17 سبتمبر 2011

الإمتاع والمؤانسة... أبو حيّان التوحيدي

أبو حيّان التوحيدي فيلسوف متصوّف، وأديب بارع، من أعلام القرن الرابع الهجري، عاش أكثر أيامه في بغداد وإليها ينسب. امتاز أبو حيّان بسعة الثقافة وحدة الذكاء وجمال الأسلوب، كما امتازت مؤلّفاته بتنوعّ المادّة، وغزارة المحتوى؛ فضلا عما تضمّنته من نوادر وإشارات تكشف بجلاء عن الأوضاع الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة للحقبة التي عاشها، وهي -بعد ذلك- مشحونة بآراء المؤلّف حول رجال عصره من سياسيّين ومفكرّين وكتّاب.
وجدير بالذكر أنّ ما وصلنا من معلومات عن حياة التوحيدي -بشقيّها الشخصي والعامّ- قليل ومضطرب، وأنّ الأمر لا يعدو أن يكون ظنّا وترجيحا؛ أمّا اليقين فلا يكاد يتجاوز ما ذكره أبو حيّان بنفسه عن نفسه في كتبه ورسائله. ولعلّ هذا راجع إلى تجاهل أدباء عصر التوحيدي ومؤرّخيه له؛ ذلك الموقف الذي تعّجب منه ياقوت الحموي في معجمه الشهير "معجم الأدباء"، ممّا حدا بالحموي إلى التقاط شذرات ممّا ورد في كتب التوحيدي عرضا عن نفسه وتضمينها في ترجمة شغلت عدّة صفحات من معجمه ذاك، كما لّقبه بشيخ الصوفيّة وفيلسوف الأدباء؛ كنوع من ردّ الاعتبار لهذا العالم الفذّ ولو بصورة غير مباشرة.

ترك أبو حيان التوحيدي خلفه إرثا نفيسا تزهو به المكتبة العربية في مجالات متعدّدة منها الأدب والأخبار والفلسفة والتصوّف واللغويّات إلخ...

ويعدّ كتاب "الإمتاع والمؤانسة" من الكتب القيّمة الجامعة وإن غلب عليه الطابع الأدبي. وهذا الكتاب هو ثمرة لمسامرات سبع وثلاثين ليلة نادم فيها الوزير أبا عبد الله العارض. وبالإضافة إلى قيمة الكتاب الأدبيّة، فهو يتفرّد بنوادر لم يوردها غيره كما يكشف -وعلى امتداد ثلاثة أجزاء ضخمة- عن بعض جوانب الحياة السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة لتلك الأيّام.
ولتأليف أبي حيّان لهذا الكتاب قصّة ممتعة، ذلك أنّ أبا الوفاء المهندس كان صديقاً لأبي حيّان وللوزير أبي عبد الله العارض، فقرّب أبو الوفاء أبا حيّان من الوزير، ووصله به، ومدحه عنده، حتى جعل الوزير أبا حيّان من سُمّاره، فسامره سبعاً وثلاثين ليلة، كان يحادثه فيها، ويطرح الوزير عليه أسئلة في مسائل مختلفة فيجيب عنها أبو حيّان.
ثمّ طلب أبو الوفا من أبي حيّان أن يقصّ عليه كلّ ما دار بينه وبين الوزير من حديث فأجاب أبو حيان طلب أبي الوفاء، ونزل على حكمه، وفضل أن يدوّن ذلك ليشتمل على كلّ ما دار بينه وبين الوزير من دقيق وجليل وحلو ومرّ، فكان من ذلك كتاب "الإمتاع والمؤانسة". والكتاب ممتع على الحقيقة لمن له مشاركة في فنون العلم، فإنّه خاض كلّ بحر، وغاص كل لجّة، وابتدأ أبو حيّان كتابه صوفيّاً وتوسّطه محدّثاً، وختمه سائلاً ملحفاً.
قسّم كتابه إلى ليالٍ، فكان يدوّن في كلّ ليلة ما دار فيها بينه وبين الوزير على طريقته (قال لي، وسألني، وقلت له، وأجبته). وكان الذي يقترح الموضوع دائماً هو الوزير، وأبو حيّان يجيب عمّا اقترح. لذا كانت موضوعات الكتاب متنوّعة تنوّعاً طريفاً لا تخضع لترتيب ولا تبويب، إنّما تخضع لخطوات العقل وطيران الخيال وشجون الحديث، حتّى لنجد في الكتاب مسائل من كلّ علم وفنّ، فأدب وفلسفة وحيوان ومجون وأخلاق وطبيعة، وبلاغة وتفسير وحديث وغناء ولغة وسياسة وتحليل شخصيّات لفلاسفة العصر وأدبائه وعلمائه وتصوير للعادات وأحاديث المجالس، وغير ذلك ممّا يطول شرحه.
وفي الكتاب النصّ الوحيد الذي كشف لنا عن مؤلّفي رسائل إخوان الصفا، وقد نقله القفطي منه، إذ كان الوزير قد سأل أبا حيّان عن هذه الرسائل ومن ألّفها. وأسلوب أبي حيّان في الكتاب أسلوب أدبي راقٍ كعهده في سائر كتاباته. ويمكن القول بأنّه وإن كان "ألف ليلة وليلة" تصوّر أبدع تصوير الحياة الشعبيّة في ملاهيها وفتنها وعشقها، فكتاب "الإمتاع والمؤانسة" يصوّر حياة الأرستقراطيّين أرستقراطيّة عقليّة، كيف يبحثون، وفيما يفكّرون، وكلاهما في شكل قصصي مقسّم إلى ليال، وإن كان حظّ الخيال في الإمتاع والمؤانسة أقلّ منه في "ألف ليلة وليلة".
رابط تحميل الكتاب: اضغط هنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.