30 سبتمبر 2011

كتاب المواقف (ويليه كتاب المخاطبات)... محمّد بن عبد الجبّار النفّري




أزمة النِّفَّري 
{{{ مقالة للباحث يوسف سامي اليوسف }}}


لعلَّها أن تكون حقيقة شديدة الصدق، تلك التي قال بها نفرٌ من علماء الاجتماع الثقافي، والتي تنصُّ على أن الظاهرة الصوفية لا تظهر إلا في مدن مكتهلة، أو جانحة إلى الشيخوخة، وأن المجتمعات البدائية والقروية تكاد أن تجهل هذه الظاهرة، أو هي لا تعرف منها إلا مستواها البسيط. فلا ريب في أن المدينة الشائخة، أو نصف الشائخة، هي أكثر المجتمعات قدرة على إنتاج الشعور بالاغتراب، ولا سيما في نفوس الأفراد الحسَّاسين الذين لا يقدرون على التكيف مع الاتِّضاع الذي يصيب الحياة في مجتمع؛ ذلك الاتِّضاع الذي من شأنه أن يدفع كل فرد نحو السعي اللاهث وراء المال، بحيث لا يبقى للإنسان من هدف في الحياة سوى النقود والنفوذ. وهذا يعني بالضرورة أن كل ما هو إنساني يكون قد تعرَّض للتهميش، وربما للتدمير أيضاً.
إذن، في الجو الخانق المأزوم وحده يتيسَّر للظاهرة الصوفية أن تنشأ وتشبَّ عن الطوق، وذلك لأن من طبع الشيء أن يحرِّض نقيضه على المجيء إلى الوجود.
فليس من قبيل الصدفة أن يبدأ التصوف الإسلامي في العراق خلال النصف الثاني من القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي)؛ إذ إن ذلك الإقليم الذي احتوى على عاصمة الممالك الإسلامية – أقصد بغداد – قد استحال إلى أكبر مستودع للمال في الدنيا بأسرها، وذلك ابتداء من عصر هارون الرشيد، أو قبل ذلك بقليل أو بكثير. 
ولقد كان المال يأتي إلى العراق من سبيلين اثنتين: أولاهما الخراج الذي كانت تدفعه أقاليم الدولة العباسية للخزينة المركزية في بغداد؛ وثانيتهما التجارة الدولية بين الشرق والغرب. ومما هو معلوم أن مدينة البصرة في جنوب العراق كانت واحدة من أكبر مراكز التجارة العالمية، وذلك بحكم كونها ميناء كبيراً على شطِّ العرب المفضي إلى الخليج، ثم إلى الهند والصين.
ولهذا السبب فإن ثقل العراق التاريخي في ذلك الطور من أطوار الزمان قد احتكره النصفُ الجنوبي من ذلك الإقليم واستأثر به دون النصف الشمالي الذي ظل مغموراً حتى الحروب الصليبية على وجه التقريب. 
ومما هو مؤكَّد تمام التأكيد أن الصوفية الإسلامية قد ابتدأت في مدينة البصرة حصراً، وأن من أبرز مؤسِّسيها امرأة اسمها رابعة العدوية، وهي من عاشت وماتت في تلك المدينة الجنوبية الشديدة الثراء يومذاك. ثم إن الصوفية قد اتخذت من بغداد في القرن الثالث الهجري مركزاً لها، وذلك يوم أصبحت بغداد، التي ولدت نصف شائخة، أعظم مستودع للذهب في غرب آسيا وشمال أفريقيا. 
ولا يخفى على من يتتبَّع بأناة سيرةَ الحلاج وأخبارَ محنته أن الصراع الذي أفضى إلى مقتله هو صراع من أجل السلطة. وكلُّ صراع من هذا القبيل إنما هو، في جوهره، صراع من أجل المال قبل كلِّ شيء. 
ولعل أهم ما في أمر المجتمع الذي بلغ إلى برهة توثين المال أو عبادته على نحو صريح أن تكون مؤسَّساتُه معطوبة من الداخل، بحيث لا يملك الفرد – ولا سيما الحسَّاس – أن يتكيف مع هذه المؤسَّسات التي يتحكم بها الرَّهل والخمج، من جهة، والاستبداد المتشنج، من جهة أخرى. وربما كان الإفراط في الأنانية أبرز صفة بين صفات الإنسان في مجتمعات المال والنفاق ومساوئ الأخلاق، التي رأى إميل دوركهايم، عالم الاجتماع الفرنسي، أن anomia، أو فساد المعايير الكلِّية، هي صفتها الشاملة. وفي مثل هذه المجتمعات لا ينضج شيء كما ينضج الشعور بالاغتراب وعدم الانتماء. وربما جاز القول بأن كلَّ تقدم في الوعي البشري لا يقل عن كونه تنمية لهذا الشعور المغترب نفسه، وكذلك للحساسية التي لا بدَّ من أن ترافقه على الدوام. ومما هو جدير بالتنويه أن الشعور بالاغتراب هو عنصر ملازم للروح الحسَّاس في جميع الشروط والظروف؛ ولكن من شأن الجشع واستفحال شراسة المال أن يؤجِّجا هذا الشعور حتى تخوم التفاقم المرير. 
إذن، هذه هي مدن الاغتراب التي تتلخص الحياة فيها بأنها لهاث محموم وراء النقود والنفوذ. وهذا كابوس غليظ لا يطيقه الحسَّاسون الذين لا بدَّ لهم من السعي بحثاً عن مخرج. ولماذا لا يكون النسك، أو الزهد، بل حتى التصوف، هو المخرج من هذه الأزمة الآزمة التي يتورط فيها الروح دون أن يكون قد اختار ذلك المأزق بتاتاً؟ وههنا يتدخل الفعل الحر، الذي هو اختيار حصراً، والذي هو ناتج هيفٍ في الروح، أو حساسية نفيسة، في الوقت إياه. وهذه سمة لا يؤتاها إلا الفرد الفريد، ذو القامة الباذخة والوجدان الحميم. 
وإذ يتدخل هذا الاختيار العالي فإن الداخل يثور على الخارج، فيفضِّل الإنسانُ الصوفَ على الحرير، ويطفر من ضيق العبودية إلى سعة الحرية. ولكن هذا العمل لا يقوى عليه إلا النخبة التي زوَّدها الخالقُ بأرواح مطهَّمة هيفاء، لا تملك إلا أن تُضمَر التقزُّز من كل ما هو فاسد وسقيم. 
*****************
وخلاصة الأمر أن الصوفية إنما تبدأ من الشعور بالاغتراب، الذي من شأن المدن المتورِّمة أن تفرزه على نحو تلقائي. والاغتراب شعورٌ يكابده – أو لا بدَّ من أن يكابده – أفراد حسَّاسون لا يملكون أن يتكيفوا مع مجتمع لا محلَّ فيه للعواطف الصادقة، أو للاتصال الإنساني بين الأفراد. فكلُّ اتصال في مدن الأورام تؤسِّسه المصلحة والملق والمداهنة، ولهذا فإنه يفتقر إلى الحرارة والصدق. وبفعل هذا الوضع التغريبي يشعر المرء – ولا سيما الحسَّاس – أنه مهجور، أو منفصل عن الآخرين، وأن هاوية لا تُعبَر تحجز بينه وبين الناس؛ إذ لا يرضى الحسَّاس إلا أن يكون الاتصال في العمق حصراً – وإن لم يكن كذلك فلا لزوم له بتاتاً! وعند ذاك فإنه يبحث عن الاتصال الأصلي في مكان آخر، فيجده في الفعل المجاني، أو اللانفعي، كالتصوف والفكر والفن والأدب. وبذلك يُقدِم المرء على توظيف غربته، فيُحيلها إلى علوٍّ، حين يعمد إلى مثل هذه الأفعال الحرة الكريمة التي لا هدف لها سوى الاتصال العميق. 
وإذ يحاول التصوف أن يحيل المرارةَ إلى حلاوة، والخواءَ إلى ملاء، فإنه يكون قد اتخذ لنفسه هدفاً واضحاً، وهو الدفاع الذاتي ضد الغثاثة والرثاثة والاتِّضاع؛ وهذه حالات لا يطيقها الحسَّاسون. وفي الحق أن الاغتراب لا يقتصر تأثيرُه على التصوف وحده، بل يتعدَّاه إلى الفنون والآداب في كثير من الأحيان. فهو صريح في شعر المعرِّي، وفي بعض كتابات التوحيدي، وكذلك في بعض قصائد المتنبي، الذي عاصر النِّفَّري وتوفي معه في سنة واحدة هي 354 هـ/965 م. 
ومع أن ابن عربي قد نفى أن تكون الغربة صفة من صفات أهل المعرفة والكمال – إذ هي منزلة أدنى ينزلها المتوسطون والمريدون، وذلك في الجزء الثاني من الفتوحات المكية (وهذا الجزء الثاني حصراً هو واحدٌ من أعظم الكتب التي كتبتْها البشرية!) – مع ذلك فإن تراثه كلَّه هو نتاج للشعور بالغربة قبل كل شيء – وإن كان يرى نفسه من أهل المعرفة والكمال الذين تجاوزوا برهة الاغتراب. وحبذا مثال واحد سريع: حين يقول الشيخ الأكبر، في الجزء الثاني من الفتوحات المكية، "ما ثَمَّ إلا جمال"، فإنه لا يفعل شيئاً سوى الدفاع عن نفسه ضد بؤس الحياة وابتذالها في عالم الاغتراب المرير. فهل يعقل أن يكون ابن عربي، الأندلسي الأصل، قد عاصر حروباً اجتثاثية شديدة الشراسة (معركة حطين في الشرق، ومعركة الأرك ومعركة العقاب في الأندلس)، كما عاصر سقوط معظم بلاده التي جاء منها وما تعرضت له من كوارث وويلات، وأن لا يكون هنالك في الوقت نفسه إلا الجمال وحده؟! 
ههنا، يتبدى الدفاع وكأنه قد تطرف كثيراً، حتى صار الفرد الحسَّاس يعيش في كون يخصُّه بمفرده ولا يخصُّ سواه من الناس.
*****************

وأياً ما كان الشأن، فإن الكتابين النفيسين اللذين تركهما محمد بن عبد الجبار النِّفَّري، القادم من مدينة نِفَّر، الواقعة في النصف الجنوبي من العراق – أعني المواقف والمخاطبات – إنما ينبثقان من شعور مرير بالغربة قد لا يخفى على الدارس المتأني والمتفطِّن لما يسكت عنه الكلام المنطوق أو المكتوب. فالكتابان اللذان هما محاولة جليلة لتنظيم ذاتٍ مبعثرة، إنما تنسجهما حزمةٌ من الأضداد أو المثنويات، أهمها: الله والسوى، والقرب والبعد، والفرق والجمع، والظاهر والباطن، والنطق والصمت، والليل والنهار، والحياة والموت، والمعرفة والجهل، والعبد والرب، والنور والظلام، والنار والماء، إلخ. وهذا يعني أن النِّفَّري شديد التأثر بالمانوية التي تهتم بالتضاد أيَّما اهتمام. فمما هو معلوم أن نِفَّر (أو نيبور السومرية)، التي هي مدينة النِّفَّري، شديدة القرب من بابل، مدينة ماني، بل عاصمة الديانة المانوية. 
وفي الحق أن أهم ما يرمي إليه النِّفَّري، بعد الدفاع ضد الاغتراب (الذي يتلخص في أن ترفض المحيط لأنه يرفضك)، هو تجاوز الأضداد والبلوغ إلى ماوراءها، حيث لا شرَّ ولا توتر ولا تغريب، بل حال رؤيوية تشبه الـنيرفانا. ولهذا أخذ الرجل يطوِّر مقولتي "الرؤيا" و"الموقف" اللذين يرى فيهما التجاوز الفعلي للوضع الدنيوي المأزوم. ففي قاع الخطاب النِّفَّريِّ يرخم اعتقادٌ جازم بأن الاغتراب، أو البؤس، أو الشر، هو حال ديمومي من أحوال المشروع البشري كلِّه، لا يفارقه بتاتاً، بل يتغلغل في جميع ثناياه وتفاصيله وأجزائه على نحو شامل وصريح. 
وقد لا يخفى على الذين درسوا النِّفَّري بأناة، ولم يكتفوا بالافتتان بجانب واحد من جوانبه الكثيرة، كالصورة الفنية أو الأسلوب الشعري، أن الرجل متأثر بالبوذية والمسيحية والمانوية بقدر ما هو متأثر بالإسلام. ومما هو جليٌّ تماماً أنه متأثر بالزرادشتية التي تقدِّس النار وتهتم كثيراً بمثنوية النور والظلام. ففي الحق أن كلمة "النار" شديدة التواتر في كتابات النِّفَّري.
ويبدو أنه صوفي تركيبي استطاع أن يوفِّق بين هذه الأديان كلِّها أيما توفيق (كانت المانوية في زمنه ديانة واسعة الانتشار).
ومهما يكُ جوهر الأمر، فإن النظر إلى العالم بوصفه وحدة أضداد هو بحد ذاته توتر ونتاج لتوتر أيضاً. وفي الحق أن النِّفَّري لن يُفهَم الفهمَ المناسب بمعزل عن هذه الصفة، أو الظاهرة، التي تتميز بها نصوصُه كلُّها. 
ثم إن مما هو في صلب الحق أن حياة الزهد والتجوال في الأرض التي عاشها النِّفَّري هي في حدِّ ذاتها مفتاح لاستيعاب تجربته الحية وسرِّ شخصيتهومنطويات كتاباته أو مضمراتها. فلعل مما هو مقبول تماماً أن هذا التجوال، الذي انتهى بموته في إحدى قرى مصر العليا، هو رفضٌ للتعايش مع مدن الاغتراب الخانقة التي من شأنها أن تضغط على روح الإنسان حتى تدفعه إلى التمرد والرفض والانسحاب، ولكن شريطة أن يكون ذا حساسية وإرهاف. 
فمع النِّفَّري – وربما مع كل صوفي كبير – تظهر الذات وكأنها الصخب الذي يحنُّ إلى السكون. ولعل هذا الحنين الدافئ الصادق أن يتضح جيداً بواسطة مقولة "الرؤيا"، وكذلك مصطلح "الوقفة" – وهما الفكرتان السيدتان في كتابات النِّفَّري كلِّها. فالوقفة والرؤيا لا هدف لهما إلا السكون بجوار الله، تخلُّصاً من عالم التوتر المرير. 
ومما هو شديد النصوع للمتأني أن المثنوية الكبرى بين جميع المثنويات التي تنسج الخطاب النِّفَّريَّ هي مثنوية الله والسوى، أو الروح والمادة. وهذه مثنوية شديدة الدلالة، بل هي المفتاح الذهبي الذي من دونه لن يتيسر لأحد أن يستوعب حقيقة الرجل. وحبذا بضعة مقبوسات، لعلها أن تشرح الأمر: 
  1. وقال لي: سدَّ باب قلبك الذي يدخل منه سواي، لأن قلبك بيتي (المخاطبة 13).
  2.  يا عبدُ، من صبر عن سواي أبصر نعمتي، وإلا فلا (المخاطبة 15).
  3. غششتُك إن دللتُك على سواي (الموقف السادس).
  4. وقال لي: آليتُ لا أقبلك وأنت ذو سبب أو نسب (الموقف التاسع).
  5. وقال لي: لا يجاورني وجدٌ بسواي (الموقف 17).

إن في الميسور أن يحشد المرء عشرات المقبوسات الدالة على أن النِّفَّري لا يرى في الكون أية مثنوية أكبر من مثنوية الله والسوى، أو الروح والمادة؛ إذ السوى هو كل ما عدا الله، بل لا يقل في نظر النِّفَّري عن أن يكون الشيطان بأمِّ عينه. ويتبدى الفرد، أو الإنسان، وكأنه برهة يتجاذبها هذان القطبان المتعارضان إلى الحد المطلق الذي يجهل كل صلح أو كل وساطة. ولأن النِّفَّري يؤسِّس هاوية لا تُعبَر البتة بين الله والمادة، فإن الآية القرآنية التي يكرِّرها عدة مرات هي هذه: "ليس كمثله شيء." (الشورى 11) وهذا يعني أن المادة لا تشبه الله بتاتاً. إن هذا ليس تنزيهاً وكفى، بل هو قبل كل شيء رفض للمادة ونبذ للحياة. 
ومما هو في حكم المؤكَّد تمام التأكيد أن هذا الموقف، الذي يتطرف إلى هذا الحدِّ في رفض المادة التي لم يرها إلا بوصفها قوة إبليسية أو جحيمية تجهل الخير جهلاً مطبقاً، ليس بموقف إسلامي بتاتاً. فالإسلام دين الوساطة؛ أو هو الدين الذي يقدِّس الروح من دون أن يرفض المادة رفضاً كلياً، كما يفعل النِّفَّري وأستاذُه البوذا. إن الإسلام يرفض الإفراط والإسراف وينادي بالاعتدال؛ إذ لقد جاء في القرآن الكريم: "ولا تنسَ نصيبك من الدنيا" (القصص 77)؛ كما جاء فيه كذلك: "قُلْ من حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده" (الأعراف، 32 ).
أما رفض الحياة، أو المادة، بهذا التطرف فهو البوذية حصراً وتحديداً. فالبوذية هي دعوة صريحة إلى استئصال الحياة والتخلُّص منها لأنها ألم، بل لأنها لا تملك أن تكون غير ألم، وفقاً لذلك المذهب الهندي. فلئن كنا لا نملك أن نبلغ إلى الله (الروح، الخير) إلا إذا هجرنا المادة هجراناً تاماً، كما يريد النِّفَّري، فهذا يعني أن علينا أن نهجر الحياة نفسها، أي أن نستأصل شأفتها حتى لا يبقى لها وجود بتاتاً. ولئن لم تبق هنالك حياة، فمن ذا الذي سوف يبلغ إلى الله؟! إن هذا تطرف في التصوف، لا أعرف من ذهب إليه في مجال اللغة العربية سوى صاحب المواقف والمخاطبات. ويبدو أن النِّفَّري الذي انبجس موقفُه من أن الحياة معضلة (كما هو شأن البوذا)، لم يفطن إلى الحقيقة الأهم من هذه الحقيقة، وهي أن الحياة سرٌّ بالدرجة الأولى. ولعل في الميسور أن يصاغ سؤالُ السرِّ على النحو التالي: لماذا يتشبث البشر بالحياة، مع أنها تنطوي على حزن كثير وفرح يسير؟ أو ربما على هذا النحو: كيف استطاع البشر أن يتحمَّلوا تاريخهم الذي يطحن عظامَهم كما تطحن الطاحونُ الحبوبَ؟ إن هذين السؤالين هما موضع تأمل فلسفي عميق في نظر الألباء. *****************
أما المفارقة الحادة في تجربة النِّفَّري فتتلخص في أن موقفه العدمي، أو الاستئصالي، قد تمكَّن من إنتاج هذه النصوص الحية، بل الخالدة والشديدة القدرة، لا على الاجتذاب وحده، بل على الإنعاش، أو تدعيم الحياة، بالدرجة الأولى. ويبدو أن ثمة مفارقات أخرى في تجربة الرجل، لعل أهمها تلك المفارقة التي يتبدَّى من خلالها وكأنه لا يرى في اللغة سوى عجز عن القول، مع أن اللغة قد نطقت بلسانه على نحو نادر في العالم بأسره. 
لقد أراد النِّفَّري أن يسفِّه المال وسلطته التغريبية وأن يرفض المجتمعات التي صار فيها المال وثناً معبوداً من دون الله. ولهذا حمل عصاه وساحَ في الأرض بعدما آثر القفار على مدن الاغتراب والعذاب. فما كان إلا أن اكتشف القدرة التعبيرية للُّغة، أو طاقتها الإنعاشية التي تصلح بديلاً عن حياة لا تستحق أن تُعاش. وهذا يعني أن الرجل قد اكتشف أعظم حقيقة تخص الحسَّاسين، وهي أنه ما من حرية، وما من حياة أصلية، إلا في الإبداع وحده، أو قبل سواه. 
ومن شأن هذه الحقيقة الخاصة بالحسَّاسين – الذين هم حتماً مغتربون – أن تحيل المرءَ على حقيقة أخرى خلاصتُها أن الأوضاع الاقتصادية، على الرغم من كونها شرطاً أولياً ضرورياً، لا تكفي لتفسِّر الظاهرة الصوفية؛ إذ لا بدَّ من أخذ الثورة الروحية في الحسبان لدى دراسة هذه الظاهرة الثقافية الشديدة التعقيد. فلا يجوز البتة اختزال الإنسان في نشاطه الاقتصادي؛ ولكن إغفال التأثير الذي يمارسه الاقتصادُ على روح الإنسان هو غلطة فاحشة لا تقل شناعة عن تلك الغلطة التي يرتكبها أولئك الذين لا يرون الإنسان إلا حصيلة شروطه الاقتصادية حصراً. يقيناً، إن الروح، أو الإنسان، أكبر من جميع الشروط بلا استثناء! 
ومما هو جدير بالتنويه في هذا الموضع أن تحليل الأسلوب النِّفَّريِّ تحليلاً دلالياً قد يكون أحسن منهج لدراسة ذلك الكاتب العميق. فربما كانت أعماق النص أو مضمراته أكبر من سطوحه وأغزر، وأكثر قدرة على احتقاب فحواه. وما من ريب في أن كل منطوق أدبي ينطوي على مغزى مسكوتٍ عنه. وليس في الميسور أن يتكشَّف هذا المضمر، أو المكتوم، إلا عبر تحليل الأسلوب، الذي يسعك أن تدعوه باسم "الاستبار". ولكن لا يتسع المجال لمثل هذا الفعل الشاسع المساحة في هذه العجالة الموجزة.
{{{ معابر }}} - يوسف سامي اليوسف
كتاب المواقف (ويليه كتاب المخاطبات)
تأليف: محمّد بن عبد الجبّار بن الحسن النفري
طبع بعناية وتصحيح وإهتمام: آرثر يوحنا أربري
مطبعة دار الكتب المصريّة بالقاهرة
الطبعة الأولى - 1934 م

للتحميل من مكتبة المصطفى : اضغط هنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.