30 سبتمبر 2011

عزاء الفلسفة... بوئثيوس

8
إذا كنا لا ننتظر الموت، فالموت هو الذي ينتظر، وإذا كان اكتشاف الموت دفع بالإنسان إلى البحث عن الخلود، فإن(بوئيس) أو (بوئيثوس) الذي كان على موعد مع موته، مع إعدامه، بحث عن العزاء فوجده في الفلسفة، ومات ولم يعلم أنه كتب كتاباً قدم فيه العزاء للعصر الوسيط الاوروبي برمته، إذ يذكر المؤرخون أن كتاب العزاء (عزاء الفلسفة) بقى وحتى عصر النهضة الاوروبي، أي ما يقرب من ألف عام بعد موت مؤلفه، بقي في المرتبة الثانية بعد (الكتاب المقدس). ولاعجب في ذلك، فالكتابان معاً، الكتاب المقدس، وعزاء الفلسفة يكملان بعضهما بعضاً، فإذا كان (الكتاب المقدس) قد أكد على الخلود، خلود البشر، عندما ألح على عقيدة (القيامة) قيامة المسيح من بين الاموات، فإن مؤلف (عزاء الفلسفة) اكتشف خلوده الشخصي في الفلسفة. ويكون (بوئيس) اللاهوتي رجل السياسة والذي أوصلته المصالح والدسائس إلى حبل المشنقة، أقول ربما يكون بوئيس قد قام من موته عندما حمل مأساته وآلامه وتأملاته وأودعها في كتاب فلسفي، عندما لجأ إلى الفلسفة يتلمس العزاء، وأي عزاء يضاهي ما قدمته وتقدمه الفلسفة.‏


وبوئيس الجالس في زنزانته أو على شرفة الموت، لافرق، عرف كيف مصيره، موته، وبدلاً من أن ينتظر بيأس، وقنوط، هجوم الموت، بادر هو إلى الهجوم، والغريب بالنسبة لكل النقاد، أن هذا اللاهوتي المسيحي، هاجم الموت بأسلحة وثنية، وإذا كان ما من شك في إيمانه الديني، فإن كتاب( العزاء) يكشف عن إيمانه بالفلسفة يضاهي أشكال الإيمان الاخرى، وإذا تخيلنا أنفسنا كسجناء نشارك بوئيس الزنزانة نفسها، ولدينا القليل من الوقت قبل أن نقف تحت أعواد المشانق، ربما تسنى لنا معرفة السبب الذي جعل بوئيس يحاور الفلسفة حول المسائل التي دارت بخلده، فأمام الموت ما معنى السعادة، وهل هناك سعادة، وأمام الموت ما معنى الخير والشر، وبقدوم الموت، هل ثمة ارادة حرة ؟‏
ها نحن نضع يدنا على السبب الذي دفع بوئيس باتجاه الفلسفة .‏
فالموت على ما يبدو يحولنا جميعاً إلى فلاسفة. فإذا كنا سنموت في نهاية المطاف، لماذا هذا السعي المحموم وراء اللذة والشهرة والثروة، وأهم من ذلك كله لماذا ارتكاب الشرور، وما الشر أصلاً ؟
وإذا كان الموت هو النهاية، فما الذي نملكه وما الذي نستطيع أن نقبض عليه ؟‏
تلك أسئلة لايجيب عليها سوى التأمل الفلسفي في الموت، أما الأجوبة نفسها فهي التي تدفع بنا إلى تقبل أمرين: إما تقبل الفلسفة او تقبل الموت. وإذا كان تقبل الفلسفة أشد صعوبة ومرارة من تقبل الموت، فإن الفلسفة ستكتفي عندها بكلمة امتنان واحدة، فيما نودعها بعد أن جعلت الموت ضيفاً جليلاً أكثر منه ضيفاً مخيفاً.‏
وهذا ما حدث مع (بوئيس) الذي كتب (عزاء الفلسفة) بين شدقي الموت كما قيل. فقد احتفى بالموت بادئاً بأغانيه القديمة وبأشعاره الحزينة، والتي غادرها بسرعة مقتحماً مقصورة الفلسفة مستدعياً أرسطو وأفلاطون والرواقية وكل الفلسفات الوثنية، حاملاً أسئلة لايحملها لاهوتي بقدر ما يحملها فيلسوف، وتحديدا فيلسوف سجين، أسئلة ليست بمقدور الشعر، إذ يعجز عن الإجابة عنها، حتى أن يقدم السلوى لسائلها، فالموت إذ يغدو حقيقة لا مفر منها، يجعل الشعر خدعة لا تنطلي على أحد. وأشعار (العزاء) هي مرثية للحياة أما الفلسفة المغروزة في أرجاء صفحاته فقد عنت لبوئيس ولكل من قرأ ويقرأ(العزاء) تجاوزاً للموت، ومعانقة له. فإذا بكتاب (عزاء الفلسفة) يتحول إلى تفلسف في الحياة لا في الموت، وإذا باللاهوتي  (بوئيس) يقوم بالفلسفة وحقاً قام، إذ ظل كتابه حتى مجيء فلاسفة الحداثة، كتاب الإلهام، وبه ومن خلاله عبرت أوروبا ألف عام حتى وصلت إلى برونو وديكارت وسبينوزا وكل فلاسفة الحداثة، أما (بوئيس) الشهيد، شهيد الفلسفة، فقد عرف كيف يتوسد ذراع الفلسفة وكيف يحتضر مبتهجاً على سريرها.‏


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.