟! يريدون تجميد إنساننا ومجتمعاتنا عند النموذج الأوروبي للعلاقة بين الدين والمجتمع والدولة في القرن الثامن عشر الميلادي. وهو مثال ما عاد مقبولا ولا مطروحا في أوروبا ذاتها. ولذا فالواقع أن مثقفينا الكبار هم الجامدون وهم المتخلفون، وليس الجمهور العربي الذي خرج من الراديكاليات والاستقطابات والعنف المفروض والمفترض. فمجتمعاتنا مجتمعات تاريخية عريقة ومعاصرة في الوقت نفسه. وما عرفت صراعا بين الدين والدولة إلا في الجمهوريات الخالدة في العقود الخمسة الماضية. وهي الآن تتصالح مع نفسها ومع دولتها ومع العالم على طريقتها الخاصة، وهي الطريقة التي صارت خلال أشهر قليلة مثالا ونموذجا للعالم كله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.