01 سبتمبر 2011

مقاربة نقدية لحديث (خير القرون قرني)... عبد الحكيم الفيتوري

جاء عن عمران بن حصين عن رسول الله أنه قال:إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن. متفق عليه. وفي رواية مسلم:خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. قال الراوي لا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة (انظر الصحيحين).
قبل الدخول في تحليل هذا الحديث الذي يعد في الفكر الديني من الأحاديث الإستراتيجية التي تأسس عليها حزمة من المفاهيم كمفهوم عدالة الصحابة، ومفهوم الإجماع، ومفهوم سلطة السلف في الفهم والتنزيل. لا بد من التأكيد على أن هذه مقاربة ليست مقاربة تدنيسية ولا هي تقديسية، وإنما مقاربة موضوعية تسعى لتحليل النص من خلال تحكيم القرآن ، والعقل، والواقع، بغية تحرير قيم الوحي من أسار وقيود إكراهات التاريخ ليتمكن الفكر من الانطلاقة النهضوية والمشاركة الإيجابية في صناعة الحياة والحضارة والرقي القيمي والأخلاقي والمعرفي مع بني البشر كافة.
لذا فقد وزعت هذه المقاربة إلى أربعة نقاط أساسية، النقطة الأولى: المدرسة الكلاسيكية وفهم الحديث. النقطة الثانية: العقل يرفض منطوق الحديث. النقطة الثالثة: الوحي ينقض عصمة السلف. النقطة الرابعة: مقاربة تاريخية في الجانب الأخلاقي والسياسي للقرن الأول. ثم خلاصة المقاربة.
النقطة الأولى: المدرسة الكلاسيكية وفهم الحديث
تناول هذا الحديث المنهج الكلاسيكي بطريقته المعهودة، من الاهتمام بسلسلة الرجال وتمجيد المتن والوقوف على ما يطلق عليها في المدونات الكلاسيكية باللطائف الفقهية أو الحديثية، دون محاكمة متن الحديث عبر محاور النقد الثلاثة ، العقل والقرآن والتاريخ. فطفق المنهج الكلاسيكي في استخلاص اللطائف الأصولية والفقهية من ثنايا متن الحديث، فمنه من قال الأفضلية والخيرية حاصلة لأفراد القرن وليست لمجموعهم، ومنه من ذهب إلى أن الأفضلية والخيرية لمجموع القرن، كما ذكر القاضي عياض عند تناوله لهذا الحديث فقال: ذهب أبو عمرو بن عبد البر في هذا الحديث وغيره من الأحاديث في فضل من يأتي آخر الزمان إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من هو أفضل ممن كان من جملة الصحابة، وأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: خيركم قرني على الخصوص معناه: خير الناس قرني. أي السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ومن سلك مسلكهم، فهؤلاء أفضل الأمة، وهم المرادون بالحديث. وأما من خلط في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم وإن رآه وصحبه و لم يكن له سابقة ولا أثر في الدين فقد يكون في القرون التي تأتي بعد القرن الأول من يفضلهم على ما دلت عليه الآثار. (شرح صحيح مسلم للنووي).
ومنه من طفق يحصي بداية كل قرن ونهايته من الناحية الزمنية دون استنطاق للسياق التاريخي والمساق الثقافي والسياسي المنتج لهذا حديث، فقد ذهب ابن تيمية هذا المذهب العددي فقال: فإن الاعتبار في القرون الثلاثة بجمهور أهل القرن، وهم وسطه، وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة حتى إنه لم يكن بقي من أهل بدر إلا نفر قليل، وجمهور التابعين بإحسان انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك، وجمهور تابعي التابعين انقرضوا في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية...(انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية، المجلد العاشر).
ويبدو أن المنهج الكلاسيكي انتهى به المطاف إلى التسليم المطلق بمنطوق متن الحديث ومن ثم تأسيس سلطة استدلالية لأفعال وأقوال القرون الثلاثة بلغت مرتبة العصمة ومصاف النبوة كما صرح بها الألباني حين سأله سائل عن تعريف السلفية، فقال الألباني: الدعوة السلفية نسبة إلى ماذا ؟ السلفية نسبة إلى السلف، فيجب أن نعرف من هم السلف إذا أطلق عند علماء المسلمين (السلف)، وبالتالي تفهم هذه النسبة، وما وزنها في معناها وفي دلالتها، السلف هم أهل القرون الثلاثة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، في الحديث الصحيح المتواتر المخرّج في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. هؤلاء القرون الثلاثة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية. فالسلفية تنتمي إلى هذا السلف، والسلفيون ينتمون إلى هؤلاء السلف، إذا عرفنا معنى السلف والسلفية، حينئذٍ أقول أمرين اثنين : الأمر الأول: أن هذه النسبة ليست نسبة إلى شخص أو أشخاص كما هي نسب جماعات أخرى موجودة اليوم على الأرض الإسلامية، هذه ليست نسبة إلى شخص ولا إلى عشرات الأشخاص، بل هذه النسبة هي نسبة إلى العصمة، ذلك لأن السلف الصالح يستحيل أن يجمعوا على ضلالة، وبخلاف ذلك الخلف، الخلف لم يأت في الشرع ثناء عليهم، بل جاء الذم في جماهيرهم.
فإذن إذا عرفنا هذا المعنى للسلفية، وأنها تنتمي إلى جماعة السلف الصالح، وأنهم العصمة فيما إذا تمسك المسلم بما كان عليه هؤلاء السلف الصالح.ثم قال:...يستحيل عليه إلا أن يكون سلفيا، لأننا فهمنا أن الانتساب إلى السلفية يعني الانتساب إلى العصمة، من أين أخذنا هذه العصمة، نحن نأخذها من حديث يستدل به بعض الخلف على خلاف الحق، يستدلون به على الاحتجاج بالأخذ بالآخرية مما عليه جماهير الخلف، حينما يأتون بقوله عليه السلام : لا تجتمع أمتي على ضلالة. (انظر النص كاملا، موقع الألباني، ويمكنك مراجعة فتاوى اللجنة الدائمة المجلد الثاني في تعريف سلطة القرون الثلاثة) .
وهكذا أنتج العقل الكلاسيكي من هذا الحديث المنتج توظيفيا سلطة معصومة وهي سلطة السلف، فصار لا يستقيم فهم الكتاب إلا بفهم السلف، ولا يجوز أن يكن لك قولا ليس عندك فيه سلف، بل وصل الأمر إلى الإيمان بأنه: لا يصلح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها... وهلم جرا من مقولات مستفيضة ومشهورة عند الجميع، على الرغم من صحة وثبوت حزمة أسانيد وأحاديث في مدونات الحديث الكلاسيكية تنافي منطوق حديث( خير القرون قرني) وما ذهب إليه العقل الإحالي من عصمة القرون الثلاثة، ومن هذه الأحاديث حديث أنس عن النبي قال: ليردنّ عليَّ ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني فأقول: أصحاب، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك. وجاء في رواية أبي هريرة عند البخاري أنه قال صلى الله عليه وسلم: بينا أنا قائم إذا زمرة ، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم فقلت: أين قال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم ؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم. قلت: أين ؟ قال: إلى النار والله، قلت : ما شأنهم ؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم. (= وهمل النعم: إلا بل الضالة وهو كناية عن نجاة القلة منهم) . وفي رواية ابن عباس قال: قال رسول الله: تحشرون حفاة عراة غرلاً ثم قرأ ( كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين )، فأول من يكسى إبراهيم ، ثم يؤخذ برجال من أصحابي ذات اليمين وذات الشمال، فأقول أصحابي: فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح: عيسى ابن مريم ، وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد، إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم .
وفي رواية سهل بن سعد يقول صلى الله عليه وسلم: إني فرطكم على الحوض، من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثم يحال بيني وبينهم .زاد أبو سعيد فأقول : إنهم مني ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي. ) انظر مسند أحمد، المستدرك للحاكم، ومسند أبي يعلى) وجاء عن العلاء بن المسيب عن أبيه، قال: لقيت البراء بن عازب فقلت: طوبى لك صحبت النبي صلى الله عليه وسلم وبايعته تحت الشجرة. فقال: يا بن أخ، إنك لا تدري ما أحدثنا بعده. (صحيح البخاري).
ولكن أبى المنهج التمجيدي إلا مزاحمة سلطة الوحي بسلطة بشرية، وسلطة العقل بعصمة تاريخية، لدرجة أعفى العقل وهو مناط التكليف ومنحه إجازة مفتوحة حتى لا يتفكر ويتدبر فيما يلقى إليه من نصوص دينية ملتبسة بنفوس بشرية، فاختلطت عليه القيمة بالذات والنص وحامله، والفهم وتطبيقه. وهذا يستوي فيه اتباع المذهب السني والمذهب الشيعي على حد سوى حيث أنهما يتقاطعان في ذات السمات من الإيمان بالإسلام المؤول، وخضوع لسلطة التاريخ. والغريب أن تلك السمات تشكل جزءا لا يتجزأ من ذاكرة وضمير المجتمع المتخلف الذي لا يهون عليه نقدها وتجديدها ناهيك عن هدمها والتمرد عليها، وكأن لسان حاله يرد (...إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على أثارهم مهتدون...ومقتدون...) ولو كانت مقولات الآباء والأسلاف خارج نطاق اهتمامات وقضايا مجتمعه، وتزيد من معاناته وتخلفه وقد يكون فيها حتفه... أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون !!

النقطة الثانية: العقل يرفض منطوق الحديث

تدور محاور المقاربة النقدية لنصوص الروايات والاتفاقات والإجماعات على عدة مرتكزات ومسارات منها، أن السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة هو البحث العلمي الحر بمناهجه ومكوناته المتعددة والمتنوعة، في إطار التحرر من الانطواء على الذات والتمرد على المنهج الكهنوتي التسليمي، والانفتاح على الغير بحوار عقلاني منفتح، لآن الحقيقة لا يملكها الفرد المنعزل ولا الحضارة المنطوية على ذاتها. 
أيضا لن يستقيم انفتاح وحوار واستفادة دون تمييز لما هو خاضع للبحث العلمي من غيره، ودون تحديد للمفاهيم الأساسية التي يقوم عليها الفكر الديني ومصادر تكوينها؛ من إلهي وبشري، وقطعي الدلالة وظني الدلالة وذلك في إطار تحليلي لا تلقيني حشوي، لأن المنهج الإسلامي الكلاسيكي الحشوي يعاني من فقر معرفي في أساليب وأدوات البحث العلمي الحر. علما بأن تحديد ماهية المفاهيم الفكرية بصورة علمية تساعد على الاستفادة من المناهج العلمية وأدواتها للوصول إلى حقيقة الأشياء وتحرير معانيها. وبدون ذلك يصبح التعاطي مع البحث العلمي والحوار العقلاني مع منتجات الغير بالمنهج الكلاسيكي مضيعة للوقت والجهد وضياع في غير سبيل الحقيقة. 
ولا نذهب بعيدا فإن الفكر الإسلامي اليوم بألوانه المتعددة يعيش الماضي بمشاكله ويفتح جبهات في أرض الحاضر بقضايا الماضي والأسلاف ومرد ذلك إلى عدم تحرير المفاهيم والضبابية القاتمة في سماء تكوينها في إطار (التدافعية = الفرق، والمذاهب)، و(التحالفية = السيف، والقلم)، كمفهوم النصوص المؤسسة؛ النص الناجز والنص المنفتح، وكمفهوم عدالة الصحابي، وأئمة آل البيت، ودقة مدونات الرواية، وحجية الإجماع، وسلطة السلف، بل وسلطة النص ذاته. كل ذلك يتطلب تطبيق المنهج العلمي بصرامة تكشف عن كيفية انبثاق هذه المفاهيم من السياقات اللغوية والتاريخية المرافقة وربطها بظروف الزمان والمكان واستنطاقها وفهمها في سياقها ومساقها لتكون معاصرة لزمانها ومن ثمة قراءتها وإعادة تركيبها كنص تاريخي يخضع لتأثيرات عوامل شتى، ومراعاة حجم تلك التأثيرات في الدال والمدلول من مفردات تلك المفاهيم.
ويبدو أن خطورة عدم الاهتمام بدقة وتحرير ونقد المفاهيم المؤسسة للفكر الديني بالمنهج العلمي الحر، لا تنعكس على خطأ في الفهم والإدراك فحسب، ولا ينعكس على صعوبة التجاوب بين الحاضر والماضي فحسب، ولكن خطورتها تمتد أيضا إلى السلوك، وإلى التصرف الذي يتبعه كل حسب المفهوم الذي ينتهي إليه. ومن ثمة استحالة ممارسة التجديد، والحوار العلمي، والاستفادة مما عند الغير، ولذا فقد تاه الفكر الديني في متاهات خطيرة انعكست على حياة أتباعه الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. وخطر هذا الاضطراب وعدم نقد المفاهيم يتعدى ذلك إلى العلاقات البينية والعلاقات الكونية مما يعني عدم تحقيق الاستخلاف واستعمار الأرض والمشاركة في الحضارة، بل يعني إعاقة عجلة الحضارة القائمة والمتحركة.
أننا أمام حزمة من المفاهيم قدمت في غلاف مقدس في إطار المثالية والنموذجية التاريخية بحاجة إلى فك وتركيب، وفرز وتمييز، وتهذيب وحذف، بأدوات ومناهج البحث العلمي الحر. وهذا ما لا يمكن القيام به من خلال أدوات ومنهج البحث الكلاسيكي الكهنوتي، لأنه مطالب إيمانيا بالتقيد الصارم بتلك المفاهيم الإستراتيجية وعدم الخروج عن تأويلية الأسلاف، إذ يظن أن تأويليتهم وتقعيدهم وتفسيراتهم لتلك المفاهيم تتمتع باستمرارية تواصلية عبر الجغرافية والتاريخ والأجيال وبالتالي فلها سطوتها عند محاولة إعادة قراءتها بمنهج البحث العلمي الحر في سياقها ومساقها. وهكذا يتم خلع القدسية على تلك المفاهيم والتأويلات البشرية والظرفية، وتوظيفها في تأبيد وهم التواصلية على الرغم من تباينها مع الحاضر والمستقبل باعتبار اختلاف ظرفية السياق والمساق والأجيال. وهنا تكمن أزمة البحث العلمي في الفكر الديني التقليدي الذي ظل مضطربا في مراحل تشكله ومتشبعا بالعمق العقائدي والتدافعي بين المذاهب والفرق.
قد يكون هذا التخلف في التفكير والبحث العلمي راسبة من رواسب التخلف الفكري، أو نتيجة لغياب الفكر العلمي مدة طويلة من الزمان لحساب الفكر الديني الكلاسيكي. وقد يكون ناتجا من عدم خلع ثوب القداسة عن تلك المفاهيم، أو عدم إيمان الفكر الديني بمبدأ النقد والحوار لخضوعه لسلطة الأسلاف التواصلية، وبالتالي يمتنع ويتمنع من إعادة النظر في تلك المفاهيم بالفك والتركيب والحذف، وتنقيتها مما ألصق بها في عهود الركود الفقهي، وتخلف الاجتماع السياسي. وبعبارة موجزة أن الفكر الإسلامي لم ينجح إلى اليوم في تحقيق القطيعة المعرفية ولذا فهو يعاني من تداخل الأزمنة المعرفية. 
وهذا يطرح سؤال عميق معقد بقدر ما هو بسيط بدائي، وهو كيف نفكر في القضايا الأساسية التي يطرحها الحاضر ويرهن بها المستقبل؛ وذلك على مستوى المفاهيم، والفهم، والسلوك، والمشاركة في الحضارة الإنسانية ؟!! 
بعبارة أخرى كيف نؤسس لمصالحة جادة مع الإسلام نفسه، وبالتالي مع خصومه، ومع منتجات الحداثة المعرفية والعلمية، لإعلان إنهاء حالة الاغتراب المعرفي والنفسي التي تعانيها المفاهيم الإسلامية مع حالات الحاضر الذي لا يقر له قرار ولا يستقر له حال ولا يقنع بالجاهز من المقولات والمفاهيم ؟!
هذه أبرز محاور المقاربة والتي نسعى من خلالها قراءة تاريخ القرن الأول لكنها تعيش حاضرها بكل حيثياته،وتحترم صانعي التاريخ ورموزه بلا تقديس ولا تدنس ،وتقدر التراث كجهد اجتهادي تفاعل مع زمانه لكنها لا تصنمه، وتجعل من التاريخ والتراث مادة للدراسة له وعليه ولكنها لا تضمه إلى مصاف النص المقدس وترفعه إلى رتبة العصمة. وبالتالي يمكن لنا بهذه المقاربة أن نتجاوز القراءة التمجيدية؛ التي قرأت التاريخ وتراثه في زمانه وعاشت معه وخرجت من حاضرها، كذلك نتجاوز القراءة العدائية؛ التي تسعى لقطع الأمة عن تراثها وتاريخها وربطها واستلحاقها بتراث ومفاهيم غيرها. وأحسب أننا باستيعاب هذه المحاور نتمكن من مفارقة العقلية المتحفية، والقراءة التمجيدية، وأساليب الترديد والاستذكار، وصولا إلى الالتزام بأدوات الاستفهام، وطرائق الاستكشاف، لتخفف من حمل التابوت التاريخي المملوء بتقديس وتصنيم الذوات والأقوال والأفعال التي تتحكم في مجريات حاضرنا وجزئيات حياتنا ومستقبلنا، كحديث خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم المحمل بعقيدة حتمية التدهور التاريخي.

النقطة الثالثة: الوحي ينقض عصمة السلف

جاء في القرآن الكريم نصوص عدة تضع مواصفات محددة للخيرية والأفضلية أغلبها تدور في فلك القيم الأخلاقية كالتقوى والإتباع بالإحسان بمعزل عن الإطار الزمني والمكاني، فقد جاء في قوله تعالى: إن أكرمكم عند الله اتقاكم. وقوله: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه. وجاءت آيات متضافرة في ذم اتباع سيرة الإباء والأسلاف والأولين المخالفة لمنطق العقل،كقوله تعالى: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون... ومقتدون. كذلك جاءت نصوص عدة تنتقد أخلاقيات بعض أهل القرن الأول زمن التنزيل كقوله: ومن الناس من يقولوا آمنا بالله وما هم بمؤمنين. ويقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فررا. وإذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا . أيضا جاءت نصوص الوحي بأحكام وعقوبات تنزلت وتم تطبيق أحكامه على الصحابة من التنزيل، كآيات الملاعنة، وآيات الحدود، بل من الجيل الأول من كان ينوي الزواج بعائشة بعد موت النبي أذية له يقال أنه طلحة، حيث نزلت الآية تندد بهذا التصرف غير اللائق، فقال تعالى: ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا نساءه من بعده. قال ابن حجر في ترجمة: طلحة بن عبيد الله بن مسافع ...يقال هو الذي نزل فيه قوله تعالى: وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله...الآية (الاصابة في معرفة الصحابة).
ويبدو واضحا أن النص المؤسس لم يعر أي اهتمام لأفضلية التحقيب الزماني، والتعاقب الإنساني، وإنما كان جل اهتمامه منصب على الجوانب الأخلاقية والقيم الإنسانية المتجاوزة لحدود الجغرافية والتاريخ؛ كالأمانة والعفة والعدل واحترام الإنسان وإكرامه،( ولقد كرمنا بني آدم ).
النقطة الرابعة: مقاربة تاريخية في الجانب الأخلاقي والسياسي للقرن الأول

نقصد بالمقاربة التاريخية القرب والدنو من الوقائع والأحداث المفصلية التي وقعت في تاريخ الإسلام الأول بعد وفاة النبي مباشرة صلى الله عليه وسلم، بغية استنطاق تلك الأحداث والوقائع عبر سياقاتها التاريخية ومساقاتها التدافعية القبلية والجهوية والفكرية، وبالتالي فإن منطق هذه المقاربة يجافي أساليب السحب من المخزن التراثي بتأويلات رجال المخزن التقديسي والتمجيدي، بيد أنه يتناغم مع منطق الوحي في سرده القصصي من حيث محاولة فهم حركة الإنسان في إطاره الزمكاني للاعتبار وليس للاعتباط ( إن في قصصهم لعبرة ) العبور من الماضي إلى الحاضر، ومن الخطأ إلى الصواب، ومن الأسطورة إلى الحقيقة، وليس العكس كما يفعل رجال المخزن التراثي الذين ذهبوا إلى الماضي ولم يرجعوا، وحاكموا الحاضر بالماضي، فصار الماضي هو الحاضر، وأضحى الأموات يحكمون في الأحياء ، فتلاشي الحاضر بل والمستقبل من حس رجال المخزن وأتباعهم، والويل والثبور للأحياء من التمرد على سلطة الأموات حتى لو أثبتت الدراسات التاريخية النقدية محدودية تجربتهم وبساطة فكرهم ، وتأثير تجربتهم ومنتجاتهم الفكرية السلبي على حركة الإنسان في الحاضر ورؤيته للمستقبل!!
ولعل من المناسب أخذ عينة من القرن الأول لإجراء عملية الفحص والتحليل، ولتكن هذه العينة في الجانب الأخلاقي والجانب السياسي، ونحن في هذه المقاربة أو التنقيب في المساحة الأخلاقية أو المساحة السياسية نريد النفاذ إلى عمق حركة الإنسان في القرن الأول من حيث أن وجوده في زمن التنزيل بمحض الصدفة أو المثاقفة لم ينقله من الإنسانية ودوافعها ونزعاتها وشهواتها وتأثره بظروفه المحيطة به إلى مصاف العصمة والقدسية والملائكية بحيث تصبح أقواله وأفعاله واتفاقه وإجماعه سلطة تشريعية تحكم عبر الزمان والمكان والإنسان ككلام الواحد الديان. ولكن يبدو أن الآفة الكبرى التي عادة ما تصيب المقتل من الأمم التي تخلفت عن ركب الحضارة والتقدم، هي آفة تصنيم التاريخ وقياداته ورموزه ومنتجاته حيث أنها تمنع المصاب بها من التفاعل الايجابي مع حاضره واستشراف مستقبله.
·       أولا: مقاربة في الجانب الأخلاقي
ثمة حقيقة لابد من تقريرها وهي أن مجتمع الصحابة وما تلاه لم يخرج يوما ما من كونه مجتمعا إنسانيا يتنازعه ما يتنازع أي مجتمع إنساني من دوافع الخير والشر، الصدق والكذب، والأمانة والخيانة، العدل والجور، العفة والفاحشة. بعبارة أخرى أن هذه المجتمعات لم ولن تنتقل من كرسي المجتمع البشري إلى الكرسي الملائكي، ولعل القرآن بمواعظه ووصاياه وتشريعاته وحدوده يؤكد هذه الحقيقة، حيث أن القرآن تنزل على بشر ليهذب سلوكه وطبائعه وأخلاقه ويرتقي به نحو السمو الإنساني، لكن حجم الاستجابة لهذه القيم القرآنية ودرجة تحول هذه المجتمعات وفق قيم الوحي تخضع لعملية النسبة والتناسب ولا يوجد تقيم ولا تقويم دقيق لتلك الاستجابة ودرجة التحول، وحتى ما دون في كتب التاريخ السني والشيعي لا يعطي نسبة دقيقة لنسبية التحول كما وكيفا، لآن أغلب المؤرخين لا ينتمون للقرون الثلاثة، كذلك ينتمي أغلبهم إلى طبقة الفقهاء والمحدثين الذين يفضلون إبراز جوانب التعبد والتحنث وحفظ الروايات( =الوجه الملائكي) دون ذكر للجوانب الأخرى (=الوجه الإنساني). 
1-             انفلات المنظومة الأخلاقية على المستوي الجمعي
فلو أخذنا عينة أخلاقية من مجتمع القرن الأول على المستوى الفردي والجمعي فأننا نجد مؤشرات حقيقية تشير على بشرية ذلك المجتمع بكل ما تحمله كلمة المجتمع الإنساني من دوافع وشهوات ورغبات، فمثلا القرآن الكريم يذكر مجموعة من الذين طعنوا في بيت النبوة وذلك من خلال حادثة الإفك المشهورة، فقال القرآن:( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم)، وضمير (منكم) في الآية عائد على جملة مكونات المجتمع المسلم الأول، ومن بين هؤلاء عبد الله ابن أبي الخزرجي، وحسان ابن ثابت شاعر رسول الله ، وحمنة بنت جحش؛ وحمنة أخت زينب زوجة رسول الله، و مسِطح ابن أثاثة ابن خالة أبي بكر وهو بدري، ويقال أن علي ابن أبي طالب قد أشار على رسول الله بكلمة يا رسول الله: النساء غيرها كثير. أما قصة المعركة الكلامية داخل المسجد النبوي بين أسيد بن حضير وسعد بن عبادة بخصوص حادثة الإفك معروفة مشهورة وذلك لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب في الناس، ثم قال: أيها الناس ما بال رجال(= صيغة جمع) يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت عليهم إلا خيرا ويقولون ذلك لرجل؛ والله ما علمت منه إلا خيرا، ولا يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي. قال أسيد بن حضير: يا رسول الله، إن يكونوا من الأوس نكفكهم، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج، فمرنا أمرك، فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم.
قالت: فقام سعد بن عبادة وكان قبل ذلك يرى رجلا صالحا، فقال: كذبت، لعمر الله، لا تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا. فقال أسيد بن حضير: كذبت لعمر الله، ولكنك منافق تجادل عن المنافقين، قالت: وتساور الناس، حتى كاد يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليّ. 
ويبدو من صيغ الجمع في سياق حادثة الإفك أن الذي كان وراءها جماعة من أفراد المجتمع الإسلامي الأول وهي ذات مستويات اجتماعية مختلفة. واللافت للنظر أن اتهام زوج رسول الله مارية القبطية بالفاحشة أيضا كان خلفه جماعة من المجتمع الإسلامي الأول، كما جاء في صحيح مسلم في كتاب التوبة ‏عن ‏ ‏أنس ‏ ‏أن رجلا كان يتهم بأم ولد رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم. ومن بين هؤلاء الذين كانوا يتهمون ذلك الرجل بمارية السيدة عائشة وحفصة وعمر وغيرهم كما أشارت إلى ذلك رواية الحاكم والطبراني. (انظر: مقالي روايات تثير شبهات حول عرض رسول الله).
والغريب أن ثمة جماعة من القرن الأول وقت التنزيل كانت تمارس أساليب التحرش الجنسي وتقوم بأفعال قبيحة عرفا وشرعا بنساء مدينة رسول الله( = صحابيات)، وهذه الجماعة توصف في كتب التفسير بـ(جماعة فساق أهل المدينة)، ولا يخفى أن أفراد هذه الجماعة داخلون في مسمى الصحابة وبالتالي يشملهم مصطلح (رضي الله عنهم) وفق التعريف الكلاسيكي للصحابي، فقد جاء في أغلب كتب التفسير عند قوله تعالى: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين...أن جماعة من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة يتعرضون للنساء. وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن، فإذا رأوا المرأة عليها جلباب قالوا هذه حرّة فكفّوا عنها، وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا هذه أمة فوثبوا عليها. (تفسير ابن كثير)، وقال الضحاك والكلبي نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن فيغمزون المرأة فان سكتت اتبعوها وان زجرتهم انتهوا عنها.(تفسير البغوي) وعن الحسن قال كن إماء بالمدينة يقال لهن كذا وكذا كن يخرجن فيتعرض لهن السفهاء فيؤذوهن فكانت المرأة الحرة تخرج فيحسبون أنها أمة فيتعرضون لها ويؤذونها فأمر النبي المؤمنات أن يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن من الإماء أنهن حرائر فلا يؤذين ( تفسير الصنعاني ).
2-             الانفلات الأخلاقي على المستوي الفردي
هذا على مستوى الجماعة، أما على مستوى الفرد فالقصص والحوادث كثيرة جدا في كتب التاريخ والتراجم والطبقات حيث تجد الفرد يجمع بين ارتكاب الفاحشة أو مقدماتها مع إمامة الناس في الصلاة كما حدث ذلك مع المغيرة ابن شعبة أمير الكوفة في عهد عمر وهو من كبار الصحابة ومن الذين شهد بيعة الرضوان، فقد قال ابن خلكان بعد أن سرد قصة المغيرة مع أم جميل بتفاصيل المشاهد الجنسية للمواقعة، وبعد قضاء المغيرة وطره من أم جميل وكان وقت صلاة الظهر قد حان؛ فذهب ليصلي بالناس إماما في المسجد(... وذهب المغيرة ليصلي بالناس الظهر. فقال له: لا والله لا تصلّ بنا وقد فعلت ما فعلت بأم جميل !! . ومعلوم أن الرافض لإمامة المغيرة كان أبو بكرة الثقفي وهو أحد شهود هذه المواقعة. ( انظر:وفيات الأعيان، ابن خلكان، وتاريخ الطبري).
كذلك فعل صحابي أخر جمع بين فعل مقدمات الزنا ومع إقامة الصلاة، قال ابن مسعود أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها، ولم أفعل غير ذلك فافعل بي ما شئت. فلم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا فذهب الرجل. فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه. فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره، ثم قال: ردوه علي . فردوه عليه فقرأ عليه: وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين.فقال معاذ: وفي رواية عمر يا رسول الله أله وحده، أم للناس كافة؟ فقال: بل للناس كافة. (رواه مسلم).
وثمة حوادث متفرقة لصحابة وصحابيات تشبه قصة صاحب البستان السابق من حيث الشكل والمضمون، من ذلك قصة الصحابي الذي خرج يصلى صلاة الصبح خلف النبي وهو في طريقه إلى المسجد في ظلمة الليل إذ بصحابية عابدة محجبة أمامه متوجهة لأداء صلاة الفجر خلف رسول الله، فلم يتمالك الصحابي نفسه من الانقضاض عليها وممارسة مقدمات الجماع معها، ثم لاذ بسواد الليل مختفيا وفارا من المساءلة الشرعية والعرفية.
كذلك قصة الصحابي أو الصحابة الذين كانوا يتأخرون في الالتحاق بصفوف الصلاة الأمامية خلف رسول الله من أجل الصلاة في الصفوف الخلفية لمعاكسة صحابية جميلة كانت تصلى في الصفوف الأمامية للنساء، كما ذكر أبو الجوزاء عن ابن عباس، قال: كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة، قال ابن عباس: لا والله ما رأيت مثلها قط! فكان بعض المسلمين إذا صلوا استقدموا وبعض يستأخرون، فإذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم ، فأنزل الله: ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين. وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا نوح بن قيس؛ وحدثنا أبو كريب، قال: ثنا مالك بن إسماعيل، قال: ثنا نوح بن قيس، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال: كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة حسناء من أحسن الناس، فكان بعض الناس يستقدم في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه في الصف، فأنزل الله في شأنها: ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين.(انظر ابن جرير الطبري في تفسيره، وقد ذكر تفسيرات عدة ، ولكن هذه الرواية ذكرها ابن ماجة، والنسائي، وأحمد، وصححها الألباني في السلسلة الصحيحة).
3-             وللخمر نصيب وحضور:
يبدو أن تعاطي الخمر ومقدماته من أنبذة ومشروبات تؤول للسكر كانت منتشرة بمستويات مختلفة في الجيل الذي عايش عهد التنزيل، فمن هؤلاء على سبيل المثال الصحابي النعمان بن عمر ممن شهد بدرا وأحدا وكان يشرب الخمر على عهد رسول الله (انظر البخاري باب الضرب بالجريد والنعال) كذلك عبدالله بن حمار، وأبو جندل، وقدامة بن مظعون، وعلقمة بن علاثة، والوليد ابن عقبة، وربيعة ابن أمية، وضرار بن الازور، وعقبة بن الحارث بن عامر، وضرار بن الخطاب.(انظر مصنف عبدا لرزاق،وأسد الغابة لابن الأثير، والإصابة لابن حجر)، أيضا معاوية ابن أبي سفيان كما ذكر أحمد ابن حنبل في مسنده،عن عبد الله بن بريدة قال: دخلت أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفرش، ثم أُتينا بالطعام فأكلنا، ثم أُتينا بالشراب فشرب معاوية، ثم ناول أبي ثم قال: ما شربته منذ حرّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، وأبو سروعة عقبة بن الحارث، فقد ذكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني في مصنفه من طريق معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: شرب أخي-عبد الرحمن بن عمر- وشرب أبو سروعة عقبة بن الحارث، وهما بمصر في خلافة عمر فسكرا فلمَّا أصبحا انطلقا إلى عمرو بن العاص وهو أمير مصر، فقالا: طهرنا فإنَّا سكرنا من شراب شربناه فقال عبد الله فذكر لي أخي أنَّه سكر، فقلت له ادخل الدار أطهرك ، ولم أشعر أنَّهما أتيا عمروا، فأخبرني أنَّه أخبر الأمير بذلك فدخل الدار، فقال عبد الله: لا يحلق القوم على رؤوس عامة النّاس، ادخل الدار أحلقك -وكانوا إذ ذاك يحلقون مع الحدود- فدخل الدار، فقال عبد الله: فحلقت أخي بيدي ثم جلدهم عمرو ، فسمع بذلك عمر ، فكتب إلى عمرو أن أبعث إليَّ بعبد الرحمن على قتب، ففعل ذلك فلمَّا قدم على عمر جلده وعاقبه لمكانه منه ثم أرسله، فلبث شهرا صحيحا ثمَّ أصابه قدره فمات، فيحسب عامة النَّاس إنما مات من جلد عمر، ولم يمت من جلد عمرو. وذكر ابن عبد ربه في عقده الفريد أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب شرب بمصر فحده هناك عمرو بن العاص سراً‏.‏ فلما قدم إلى عمر جلده حداً آخر علانية‏.‏ ومنهم العباس بن عبد الله بن عباس كان ممن شهر بالشراب ومنادمة الأخطل الشاعر‏ . (العقد الفريد لابن عبد ربه).
4-             ظاهرة الافتتان بالغلمان:
الكبت الجنسي في أي مجتمع إنساني يولد بالضرورة ظواهر سلبية تسبب في عدم استقرار المجتمع حيث تسهم بصورة ما في اهتزاز البنى الأخلاقية لذلك المجتمع ، ومن تلك الظواهر ظاهرة المثلية الجنسية بين الذكور وبين الإناث، و تسمى بالشذوذ الجنسي؛ أي ميل الذكر إلى جنسه والأنثى إلى جنسها، ويكمن وراء هذه الظاهرة عدة عوامل منها الجانب الوراثي، ومنها خلل اجتماعي في البني الثقافية والسلوكية للمجتمع. ويبدو أن ظاهرة المثلية كانت منتشرة في مجتمع القرون الثلاثة الموسومة في الرواية بـ( الخيرية) وعند الأسلاف بـ(المعصومة)، ويمكن تلمس حجم انتشار هذه الظاهرة من خلال خطاب العباد والزهاد ورجال الفقه الذي يحذر من انزياح وانسياب ظاهرة الافتنان بالغلمان والمردان من فضاءات الفساد والغواية إلى ساحات الطهر والتقى والنسك المتمثلة آنذاك في المساجد ودور التعليم، وبالتالي جاء خطاب رجال الدين والزهد بمضامين صحيحة وعبارات صريحة لأتباعهم؛ من العلماء والزهاد والعباد، بالتحذير والتجريم والتأثيم لمن تسول له نفسه بالميل إلى المردان ومجالستهم والخلو بهم. كما قال أحد العباد في عهد التابعين: ما أنا على الشاب الناسك من سبعٍ ( أي أسد) يجلس إليه، بأخوف مني عليه من حدث يجلس إليه. فإذا كان ذلك كذلك في ساحة العبادة والتعليم والنسك، فكيف يكون الحال في الساحات العامة وساحات الغواية؟! 
يؤكد سفيان الثوري أن الافتتان بالغلمان والمردان أخطر من فتنة البنات فيقول: إن مع المرأة شيطانا، ومع الحدث شيطانين. وقال ابن تيمية: كان مالك بن أنس: يمنع دخول المرد مجلسه للسماع، فاحتال هشام فدخل في غمار الناس مستترا بهم؛ وهو أمرد، فسمع منه ستة عشر حديثا، فأُخبر بذلك مالكا، فضربه ستة عشر سوطا، فقال هشام: ليتني سمعت مائة حديث وضربني مائة سوط. وقال الجنيد بن محمد: جاء رجل إلى أحمد بن حنبل، ومعه غلام أمرد حسن الوجه، فقال له: من هذا الفتى؟ فقال الرجل: ابني، فقال: لا تجيء به معك مرة أخرى .فلامه بعض أصحابه في ذلك، فقال أحمد: على هذا رأينا أشياخنا، وبه أخبرونا عن أسلافهم .
وذكر ابن تيمية : أن حسن بن الرازي؛ جاء إلى أحمد ابن حنبل ومعه غلام حسن الوجه، فتحدث معه ساعة، فلما أراد أن ينصرف، قال له أحمد: يا أبا علي!، لا تمش مع هذا الغلام في طريق، فقال: يا أبا عبد الله!، ابن أختي، قال: وإن كان: لا يأثم الناس فيك، أو لئلا يظن بك من لا يعرفك ولا يعرفه سوءاً. قال يحيى بن معين: ما طمع أمرد أن يصحبني، ولا أحمد ابن حنبل في طريق. قال سعيد بن المسيب: إذا رأيتم الرجل يلح بالنظر إلى الغلام الأمرد فاتهموه .
وقال الحسن بن ذكوان: لا تجالسوا أولاد الأغنياء، فإن لهم صورا كصور النساء، وهم أشد فتنة من العذارى. قال أبو يعقوب: كنا مع أبي نصر بشر بن الحارث الحافي فوقفت عليه جارية ما رأينا أحسن منها، فقالت: يا شيخ أين مكان باب حرب. فقال لها هذا الباب الذي يقال له باب حرب، ثم جاء بعدها غلام ما رأينا أحسن منه، فسأله فقال: يا شيخ أين مكان باب حرب، فأطرق الشيخ رأسه، فرد عليه الغلام السؤال، وغمض عينيه، فقلنا للغلام : تعال إيش تريد؟ فقال: باب حرب، فقلنا له: ها هو بين يديك، فلما غاب قلنا للشيخ : يا أبا نصر جاءتك جارية فأجبتها وكلمتها، وجاءك غلام فلم تكلمه، فقال : نعم .
يروي عن سفيان الثوري أنه قال : مع الجارية شيطان، ومع الغلام شيطانان، فخشيت على نفسي من شيطانيه (المصدر شبكة نور الإسلام).
وقد جاء في طوق الحمامة في الألفة والألاف لابن حزم الكثير من قصص المثلية، منها قصة ابن قزمان ومعشوقه أسلم، قال ابن حزم: لقد حدثني أبو السري عمار بن زياد صاحبنا عمن يثق به، أن الكاتب ابن قزمان امتحن بمحبة أسلم بن عبد العزيز، أخي الحاجب هاشم بن عبد العزيز. وكان أسلم غاية في الجمال، حتى أضجره لما به وأوقعه في أسباب المنية. وكان أسلم كثير الإلمام به والزيارة له ولا علم له بأنه أصل دائه، إلى أن توفي أسفا ودنفا. 
وقصة ابن الطنبي والفتى الجميل ذكرها ابن حزم فقال: سألت أبا عبد الله بن الطنبي عن سبب علته، وهو قد نحل وخفيت محاسن وجهه بالضنى فلم يبق إلا عين جوهرها المخبر عن صفاتها السالفة، وصار يكاد أن يطيره النفس، وقرب من الانحناء، والشجى باد على وجهه، ونحن منفردان. فقال لي : نعم : أخبرك أني كنت في باب داري بقديد الشماس في حين دخول علي بن حمود قرطبة، والجيوش واردة عليها من الجهات تتسارب، فرأيت في جملتهم فتى لم أقدر أن للحسن صورة قائمة حتى رأيته، فغلب على عقلي وهام به لبي، فسألت عنه فقيل لي : هذا فلان بن فلان، من سكان جهة كذا، ناحية قاصية عن قرطبة بعيدة المأخذ. فيئست من رؤيته بعد ذلك. ولعمري يا أبا بكر لا فارقني حبه أو يوردني رمسي.انظر باب (سلو) وباب (الموت) طوق الحمامة. وللمزيد من هذه القصص يمكنك مراجعة رسائل الجاحظ، والإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي.
ويبدو أننا أمام ظاهرة بحاجة إلى دراسة معمقة في فضاءات مجتمع القرون الثلاثة وإن كانت هذه الظاهرة من الظواهر المسكوت عنها والتي تقع في المناطق المحرمة في الفكر الديني. ولعدم توجه هذه المقاربة إلى تحليل هكذا ظواهر نكتفي بما ورد من إشارات وعلامات لوجود أزمة أخلاقية في النسق الأخلاقي الجمعي لتلك القرون الثلاثة الفاضلة للتدليل إلى إنسانية تلك المجتمعات وما تعانيها من دوافع وشهوات ورغبات كأي مجتمع إنساني فيه الصالح والطالح، والعابد والفاسد، وأن العيش في تلك القرون مصادفة أو مثاقفة لا ترفع الإنسان إلى مصاف العصمة والملائكية.
علما بأن الأخلاق جزء أساس من ثقافة المجتمع، وأنها المحرك الأساسي للفعل والإنتاج الإنساني، فهي القيم والقواعد التي يفرضها الاعتقاد أو العرف على منتسبي مجتمع ما، وفي تقديري أن منظومة القيم الأخلاقية الدينية في مجتمع القرن الأول العربي في نسقها الاجتماعي لم تكن بذلك الرسوخ والتماسك والتكامل في نفس العربي الذي عاش ردحا من الزمان على منظومة أخلاق وأعراف المجتمع العربي في الجاهلية، لذا فإن منظومة القيم الأخلاقية السماوية لم تصمد طويلا أمام النسق الأخلاقي الضارب بأطنابه في عمق التاريخ والنفس العربية. والواقع أن هذا الاختلال الذي يعاني منه مفهوم القيم الأخلاقية داخل النسق الاجتماعي على المستوى الفردي أو الجمعي هو الذي أدى إلى ظهور انفلاتات في نسيج منظومة الأخلاق الدينية، وبروز مظاهر انكفاء المنظومة السياسية إلى أنساق مجتمع ما قبل الإسلام. ولعل من المناسب عرض بعض مظاهر انكفاء المنظومة السياسية في القرن الأول وما دار من صراعات جهوية وسلطوية وقبلية تضع مفهوم عصمة القرون الثلاثة وخيريتها محل نظر وشك. والمفارقة المثيرة للانتباه هي أن مدونات السنة والشيعة حافلة بروايات عديدة تضع مفهوم العصمة؛ عصمة الأكثرية(=عدالة القرون الثلاثة)، أو عصمة الأقلية(= عصمة الأئمة) في موضع الارتياب والرفض وليس في موطن الاعتقاد والتقديس والتصنيم، وعلى الرغم من تلك الروايات والأسانيد التي تشير بوضوح إلى إنسانية ذلك الجيل وأن له مكسب وعليه ما اكتسب، نجد أن الطائفتين؛ السنية والشيعية منذ ذاك الزمان الغابر لم يخرجا بتاتا عن الرؤية التاريخية المؤدلجة التي لا زالت تحكم منظورهما الديني في القرن الحادي والعشرين!! 
·       ثانيا: مقاربة في الجانب السياسي: 
لا يخفى أن المقاربة الفكرية هي في حقيقتها قراءة لأحداث ونصوص تقع خارج إطار الذات الإنسانية، وبالتالي فإن المقاربة محاولة فهم حقيقة تلك الأحداث باستنطاق سياقات ومساقات الأحداث والنصوص بغية فهم كنهها ودوافع شخوصها، لآن القرب والدنو (=المقاربة) من النصوص والأحداث لا تعني بحال نقل تلك الأحداث والنصوص بما لها وعليها(= قراءة استذكارية تمجيدية)، وإنما مقاربة تجعل الأحداث والنصوص الساكنة في دلالتها ومعانيها إلى نصوص حية متحركة باستنطاق سياقها التاريخي ومساقها الثقافي والاجتماعي والسياسي ( = قراءة استكشافية نقدية). وفي سياق هذه المقاربة الاستكشافية والتي يتفاعل فيها القارئ والمقروء تفاعلا ايجابيا بحيث لا يمكن وصف استنتاج المقاربة الاستكشافية بأنها استنتاجات خاطئة ما دامت النصوص في سياقها ومساقها تحتمل صحة تلك الاستنتاجات.
نحاول التقرب والدنو من الأحداث السياسية التي وقعت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقراءتها قراءة استكشافية وليست استذكارية تمجيدية؛ بغية فهمها أولا، والتخفيف من سطوتها على حاضرنا ثانيا. ومن تلك الأحداث التي نحاول مقاربتها في هذه الدراسة؛ حادثة سقيفة بني ساعدة، وحروب الردة، ومقتل عثمان بن عفان، ومعركة الجمل، ومعركة صفين، وما تلا ذلك من استباحة المدينة، وحرق الكعبة، ومقتل الحسين. وسبب اختيار هذه الأحداث دون غيرها لأنها لازالت تداعياتها وظلالها تحكم حاضرنا، وتشكل مستقبلنا، وتزرع بذور الطائفية والمذهبية فينا، وفي الآن ذاته كانت هذه الأحداث وراء تشويه قيم الوحي المعيارية كقيم العدل والشورى وإكرام الإنسان والأخوة الإيمانية.

1-             المؤتمر السياسي الأول المنعقد في سقيفة بني ساعدة (سنة 11ه)
نقف برهة عند طريقة تداول السلطة بين المهاجرين والانصار في سقيفة بنى ساعدة، والتي كانت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقبل دفنه، حيث تذكر النصوص أن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة دون النظر إلى حضور المهاجرين أو استشارتهم أو إعلامهم، حيث انعقد إجماع الأنصار في هذا المؤتمر على ضرورة اختيار خليفة يخلف رسول الله في إدارة الدولة، وكان الخليفة المنتخب والمتفق عليه من قبل الأنصار هو سعد ابن عبادة أحد النقباء الاثني عشر الذين بايعوا رسول الله يوم العقبة، وعندما علم المهاجرون بتلك البيعة تركوا رسول الله مسجيا وهرعوا إلى سقيفة بني ساعدة لإيقاف بيعة سعد بالخلافة، وإلغاء انفراد الأنصار بهذا الحق. فقال عمر عندما داخل وبعد مساجلات كلامية بينه وبين قيادات الأنصار: هيهات! لا يجتمع اثنان في قرن واحد، والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، وولي أمورهم منها، ولنا على من آمن الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مول بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة؟! 
فقام الحباب بن المنذر وهو أحد قيادات الأنصار، وقال: يا معشر الأنصار أملكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه- يقصد عمر والمهاجرين- فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموهم فأجلوهم عن هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم فإنهم بأسيافكم دان لهذا الدين من لم يك يدين به. أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب. أما والله لو شئتم لنعيدنها جذعة.
ويبدو أن الخليفة (سعد ابن عبادة) المرشح من قبل الأنصار كان طريح الفرش، فبعد المشادة الكلامية الساخنة بين عمر والحباب تدافع القوم فيما بينهم، حتى قال أناس من أصحاب سعد: اتقوا سعدا لا تطؤوه. فرد عمر عليهم قائلا: اقتلوه قتله الله. ثم قام على رأسه فقال: لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك. فأخذ قيس بن سعد بلحية عمر فقال: والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة. فقال أبو بكر: مهلا يا عمر الرفق ها هنا أبلغ. فأعرض عنه عمر. وقال سعد: أما والله لو أن بي قوة أقوى بها على النهوض لأسمعت من في أقطارها وسككها زئيرا يحجرك وأصحابك، أما والله إذا لألفينك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع احملوني من هذا المكان فحملوه فأدخلوه في داره. ( انظر: تاريخ الطبري، والبخاري كتاب فضائل الصحابة).
وبالتالي امتنع سعد خليفة الأنصار المقال من بيعة خليفة المهاجرين أبي بكر، بل واصل رفضه وامتناعه حتى لبيعة عمر الخليفة الثاني، ذكر ابن سعد في طبقاته عن محمد بن عمر قال حدثني محمد بن صالح عن الزبير بن المنذر بن أبي أسيد الساعدي أن أبا بكر بعث إلى سعد بن عبادة أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك فقال لا والله لا أبايع حتى أراميكم بما في كنانتي وأقاتلكم بمن تبعني من قومي وعشيرتي فلما جاء الخبر إلى أبي بكر قال بشير بن سعد يا خليفة رسول الله إنه قد أبى ولج وليس بمبايعكم أو يقتل ولن يقتل حتى يقتل معه ولده وعشيرته ولن يقتلوا حتى تقتل الخزرج ولن تقتل الخزرج حتى تقتل الأوس فلا تحركوه فقد استقام لكم الأمر فإنه ليس بضاركم إنما هو رجل وحده ما ترك فقبل أبو بكر نصيحة بشير فترك سعدا. فلما ولي عمر لقيه ذات يوم في طريق المدينة فقال إيه يا سعد فقال سعد إيه يا عمر فقال عمر أنت صاحب ما أنت صاحبه فقال سعد نعم أنا ذاك وقد أفضى إليك هذا الأمر كان والله صاحبك أحب إلينا منك وقد والله أصبحت كارها لجوارك فقال عمر إنه من كره جوار جاره تحول عنه فقال سعد أما أني غير مستنسىء بذلك وأنا متحول إلى جوار من هو خير منك قال فلم يلبث إلا قليلا حتى خرج مهاجرا إلى الشام في أول خلافة عمر بن الخطاب، فمات بحوران أخبرنا محمد بن عمر قال أخبرنا يحيى بن عبد العزيز بن سعيد بن سعد بن عبادة عن أبيه قال توفي سعد بن عبادة بحوران من أرض الشام لسنتين ونصف من خلافة عمر.
ويبدو أن نهاية الخليفة المقال سعد ابن عبادة كانت تصفية جسدية، يقال أنه اغتيل بواسطة الجن؛ وما أدراك ما الجن وما يعلم جنود ربك إلا هو. فقد ذكر الحاكم في مستدركه، والطبراني في الكبير، والذهبي في إعلامه، وابن سعد في طبقاته، أن سعدا قام يبول، ثم رجع فقال: إني لأجد في ظهري شيئا، فلم يلبث أن مات، فناحته الجن، فقالوا: قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة بسهمين فلم نخطئ فؤاده. وأكد ابن عبد البر في الاستيعاب على مقتل الخليفة المقال بقوله: ولم يختلفوا أنه وجد ميتا في مغتسله وقد اخضر جسده.
 وبعد أن استقرت الأوضاع وبايع الناس أبا بكر وتولى عمر بعده الخلافة ووصف عمر ما جرى من طريقة تداول السلطة يوم السقيفة بأنها فلتة وقى الله شرها المسلمين، ذكر البخاري مقولة عمر في صحيحه فقال: قال عمر بن الخطاب: إنما كانت بيعة أبي بكر فَلْتَة وتمَّت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرَّها... من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرَّة أن يُقتَلا.(صحيح البخاري، ومسند بن حنبل) لكن هل صحيح أن الله وقى شر هذه البيعة المسلمين، نحاول مقاربة هذه المقولة العمرية المشهورة باستنطاق سياقها ومساقها، ومآلاتها في أنساق حروب الردة.

2-             أسباب حروب الردة ... محاولة للفهم (11-13ه)
يبدو من استنطاق نصوص بيعة السقيفة والكيفية التي تمت من خلالها بيعة أبي بكر بالخلافة، ومن ثم تقرير مشروعية وشرعية النخبة القرشية، وحسم شرعية خلافة النخبة الأنصارية بإقناعها بأحقية قريش بهذا الأمر، وبالتالي قبول أهل المدينة بشرعية المشروع النخبوي القرشي، بيد أن هذه الشرعية بالنسبة لمناطق الأطراف لم تكن مقبولة ولا مقنعة، لذلك عبر سكان الأطراف بأشكال مختلفة عن رفضهم لهذا المشروع القرشي والشرعية السياسية بالتمرد والعصيان على السلطة السياسية المركزية على الرغم من بقاء أغلبهم في دائرة الإيمان بالرسول والرسالة جملة.
ويمكن فهم بداية رفض سكان الأطراف لمشروع النخبة القرشية السلطة المركزية في المحاورة التي دارت بين أبي بكر الخليفة ونائبه عمر بن الخطاب، حيث أصر الأول الخليفة أبو بكر بقتل هؤلاء الممتنعين عن أداء الطاعة بدفع قسطا ماليا لدولة العاصمة، بينما أصر الثاني عمر ابن الخطاب على مبدأ عدم قتالهم لأنهم يشهدون شهادة الإسلام ويقيمون الصلاة عد بعض الناس الذين أمنوا بمسيلمة أو العنسي أو سجاح، فكان رد الخليفة على عمر حاسما فقال له: أخوار في الجاهلية جبان في الإسلام. ولعل هذه المقولة أصبحت فيما بعد الأرضية التي تنطلق منها فكرة إعلامية الشورى وليس إلزاميتها للسلطان كما هو مقرر في الأحكام السلطانية، علما بأن عمر عندما ألت إليه الخلافة فك أسرى القبائل الممتنعة وأخلى سبيلهم كما ذكر الشوكاني في نيل الأوطار.
المهم أن قرر الخليفة بقتل سكان الأطراف الممتنعين أخذ مجاله للتنفيذ مباشرة وعلى أراضى تلك القبائل، حيث تم إعلان الحرب رسميا على هؤلاء تحت اسم (المرتدين) رغم شهادتهم شهادة الإسلام وإقامة الصلاة كما يفهم من نص الحوار الذي دار بين عمر أبي بكر، فقال عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه، فقال عمر : فو الله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق (صحيح مسلم).
 ولابد من تقرير حقيقة مفادها بأن هذه الحروب دارت رحاها بين جمهرة من الصحابة؛ الصحابة الذين كان بيدهم زمام السلطة والصحابة المتأولين لآية الزكاة أو المتمردين على السلطة المركزية أو المنكفين إلى فكرة القبيلة، وقد راح ضحية هذه الحروب الطاحنة آلاف من المسلمين منهم عدد غفير من الصحابة الذين شهدوا بدرا وبيعة الرضوان وغيرها من المشاهد، ويبدو أن القاتل يقاتل باسم الله والمقتول يردد أطعنا رسول الله مادام وسطنا...فيا قوم ما شأني وشأن أبي بكر. وهذا يشير إلى أن القتال كان قتالا سياسيا لإخضاع قبائل الأطراف كقبائل اليمن والبحرين، أو القريبة من دولة العاصمة كبني عبس، وذبيان، وأسد، وبكر، وغطفان، وطيء، وسليم، وهوازن، وتميم وغيرها. 
ويبدو أن تلك القبائل كان وراء امتناعها عن بيعة أبي بكر بالخلافة هو إقصاؤها من حق الشورى والمشورة في تعين الخليفة بعد رسول الله فلم تشهد مداولة السقيفة ولم تدع إلى ذلك ناهيك عن أخذ رأيها في الترشيح. وبهذه الإقصائية المبكرة في الفكر السياسي فتح الباب على مصراعيه في إراقة دماء المعارضين لسياسات حكومة العاصمة، فثمة روايات في كتب التاريخ تشير إلى أن عدد قتل حروب المسمى بالردة تجاوز الآلاف من الصحابة وكبار التابعين وحملة القرآن الكريم، بل ثمة روايات تتحدث عن المثلة بين الصحابة كما فعل الصحابي خالد بن الوليد مع الصحابي مالك بن نويرة الذي كلفه رسول الله أخذ زكاة قومه وتوزيعه على فقراءهم، فقد ذكر ابن كثير تحت عنوان (فصل في خبر مالك بن نويرة التميمي) وبعد ما سرد قصة اعتقاله قال: فقال خالد.... يا ضرار اضرب عنقه، وأمر برأسه فجعل مع حجرين وطبخ على الثلاثة قدرا (= أي جعله من أثافي القدور) فأكل منها خالد تلك الليلة ليرهب بذلك الأعراب من المرتدة وغيرهم. ويقال إن شعر مالك جعلت النار تعمل فيه إلى أن نضج لحم القدر، ولم تفرغ الشعر لكثرته. ( البداية والنهاية لابن كثير).
واللافت للنظر أن مفسر القرآن لم يجد حرجا في إقحام آي القرآن في هكذا أفعال مستهجنة عقلا وشرعا وذلك من أجل تزيين وتحسين أفعال الجيل الأول المخالفة للعقل والوحي، وهذا ما فعله القرطبي عند تفسيره لقوله تعالى في سورة التوبة ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين.. الآية)، فقال:... يقتضي جواز قتلهم بأي وجه كان، إلا أن الأخبار وردت بالنهي عن المثلة. ومع هذا فيجوز أن يكون الصديق رضي الله عنه حين قتل أهل الردة بالإحراق بالنار، وبالحجارة، وبالرمي من رؤوس الجبال، والتنكيس في الآبار، تعلق بعموم الآية....( تفسير القرطبي)
يبدو أن عمليات الإحراق بالنار، والقتل بالحجارة، والرمي من رؤوس الجبال، والتنكيس في الآبار التي وقعت بين المسلمين في عهد أبي بكر الممثل للسلطة المركزية ومعارضيه من سكان الأطراف تجعل المقولة المنسوبة لعمر ( تلك بيعة وقى الله شرها المسلمين) محل نظر وإشكال من حيث وقاية الله سبحانه المسلمين شر بيعة السقيفة، بل لعل هذه الوقائع والأحداث من تلك البيعة (=الفلتة) هي التي جرت على المسلمين عبر التاريخ كل الويلات والشرور التي مارستها السلطة السياسية ضد معارضيها من مقتل عثمان وما تلاها من معارك ضارية بين معاوية وعلي وعائشة في معركة الجمل وصفين والتي راح ضحيتها عشرات الآلاف من المسلمين، كذلك قتل وتشريد المعارضين والرافضين لفكرة التوريت عبر تاريخ الدولة الأموية والعباسية باسم التحالف( السيف والقلم). 
وهكذا تبدو المقاربة أو القراءة الاستكشافية ليست فعلا فيزيقيا (=مجرد أصوات) وإنما نشاط معرفي ذهني يعمل على استنطاق النص في سياقاته ومساقاته لفرز قيمة نصوص الوحي مما تلبس بها من صراعات النفوس، لتميز القيمة من الذات، والنص وحامله، والفهم وتطبيقه.
  • ثالثا: مقاربة في مقتل عثمان بن عفان: (35ه)

بعد انتهاء حروب الردة وتداعياتها استقر أمر خلافة أبي بكر التي استمرت ما يقرب من عامين ونصف العام، ثم كانت خلافة عمر والتي امتازت بالاستقرار لمدة تربو عشرة أعوام، ثم كانت خلافة عثمان التي انتهت بفاجعة مقتله على أيدي الثوار عام(35هـ)، وكان من ضمن قيادات هؤلاء الثوار مجموعة من الصحابة وكبار التابعين؛ كجبلة بن عمرو الساعدي من فقهاء الصحابة، وجهجاه بن سعيد الغفاري صحابي شهد بيعة الرضوان بالحديبية وغزوة المريسيع وبني المصطلق (انظر الإصابة لابن حجر،وأسد الغابة) كذلك شارك في عملية قتل عثمان بصورة ما بعض أبناء الصحابة كمحمد ابن أبي بكر الصديق، ومحمد ابن أبي حذيفة، قال البخاري في تاريخه الصغير عن الحسن قال: لم يدع الله الفسقة قتلة عثمان حتى قتلهم بكل أرض، فأما محمد بن أبي بكر فضربت عنقه ثم جعل بدنه في مسك حمار ثم أحرق بالنار. 
وذكر الذهبي في إعلام النبلاء عن أبي جعفر القارئ، قال: كان المصريون الذين حصروا عثمان ستمائة: رأسهم كنانة بن بشر، وابن عديس البلوي، وعمرو بن الحمق. ثم قال: وكان المصريون لا يطمعون في أحد من أهل المدينة أن ينصرهم إلا ثلاثة، فإنهم كانوا يراسلونهم، وهم : محمد بن أبي بكر الصديق، ومحمد بن جعفر، وعمار بن ياسر.( انظر: سير أعلام النبلاء).
هذا عن ثوار مصر، أما الذين قدموا من الكوفة وكان تعدادهم ما يقرب المائتين بقيادة الأشتر النخعي، والذين قدموا من البصرة مائة، رأسهم حكيم بن جبلة. وصفهم الذهبي بقوله: كانوا يدا واحدة في الشر، وكانت حثالة من الناس قد ضووا إليهم، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين خذلوه كرهوا الفتنة وظنوا أن الأمر لا يبلغ قتله، فلما قتل ندموا على ما ضيعوا في أمره، ولعمري لو قاموا أو قام بعضهم فحثا في وجوه أولئك التراب لانصرفوا خاسئين. (المصدر السابق).
لو أمعنا النظر في قائمة أسماء قيادات مجموعات الثوار الثلاثة المصرية والكوفية والبصرية لوجدنا أنها تتضمن أسماء من الصحابة ومن كبار التابعين المفترض فيها الخيرية والأفضلية من حيث معايشتها مراحل التنزيل وبدايات تأسيس المجتمع الإسلامي الأول.
أسماء قيادات الجماعة المصرية: 
ورد عند الذهبي وغيره سجل بأسماء قيادة الثوار المصرية فكان منهم،كنانة بن بشر، وابن عديس البلوي، وعمرو بن الحمق. فكنانة بن بشر، ذكره ابن حجر بصورة مجملة فقال: أنه صحابي وأنه من قتل عثمان. (الإصابة في معرفة الصحابة)، وذكر الكلبي كيفية قتل الصحابي كنانة للصحابي عثمان فقال: ضرب كنانة بن بشر عثمان بعمود ضربة على مقدم رأسه وجبينه!!
أما عن ابن عبديس البلوي، فصحبته وشهوده لبيعة الرضوان ثابتة كما جاء ذلك في مصادر التراجم المتعددة، فقد قال أبو نعيم الأصبهاني: أنه صحابي ممن شهد الحديبية.(معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني)، وأيضا ذكره ابن الأثير: البلوي له صحبة وشهد بيعة الرضوان وبايع فيها. (أسد الغابة،كذلك ذكره ابن حجر في الاصابة، ومسند البزار، وتاريخ ابن عساكر، وتاريخ الإسلام للذهبي، والآحاد والمثاني لابن أبي عاصم). أما ابن سعد في طبقاته فقد ذكره بهذه الصيغة: عبد الرحمن بن عديس البلوي من صحب النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه، وكان فيمن رحل إلى عثمان حين حصر حتى قتل، وكان رأسا فيهم .(الطبقات الكبرى لابن سعد) واللافت للنظر أن ابن حجر في مقدم فتح الباري ذكر أنه قد صلى بالناس أيام حصار عثمان.(المقدمة).
وأما عن الرأس الثالث من رؤوس قيادة الجماعة المصرية فكان عمرو بن الحمق، وهو صحابي ثابتة صحبته كما ذكر ذلك الرازي في ترجمته، فقال: عمرو بن الحمق الخزاعي له صحبة.( الجرح والتعديل لأبي حاتم الرازي ) يبدو من هذا السرد أن قيادة الجماعة المصرية كانت بيد ثلاثة من الصحابة من بينهم واحد ممن حضر بيعة الرضوان يوم الحديبية والذي نزل فيهم قوله تعالى: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة.
ترجمة قائد الجماعة الكوفية: 
لا يخفى أن قيادة الجماعة الكوفية كانت بيد مالك بن الأشتر النخعي، وهو من الذين ولد قبل الإسلام وعاصر النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يره ولم يسمع منه،وعلى هذا فهو ليس بصحابي ولكنه من كبار التابعين.(انظر طبقات ابن سعد)، ولكنه ألب على عثمان وقاتله، وشهد صفين مع علي، وهو أحد أركان سلطة علي ابن أبي طالب.( انظر سير أعلام النبلاء).
أما قائد الجماعة البصرية:
فهو حكيم بن جبلة العابد الزاهد من أركان سلطة علي ابن أبي طالب العسكرية، فقد قال عنه الذهبي كان متدينا عابدا شريفا مطاعا،بعثه عثمان على السند، وثم إنه نزل البصرة. وقد ذكرنا أنه أحد من سار إلى الفتنة، ثم قتل في فتنة الجمل...(تاريخ الإسلام للذهبي).
وقائمة أسماء الذين ساهموا في مقتل عثمان بصورة مباشرة أو غير مباشرة من الصحابة وكبار التابعين طويلة، فقد ذكر الطبري في تاريخه، والبخاري في تاريخه، والطبراني في كبيره، والذهبي في إعلامه وتاريخ الإسلام أعدادا غفيرة من أسماء هؤلاء فمنها على سبيل المثال:
1-             عبدالله بن بديل الخزاعي، فقد روى البخاري في تاريخه أنه ممن دخل على عثمان، فطعن عثمان في ودجه، وعلا التنوخي عثمان بالسيف،فأخذهم.(تاريخ الإسلام للذهبي) وذكر ابن الأثير أن عبدا لله بن بديل الخزاعي صحابي شهد الفتح وحنينا والطائف وتبوك، وصالح أهل أصبهان في خلافة عثمان، وقتل هو وأخوه عبد الرحمن بصفين مع علي وهو من أفاضل أصحاب علي وأعيانهم.(أسد الغابة، كذلك انظر الإصابة لابن حجر، والطبراني في الكبير). ويبدو أن لعبد الله بن بديل أخا اسمه عبد الرحمن وهو من الصحابة ومن الذين شاركوا في قتل عثمان. فقد جاء في المعجم الكبير أنه عندما سئلت بنت بكر بن وائل السيدة عائشة عن مقتل عثمان: قالت: قتل والله مظلوما، لعن الله قتلته، أقاد الله ابن أبي بكر به، وساق الله إلى أعين بني تميم هوانا في بيته، وأهراق الله دماء ابني بديل على ضلالة، وساق الله إلى الأشتر سهما من سهامه، فوالله ما من القوم رجل إلا أصابته دعوتها (الطبراني). واللافت للنظر أن كل من جاء ذكره على لسان السيدة عائشة كانوا من قيادات وأركان جيش علي ابن أبي طالب.
2-             جبلة بن عمرو الساعدي: جبلة صحابي يقال أنه أول من اجترأ على عثمان بالمنطق السيئ، وشارك في اقتحام داره وقتله، قال عنه ابن عبد البر: كان جبلة بن عمرو فاضلا من فقهاء الصحابة، وشهد جبلة بن عمرو صفين مع علي رضي الله عنه وسكن مصر.( الاستيعاب في معرفة الأصحاب، وانظر أسد الغابة، وتاريخ البخاري). وذكر ابن جرير الطبري في تاريخه تفصيل الدور الذي قام به الصحابي جبلة في مقتل عثمان وتعطيل جنازته ومنع الناس من الصلاة عليه، فذكر عن عامر بن سعد أنه قال: كان أول من اجترأ على عثمان بالمنطق السيئ جبلة ابن عمرو الساعدي، مر به عثمان وهو جالس في ندي قومه، وفي يد جبلة بن عمرو جامعة، فلما مر عثمان سلم، فرد القوم، فقال جبلة: لم تردون على رجل فعل كذا وكذا! قال: ثم أقبل على عثمان، فقال: والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه. قال عثمان: أي بطانة! فو الله إني لأتخير الناس؛ فقال: مروان تخيرته! ومعاوية تخيرته! وعبد الله بن عامر بن كريز تخيرته! وعبد الله بن سعد تخيرته! ومنهم من نزل القرآن بدمه، وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه.(ابن جرير الطبري) وفي رواية أن جبلة بن عمر الساعدي من الأنصار قال للذين يحملون جثمان عثمان: لا والله لا تدفنوه في بقيع رسول الله، ولا نترككم تصلون عليه. (ابن جرير الطبري، ولمزيد من التفصيل انظر الطبراني، ومجمع الزوائد، وتاريخ المدينة للنميري، وتهذيب الكمال للمزي).
3-             جهجاه الغفاري:ذكر ابن حجر في الاصابة أن جهجهاه الغفاري صحابي ممن شهد بيعة الرضوان (الإصابة، تاريخ المدينة لابن شبة النميري) وهذا الصحابي كان من الذين يثورون الناس ضد عثمان والتمرد على سلطته، وكان يسعى بهذه الأفكار في المجامع العامة وفي مسجد رسول الله، ويقال أنه هو الذي أخذ العصاة من يدي عثمان وهو يخطب على المنبر فكسرها. ذكر ابن حجر عن نافع، عن بن عمر قال: قدم جهجاه الغفاري إلى عثمان وهو على المنبر فأخذ عصاه فكسرها فما حال على جهجاه الحول حتى أرسل الله في يده الأكلة فمات منها.(قال ابن حجر الحديث غريب تفرد به موسى بن عبيدة، عن عبيد وقد أشار إليه الترمذي)ورواه من طريق فليح بن سليمان ، عن عمته وأبيها وعمها أنهما حضرا عثمان قال : فقام إليه جهجاه بن سعيد الغفاري حتى أخذ القضيب من يده فوضعها على ركبته فكسرها فصاح به الناس ونزل عثمان فدخل داره ورمى الله الغفاري في ركبته فلم يحل عليه الحول حتى مات (الاصابة).
وذكر البخاري في التاريخ الصغير هذه الحادثة بذات الإسناد عن فليح فقال: حدثنا قتيبة ثنا بن فليح بن سليمان عن أبيه عن عمته عن أبيها وعمها، أنهما حضرا عثمان قال فقام إليه جهجاه بن سعيد الغفاري حتى أخذ القضيب من يده قضيب النبي صلى الله عليه وسلم فوضعها على ركبتيه ليكسرها فشقها فصاح به الناس ونزل عثمان حتى دخل داره ورمى الله الغفاري في ركبته فلم يحل عليه الحول حتى مات (تاريخ البخاري) .
وجاء في تاريخ ابن شبة النمير أن الصحابي جهجاه الغفاري هو الذي منع الصحابي عثمان من إمامة الناس بالصلاة، ويبدو أن جهجاه كان يرى عدم صحة إمامة عثمان السياسية والدينية، ولكن هل كان من الذين يكفرونه كما نقل عن غيره بصريح العبارة( لقد كفر عثمان)؟! قال: بن الماجشون، قال: أخبرني عتبة بن مسلم المدني أن آخر خرجة خرجها عثمان يوم جمعة وعليه حلة حبرة مصفرا رأسه ولحيته بورس، قال: فما خلص إلى المنبر حتى ظن أن لن يخلص، فلما استوى على المنبر حصبه الناس، وقام رجل من بني غفار يقال له: الجهجاه فقال: والله لنغربنك إلى جبل الدخان، فلما نزل حيل بينه وبين الصلاة، فصلى للناس أبو أمامة بن سهل بن حنيف (تاريخ المدينة لابن شبة).
4-نياز بن عياض الأسلمي: يقال هو الذي نادى عثمان يوم حصاره في داره، فبينا هو يناشده أن يعتزلهم إذ رماه كثير بن الصلب الكندي بسهم فقتله، فقالوا الثوار لعثمان عند ذلك: ادفع إلينا قاتله-أي قاتل نياز- لنقتله به. قال عثمان: لم أكن لأقتل رجلا نصرني وأنتم تريدون قتلي. فلما رأوا ذلك ثاروا إلى الباب فلم يمنعهم أحد منه...(الطبري، الكامل لابن الأثير) وذكر الطبري وابن الأثير أن الذين هجموا عليه واشتركوا في دمه، منهم محمد بن أبي بكر، ورفاعة بن رافع، والحجاج بن غزنة، وعبد الرحمن بن خصل الجمحي، وكنانة بن بشر النخعي، وسندان بن حمران المرادي، وبسرة بن رهم، ومحمد بن أبي حذيفة، وابن عتيبة، وعمرو بن الحمق الخزاعي‏ (انظر المصدر السابق الطبري وابن الأثير).
5-فروة بن عمرو: قال ابن عبد البر: فروة بن عمرو بن ودقة بن عبيد بن عامر بن بياضة البياضي الأنصاري. شهد العقبة وشهد بدراً وما بعدها من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مخرمة العامري. حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن . قاله مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي حازم التمار عن البياضي، ولم يسمه في الموطأ. وكان ابن وضاح وابن مزين يقولان: إنما سكت مالك عن اسمه لأنه كان ممن أعان على قتل عثمان رضي الله عنه ( الاستيعاب في معرفة الأصحاب ).
ويبدو أن ثوار الخارج وثوار الداخل كانوا ينقمون على عثمان بن عفان الخليفة خمسة قضايا أساسية في نظام الحكم الديني القبلي كقضية العدل في توزيع الثروة والسلطة ونظام الشورى فقد أجمل الثوار مطالبهم بقولهم: أنه حمى الحمى، وحرق المصاحف، وأتم الصلاة، وولى الأحداث الولايات وترك أكابر الصحابة، وأعطى بني أمية أكثر من الناس.(انظر تاريخ الطبري، تاريخ ابن الأثير، تاريخ البخاري، البداية والنهاية، الإمامة والسياسة لابن قتيبة).
واللافت للنظر أن جل أسماء ثوار الداخل والخارج سواء منهم من قاد الحملة الإعلامية ضد عثمان أو من مارس عملية الحصار والقتل المباشر كانت موالية لمعسكر على ابن أبي طالب في قتاله مع معاوية في صفين أو في قتاله مع عائشة وطلحة والزبير في معركة الجمل !!
وهكذا...كان مقتل عثمان الفتنة الكبرى والشرارة الساطعة لنشوب فتن وحروب أخرى في القرن الأول الموسوم بخير القرون، ومن تلك الحروب العسكرية مذبحة الجمل، ومعركة صفين، وبداية ظهور الحروب الفكرية العقدية بين المسلمين كظهور الفرق والطوائف الإسلامية من خوارج وشيعة ومعتزلة ومرجئة وجهمية وما إلى ذلك.
  • رابعا: مقاربة لمعركة الجمل

بإيجاز، وقعت معركة الجمل عام 36 هجريا بالبصرة، فبعد مقتل عثمان بن عفان تم بيعة علي ابن أبي طالب من قبل أهل المدينة والكوفة والحجاز دون أهل الشام وما حولها حيث كانت قيادة الشام بزمام معاوية بن أبي سفيان، كذلك هنالك رفض لبيعة علي من قبل قيادات أهل المدينة والحجاز من أمثال عائشة وطلحة والزبير من الذين ألقوا باللوم على علي واتهموه بطريقة ما بالتواطىء بحماية قتلة عثمان والذين كانوا يشكلون قيادات جيش علي ابن أبي طالب من أمثال ابن الأشتر، والبلوي ، ومحمد ابن أبي بكر، وعمار ابن ياسر، عبد الله بن بديل الخزاعي وأخوه عبد الرحمن،وحكيم بن جبلة، وجبلة بن عمرو الساعدي.
انتهت معركة الجمل بمقتل إعداد هائلة من كلا الطرفين تحكي بعض الروايات أن عدد القتلى من الصحابة وكبار التابعين بلغ عشرة ألف، وفي رواية سبعة عشر ألفا.علما بأن قراءة حجم خسائر معركة الجمل في إطار النسبة والتناسب من العدد الإجمالي للصحابة يشير إلى وقوع مذبحة كبيرة بكل المقاييس، فقد ذكر ابن الصلاح أن عدد الصحابة مائة ألف بين رجل وامرأة، فقال: توفي النبي صلى الله عليه وسلم ومن رآه وسمع منه زيادة على مائة ألف إنسان من رجل وامرأة وكل قد روى عنه سماعاً أو رؤية (مقدمة ابن الصلاح).

  • خامسا: مقاربة لأثار معركة الجمل

مهدت معركة الجمل التي استباح فيها الضمير الديني قتل بعضهم البعض بمعارك ضارية بين المسلمين أودت بأرواح هائل، فبعد انتهاء معركة الجمل مع الحجازيين كانت معركة صفين بين جيش علي وجيش معاوية من الشامين ومن أتباعه، وكانت في عام 39 هجريا، فعلي يطالب معاوية بالبيعة، فيما طالب معاوية عليا بالقصاص من قتلة عثمان، ولما تقابل الجيشان وتقاتلا خسر الطرفان ما يقرب من سبعين ألف من المسلمين المغرر بهم أو السذج.
وانتهت هذه المذبحة بدراما سياسية تسمى في مدونات التاريخ بعملية التحكيم بين الجيشين، والتي أسفرت على انشقاقات داخل جيش علي ابن أبي طالب حيث خرجت طائفة عليه بعد عملية التحكيم وكفرته ورأت وجوب الخروج عليه وقتاله، وبالفعل دارت معركة بين جيش علي والمنشقين في معركة شهيرة سميت بمعركة النهروان والتي قتل فيها الكثير من المسلمين من كلا الطرفين. وبعد أن حطت معركة النهروان رحاها اجتمع ثلاثة رجال من قواد جيش علي السابقين الذين قادوا حركة التمرد والخروج عليه، وهم عبد الرحمن بن ملجم، والحرث بن عبد الله التميمي، وعمرو بن بكر التميمي، حيث قرر هؤلاء ضرورة التخلص من رؤوس الفتنة في نظرهم ( علي، معاوية، ابن العاص) وذلك بالتصفية الجسدية، وبالفعل تم اغتيال علي بن أبي طالب في المسجد وقت صلاة الفجر على يد ابن ملجم وفشل الآخران في الوصول إلى معاوية وابن العاص للإجراءات الأمنية المحيطة بهما. علما بأن هؤلاء الثلاثة الذين دبروا عمليات تصفيه الصحابة الثلاثة ( علي ، معاوية ، ابن العاص) كانت تظهر عليهم سمات الصلاح والتقوى والعبادة ومنهم من كان حافظا للقرآن كما جاء في ترجمة بن ملجم، ولكن لا سمات الصلاح منعتهم من قتل المسلم ولا حفظ القرآن زجرهم عن إراقة دم معصوم!!
وبعد تلك الدوامة والمعارك الضارية والقتل والتشريد بين الصحابة والتابعين استقر أمر السلطة والخلافة لمعاوية، ولكن ما لبث غير بعيد حتى قرب أجله فأوصى بالبيعة لابنه يزيد بن معاوية وتقرير مبدأ الوراثة في السلطة السياسية، فكانت بداية شرارة دموية جديدة، فقد كان خروج الحسين بن علي ابن أبي طالب ومذبحة كربلاء الشهيرة والتي راح ضحيتها حفيد رسول الله الحسين وجمع غفير من آل بيت رسول الله ومن عامة المسلمين، حيث وقعت هذه المذبحة في عام (61هـ) في عهد يزيد ابن معاوية الأموي في أرض العراق وكان ذلك في زمن ولاية الأموي عبيد الله بن زياد للكوفة والبصرة. 
وقد صور ابن كثير في البداية والنهاية مشاهد مقتل الحسين وما دار على أرض كربلاء من جريمة بشعة لا تمت إلى دين ولا إلى إنسانية سوية بشيء. فبعد سرد طويل لوقائع تلك الأحداث الأليمة قال ابن كثير :... لما كان من الغد قدم عمر بن سعد بن أبي وقاص في أربعة آلاف، وكان قد جهّزه ابن زياد في هؤلاء إلى الديلم، وخيم بظاهر الكوفة، فلما قدم عليهم أمر الحسين قال له‏:‏ سر إليه، فإذا فرغت منه فسر إلى الديلم، فاستعفاه عمر بن سعد من ذلك‏.‏ فقال له ابن زياد‏:‏ إن شئت عفيتك وعزلتك عن ولاية هذه البلاد التي قد استنبتك عليها‏‏.‏ وبعد مشورة قال عمر بن سعد‏:‏ إني أفعل إن شاء الله تعالى....ولما بلغ عمر بن سعد ابن أبي وقاص مكان الحسين وجماعته كتب إليه ابن زياد أن حل بينهم وبين الماء كما فعل بالتقي الزكي المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وأعرض على الحسين أن يبايع هو ومن معه لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية، فإذا فعلوا ذلك رأينا رأينا‏.‏ وجعل أصحاب عمر بن سعد يمنعون أصحاب الحسين من الماء، وعلى سرية منهم عمرو بن الحجاج، فدعا عليهم بالعطش فمات هذا الرجل من شدة العطش‏.
فقال لهم الحر بن يزيد‏:‏ ويحكم منعتم الحسين ونساءه وبناته الماء الفرات الذي يشرب منه اليهود والنصارى، ويتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه، فهو كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً‏.‏ 
 ولما تلكأ عمر بن سعد في قتال الحسين كتب إليه ابن زياد يتهدده على توانيه في قتال الحسين، وأمر شمر بن ذي الجوشن إن لم يجئ بالحسين إليه أن يقاتله ومن معه.... فقال له عمر لشمر‏:‏ لا ولا كرامة لك ‏!‏ أنا أتولى ذلك‏.‏ وجعله على الرجالة ونهضوا إليهم عشية يوم الخميس التاسع من المحرم، فقام شمر بن ذي الجوشن، فقال‏:‏ أين بنو أختنا‏؟‏ 
وأوصى الحسين في هذه الليلة إلى أهله، وخطب أصحابه في أول الليل، وقال لأصحابه‏:‏ من أحب أن ينصرف إلى أهله في ليلته هذه فقد أذنت له فإن القوم إنما يريدونني‏.‏ثم خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يدنوا بيوتهم بعضاً من بعض حتى تدخل الأطناب بعضها في بعض، وأن لا يجعلوا للعدو مخلصاً إليهم إلا من جهة واحدة، وتكون البيوت عن أيمانهم وعن شمائلهم، ومن ورائهم‏.‏ وبات الحسين وأصحابه طول ليلهم يصلون ويستغفرون ويدعون ويتضرعون، وخيول حرس عدوهم تدور من ورائهم، عليها عزرة بن قيس الأحمسي.
 فلما صلى عمر بن سعد الصبح بأصحابه يوم الجمعة‏.‏ وقيل‏:‏ يوم السبت -وكان يوم عاشوراء - انتصب للقتال‏.‏ ‏وصلى الحسين أيضاً بأصحابه وهم اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً، ثم انصرف فصفّهم فجعل على ميمنته زهير بن القين، وعلى الميسرة حبيب بن المطهر، وأعطى رايته العباس بن علي أخاه، وجعلوا البيوت بما فيها من الحرم وراء ظهورهم‏.‏ 
وجعل عمر بن سعد على ميمنته عمرو بن الحجاج الزبيدي، وعلى الميسرة شمر بن ذي الجوشن - واسم ذي الجوشن شرحبيل بن الأعور بن عمرو بن معاوية من بني الضباب بن كلاب - وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجالة شبيث بن ربعي‏.‏ 
وأعطى الراية لوردان مولاه، وتواقف الناس في ذلك الموضع‏.‏ ثم ركب الحسين على فرسه وأخذ مصحفاً فوضعه بين يديه، ثم استقبل القوم رافعاً يديه يدعو بما تقدم ذكره‏:‏ اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة إلى آخره‏.‏ قال‏:‏ فتقدم عمر بن سعد وقال لمولاه‏:‏ يا دريد أدن رايتك، فأدناها، ثم شمر عمر عن ساعده ورمى بسهم وقال‏:‏ اشهدوا أني أول من رمى القوم‏.‏ فقال الحسين: هل يصلح لكم قتال مثلي، وأنا ابن بنت نبيكم، وليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيري‏؟‏ وعلي أبي، وجعفر ذو الجناحين عمي، وحمزة سيد الشهداء عم أبي‏؟‏ وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأخي‏:‏ ‏‏هذان سيدا شباب أهل الجنة‏.
 وجاء شمر بن ذي الجوشن قبحه الله إلى فسطاط الحسين فطعنه برمحه - يعني‏:‏ الفسطاط - وقال‏:‏ إيتوني بالنار لأحرقه على من فيه، فصاحت النسوة وخرجن منه‏. فحملت الرجال من كل جانب على الحسين، وضربه زرعة بن شريك التميمي على كتفه اليسرى، وضرب على عاتقه، ثم انصرفوا عنه وهو ينوء ويكبو، ثم جاء إليه سنان بن أبي عمرو بن أنس النخعي فطعنه بالرمح فوقع، ثم نزل فذبحه وحز رأسه، ثم دفع رأسه إلى خولي بن يزيد‏.‏ وقيل‏:‏ إن الذي قتله شمر بن ذي الجوشن‏.‏ وقيل‏:‏ رجل من مذحج‏.‏ وقيل‏:‏ عمرو بن سعد بن أبي وقاص، وليس بشيء، وإنما كان عمر أمير السرية التي قتلت الحسين فقط‏.‏ والأول أشهر‏.‏ قال‏:‏ ودنا عمر بن سعد من الحسين، فقالت له زينب‏:‏ يا عمر أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر‏؟‏ فبكى وصرف وجهه عنها‏.‏
وعن الحسن البصري أنه قال‏:‏ قتل مع الحسين ستة عشر رجلاً كلهم من أهل بيته ما على وجه الأرض يومئذٍ لهم شبه‏.‏ وقال غيره‏:‏ قتل معه من ولده إخوته، وأهل بيته ثلاثة وعشرون رجلاً‏.‏ فمن أولاد علي رضي الله عنه‏:‏ جعفر، والحسين، والعباس، ومحمد، وعثمان، وأبو بكر‏. وممن قتل مع الحسين بكربلاء، أخوه من الرضاعة عبد الله بن بقطر، وقد قيل‏:‏ إنه قتل قبل ذلك حيث بعث معه كتاباً إلى أهل الكوفة، فحمل إلى ابن زياد فقتله، وقتل من أهل الكوفة من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون رجلاً سوى الجرحى، فصلى عليهم عمر بن سعد ودفنهم‏.‏ 
ويقال‏:‏ إن عمر بن سعد أمر عشرة فرسان فداسوا الحسين بحوافر خيولهم حتى ألصقوه بالأرض يوم المعركة، وأمر برأسه أن يحمل من يومه إلى ابن زياد مع خولي بن يزيد الأصبحي، فلما انتهى به إلى القصر وجده مغلقاً، فرجع به إلى منزله فوضعه تحت إجانة، وقال لامرأته نوار بنت مالك‏:‏ جئتك بعز الدهر‏. ويقال‏:‏ إنه كان معه رؤوس بقية أصحابه، وهو المشهور، ومجموعها اثنان وسبعون رأساً، وذلك أنه ما قتل قتيل إلا احتزوا رأسه وحملوه إلى ابن زياد، ثم بعث بها ابن زياد إلى يزيد بن معاوية إلى الشام‏.‏ 
قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسين، ثنا جرير، عن محمد، عن أنس قال‏:‏ أتى عبيد الله بن زياد برأس الحسين فجعل في طست فجعل ينكت عليه، وقال في حسنه شيئاً، فقال أنس‏:‏ إنه كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مخضوباً بالوشمة‏‏‏ (انظر: البداية والنهاية لابن كثير، المجلد الثامن، النص منقول بتصرف نظرا لطوله، كذلك يمكنك مراجعة سير أعلام النبلاء ترجمة مقتل الحسين).
وبهذه المعارك والمذابح والقتل والتمثيل والتشريد بين الصحابة وكبار التابعين تصبح مقولة أفضلية القرون الثلاثة ونظرية حتمية التدهور التاريخي محل نظر ونقد، وقد وصف ابن تيمية مقتل عثمان ومعركة كربلاء ومقتل الحسن من أعظم أسباب الفتن في الأمة، فقال: وكان قتله من المصائب العظيمة؛ فإن قتل الحسين، وقتل عثمان قبله: كانا من أعظم أسباب الفتن في هذه الأمة وقتلتهما من شرار الخلق عند الله. (مجموع الفتاوى المجلد الثالث).

  • سادسا: مقاربة لاستباحة مدينة الرسول

بعد جز وحز رأس ابن النبي وأبناء الصحابة وكبار التابعين من أجل تثبيت ولاية يزيد بن معاوية تمرد أهل المدينة على يزيد وخلعوا بيعته (عام 63 هجريا)، فكانت وقعة الحرة الشرقية الشهيرة والتي استباح فيها جيش يزيد بقيادة مسلم بن عقبة ( وهو ممن أدرك النبي، انظر تمييز الصحابة) المدينة لمدة ثلاثة أيام حيث انتهكت فيها المحارم وأريقت فيها دماء المهاجرين والأنصار وأبنائهم، وبلغ عدد قتلى أهل المدينة على يدي مسلمي الشام ما يقرب من ألفي قتيل. ذكر الزرقاني شارح موطأ مالك أن يوم الحرة كانت به الوقعة بين أهلها وبين عسكر يزيد بن معاوية وهو سبع وعشرون ألف فارس وخمسة عشر ألف راجل سنة ثلاث وستين بسبب خلع أهل المدينة يزيد وولوا على قريش عبد الله بن مطيع وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة وأخرجوا عامل يزيد عثمان بن محمد بن أبي سفيان من بين أظهرهم فأباح مسلم بن عقبة أمير جيش يزيد المدينة ثلاثة أيام يقتلون ويأخذون النهب ووقعوا على النساء حتى قيل حملت في تلك الأيام ألف امرأة زوج وافتض فيها ألف عذراء وبلغت القتلى من وجوه الناس سبعمائة من قريش والأنصار ومن الموالي وغيرهم من نساء وصبيان وعبيد عشرة آلاف وقيل قتل من القراء سبعمائة ثم أخذ عقبة عليهم البيعة ليزيد على أنهم عبيده إن شاء عتق وإن شاء قتل وفي البخاري عن سعيد بن المسيب أن هذه الوقعة لم تبق من أصحاب الحديبية أحدا .. ( انظر المجلد الثالث للزقاني).
وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء، قال المدائني توجه إليهم مسلم بن عقبة في اثني عشر ألفا وأنفق فيهم يزيد في الرجل أربعين دينارا. فقال له النعمان بن بشير: وجهني أكفك. قال: لا ليس لهم إلا هذا الغشمة، والله لا أقيلهم بعد إحساني إليهم وعفوي عنهم مرة بعد مرة. فقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين في عشيرتك وأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلمه عبد الله بن جعفر. فقال: إن رجعوا فلا سبيل عليهم فادعهم يا مسلم ثلاثا، وامض إلى الملحد ابن الزبير. قال: واستوصي بعلي بن الحسين خيرا. وعن جرير عن الحسن قال: والله ما كاد ينجو منهم أحد لقد قتل ولدا زينب بنت أم سلمة، قال مغيرة بن مقسم أنهب مسرف بن عقبة المدينة ثلاثا وافتض بها ألف عذراء ...
ثم قال الذهبي: ...وأصيب يومئذ عبد الله بن زيد بن عاصم حاكي وضوء النبي، ومعقل بن سنان، ومحمد بن أبي بن كعب وعدة من أولاد كبراء الصحابة وقتل جماعة صبرا. وعن مالك بن أنس قال قتل يوم الحرة من حملة القرآن سبع مئة، قلت فلما جرت هذه الكائنة اشتد بغض الناس ليزيد مع فعله بالحسين وآله ومع قلة دينه فخرج عليه أبو بلال مرداس به أدية الحنظلي وخرج نافع بن الأزرق وخرج طواف السدوسي فما أمهله الله وهلك بعد نيف وسبعين يوما ... (انظر :سير أعلام النبلاء للذهبي المجلد الثالث)
وذكر ابن تيمية استباحة المدينة في مجموع الفتاوى، وفي المسائل والأجوبة وهذا نص عبارته في المسائل، قال: ...ولكن لم يقتل قتلة الحسين، ولم ينتقم منهم، فهذا مما أنكر على يزيد، كما أنكر عليه مافعل بأهل الحرة لما نكثوا بيعته، فإنه أمر بعد القدرة عليهم بإباحة المدينة ثلاثا.
كذلك جاء ذكر استباحة المدينة في فتح الباري وغيره من المدونات السلفية، قال ابن حجر في المجلد الثامن: قوله حدثنا إسماعيل بن عبد الله؛ هو بن أبي أويس. وقوله حدثني عبد الله بن الفضل أي بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي تابعي صغير مدني ثقة ما له في البخاري عن أنس إلا هذا الحديث، وهو من أقران موسى بن عقبة الراوي عنه قوله حزنت على من أصيب بالحرة هو بكسر الزاي من الحزن، زاد الإسماعيلي من طريق محمد بن فليح عن موسى بن عقبة من قومي وكانت وقعة الحرة في سنة ثلاث وستين، وسببها أن أهل المدينة خلعوا بيعة يزيد بن معاوية لما بلغهم ما يتعمده من الفساد، فأمر الأنصار عليهم عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر، وأمر المهاجرون عليهم عبد الله بن مطيع العدوي. وأرسل إليهم يزيد من معاوية مسلم بن عقبة المري في جيش كثير فهزمهم واستباحوا المدينة وقتلوا بن حنظلة وقتل من الأنصار شيء كثير جدا... (انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر).
وذكر المجد وابن الجوزي وغيرهما أن الرجل من أهل المدينة كان بعد تلك الواقعة المريرة إذا زوج ابنته لا يضمن بكارتها ويقول: لعلها افتضت في وقعة الحرة. قال السمهودي: ذكر المجد وغيره إنهم سبوا الذرية واستباحوا الفروج وإنه كان يقال لأولئك الأولاد من النساء اللاتي حملن أولاد الحرة. ولابن الجوزي عن هشام أبن حسان ولدت بعد الحرة ألف امرأة من غير زوج وممن قتل من الصحابة يومئذ صبرا عبد الله أبن حنظلة الغسيل مع ثمانية من بنيه، وعبد الله بن زيد حاكى وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، ومعقل بن سنان الأشجعي، وكان شهد فتح مكة وكان معه راية قومه وفيه يقول شاعرهم: ألا تلكموا الأنصار تبكي سراتها ... وأشجع تبكي معقل بن سنان ( انظر:خلاصة الوفاء بأخبار دار المصطفى لنور الدين علي بن عبد الله السمهودي، تحقيق د: محمد الأمين الجكني، كذلك البداية والنهاية لابن كثير).
تأمل ... سبوا الذرية .... واستباحوا الفروج... وانتهبوا الأموال... وقتلوا الرجال والصبيان... يبدو أننا أمام جريمة حرب مركبة، فاعتداء على الحرمات، وانتهاك للمقدسات، وتدمير للممتلكات، وإفساد للحرث والنسل، باختصار (هولوكوست المسلمين). وللأسف أن هذه الجرائم البشعة لم ترتكب بأيدي النازية ولكنها ارتكبت بأيدي الجيل الأول، ودارت رحاها باسم الدين وطاعة ولي أمر المسلمين !! 

  • سابعا: مقاربة لحرق الكعبة

وبعد استباحة المدينة من أجل تثبيت شرعية سلطة يزيد الوراثية الكسروية خلع عبد الله بن الزبير ولاية يزيد ودعاء إلى إقامة خلافة حجازية في مكة بقيادته، فأمر يزيد قائد جيشه مسلم بن عقبة بعد الانتهاء من المدينة أن يتوجه إلى مكة ومحاصرتها والقضاء على ابن الزبير، وبعد موت قائد الجيش الأموي مسلم بن عقبة وهو في طريقه إلى مكة تولى قيادة الجيش بعده الحصين بن نمير فقام بمحاصرة مكة ورمي الكعبة بالمنجنيق وحرق سقفها (انظر: البداية والنهاية لابن كثير، وتاريخ الطبري) .
ويبدو أن موت يزيد بن معاوية وقت حصار مكة كان سببا رئيسا وراء عدم استباحة الحصين بن نمير نائب مسلم بن عقبة مكة كما استباح مسلم بن عقبة المدينة بجيشه، وذلك لأنهما قادا عملية استباحة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ناحية القرار والتنفيذ !!
وحقيقة أن الكعبة قبلة المسلمين والمقدس المتفق عليه عند المسلمين باختلاف طوائفهم ومذاهبهم لم تسلم من الاعتداء عليها بالهدم والتحريق، من أجل السلطان وتثبيت سلطة البيوتات الحاكمة، فبعد رميها وحرقها على يد بن نمير قائد يزيد، رمها وحرقها الحجاج قائد عبد الملك بن مروان، ومعلوم أن موت يزيد كان في (عام 64هـ)، وتولي بعده الخلافة عبد الملك بن مروان (عام65ه)، وفي (عام73هـ) قرر ابن مروان القضاء على خصمه اللدود عبد الله بن الزبير خليفة الحجاز، فأرسل إليه الحجاج ابن يوسف في جيش ضخم، حيث حاصر الحجاج مكة اشهرا لإجبار الناس على التخلي عن ابن الزبير،ثم بدأ بقصف الكعبة بالمنجنيق من أعلى جبال مكة كجبل أبي قبيس، وقعيقان وغيرهما. وانتهت المعركة بصلب ابن الزبير وقتل الكم الكبير من رجاله ومؤيديه والتمكين لسلطان بني أموية.
وهكذا توالت الحروب في القرن الأول وبداية القرن الثاني بين الأمويين والعباسيين، واندلعت حروب طاحنة بين السنة والشيعة، وبين الخوارج والسنة. كذلك ظهرت في القرن الأول وبداية القرن الثاني جل الفرق والمذاهب والطوائف الإسلامية والتي شبت بينها المعارك والحروب العقدية والفكرية، وبالتالي انتشرت روح التكفير والاقصاء والطائفية والتشرذم في جسم الأمة المنهوكة، ولا زالت تداعيات تلك الحقبة المسماة بالخيرية والموسومة بالأفضلية تنخر في نسيج الأمة العاطفية بالتمزيق والتناحر والتشرذم، وتقف عائقا أمام محاولة فهم النص المؤسس وعقلنة التاريخ بغية الانفكاك من سلطة التاريخ وبالتالي المشاركة مع الأمم المتقدمة في تشكيل الحضارة الإنسانية القائمة.

خلاصة المقاربة
يبدو أن حادثة السقيفة ومقتل عثمان قد فسحتا المجال لما تلاها من الفتن والحروب الداخلية التي أودت بكيان المسلمين ووحدتهم، ومهدت إلى قيام عقائد وإسلامات متعددة داخل الدين الواحد، فثمة إسلام سني ، وشيعي، وخارجي، واعتزالي، وصوفي، وفلسفي، وعربي، وفارسي، وتركي، وهلم جرا .
مما يثير الاستغراب أن شبكة المفاهيم الإستراتيجية التي يقترحها رجالات الإسلام التاريخي كعقيدة راسخة كلها مستوحاة من منطق الصراع والاحتراب والتدافع بين جيل القرن الأول، ومن تلك المفاهيم الإستراتيجية مفهوم عدالة الصحابة، ومفهوم عصمة الأئمة، ومفهوم عصمة القرون الثلاثة، ومفهوم لا تجتمع أمتي على ضلالة، ومفهوم لن يصلح حال الأمة إلا بما صلح بها أولها، ومفهوم الاعتقاد بحتمية التدهور التاريخي؛ لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشر منه ....وغير ذلك من المفاهيم الإستراتيجية المشهورة في الفكر الديني ومقررة عند العامة فضلا عن الخاصة.
ولعل نظرة سريعة إلى المفهوم الاستراتيجي المحفوظ لدى الجميع والمكرور على كل المنابر وفي جميع المناسبات؛ وهو الاعتقاد بخيرية القرون الثلاثة( خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) وبالتالي الاعتقاد بـ(حتمية التدهور التاريخي). أقول الوقوف على هذا المفهوم بعقلانية نقدية تعتبر السياق التاريخي والمساق الثقافي والسياسي والتدافعي تجعل مكونات هذا المفهوم كمفهوم اعتقادي في مهب الريح من حيث عدم صموده أمام وقائع تاريخية الجيل الأول الموسوم بالخيرية وذلك على مستوى الوقائع السياسية، وعلى صعيد القيم الأخلاقية الفردية والجمعية، ناهيك عن مستوى الإنتاج المعرفي. وهذا لا يمنع من وجود أناس في القرون الثلاثة من ذوي الأخلاق الرفيعة والإيمان الراقي ولكن المعروف عرفا بأن الأحكام تبنى على الغالب الأعم وليست على النادر اليسير.
فإذا كان هذا الاعتقاد والمفهوم الاستراتيجي لا يمكنه الصمود والتماسك من خلال الوقائع التاريخية كما جاء في هذه الدراسة، فإنه لا يمكنه البتة المنافسة والتميز أمام العقل الإنساني ومنتجاته الحديثة سواء في الفكر السياسي من تداول السلطة، ومحاسبتها، وإقالتها، وحقوق المعارضة، وحق المرأة في تولي السلطة. أو في الجانب الدستوري والقانوني حيث القوانين التي تحمي الحريات العامة، وتحفظ للإنسان حقوقه ومقدساته من الهدر والاستخفاف والتدمير؛ كحرية الاعتقاد، وحرية التعبير، وحماية الأطفال، وحقوق النساء، وحقوق العمال وما شاكل ذلك من قوانين تعد معلم من معالم منتجات العقل الإنساني الحديث. أما إذا ولينا وجوهنا صوب منتجات الحداثة في الجانب الفلسفي والمعرفي من نظريات وتكلونوجيا مقارنة بمنتجات الفكر الإسلامي في القديم والحديث فتصبح المقارنة يصدق عليها العبارة المشهورة ( القياس مع الفارق)!!
ولا يفوتني التأكيد على أن الفكر الإنساني المعاصر قد مر بذات التجربة التي مر بها الفكر الإسلامي منذ بدايته من قتال وحروب أسرية استخدم فيها الدين كمطية لتثبيت السلطة السياسية، كذلك مر بعملية توريث السلطة ومنع المعارضين وقتلهم، أيضا تبنى ازدراء المرأة وحرمانها من حقوقها الخاصة والعامة باسم الدين، ويقال كذلك في مسرح صراعات رجال الدين ورجال العلم، ولكنه –العقل الإنساني المعاصر- استطاع بقراءة نقدية متقدمة التخلص من سطوة الماضي وتقديسه، مع الاستفادة من تجارب ومصائب الماضي، والعكوف على فهم الحاضر ومتطلباته وكيفية إعادة تشكيله وفق منظومة الحقوق والواجبات والحريات، بغية استشراف مستقبل أفضل للإنسان والحيوان والكون، ولعل في نموذج الاتحاد الأوروبي بمؤسساته السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية خير دليل على تخلصه من سلطة الماضي، وسطوة تجارب الأسلاف، وتوظيف الدين في السياسة والشأن العام. ولكن للأسف الشديد أن العقل المسلم لم يقرأ الماضي كموضوع للقراءة والنقد، ولم يفصله عن ذاته، وإنما تلقاه كمقدس ينبغي قبوله ومحاكمة حاضره من خلال وقائعه ومقولاته، حتى صار المسلم المعاصر ليس له حاضر لأنه امتداد لماضي لم ينقطع؛ فصانعي الماضي هم الذين يديرون حاضرنا ويشكلون مستقبلنا .
ويبدو لي أن هذه الروايات والأحاديث تم إعدادها وإخراجها وتنسيبها للرسول بعد استقرار الدولة العباسية والتي كانت بحاجة إلى سلطة تاريخية تستخدمها كسيف تضرب به خصومها من المتمردين على سلطانها، وهذا ليس بغريب على أنظمة جاءت بفضل تلك المعاركة الضارية التي أزهقت فيها أرواح غفيرة من المسلمين من الصحابة وأبنائهم وكبار التابعين، علما بأن دولة بني أمية في تثبيت سلطانها قد سبقت دولة بني عباس في توظيفها للخطاب الديني لصالح مصالحها السياسية حيث استخدمت روايات وأحاديث عن أبي هريرة بمثابة جهاز إعلامي رسمي، كذلك فعلت دولة بني عباس حين استعملت روايات منسوبة لجدهم ابن عباس كجهاز إعلامي لثبيت سلطتها وملكها وسحق معارضيها.
ومن هنا، فإن المتلقي لهذه الروايات بمعزل عن استنطاق تاريخيتها وفهما عبر سياقاتها التاريخية ومساقاتها السياسية والثقافية والاجتماعية يقع في شباك سلطة التاريخ وتاريخ السلطة ويصبح أسيرا للماضي الذي يمنعه بالوازع الديني من النهوض بحاضره ورسم مستقبله فيصبح الماضي هو الحاضر بل والمستقبل، ويردد حينئذ شعار العقل التمجيد المفضل (لا يصلح هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها) ، وهو لا يدري أن صلاح أولها – كما مر في ثنايا الدراسة – لم يكن إلا بإراقة الدماء، وانتهاك المقدسات، واستباحة المحارم!!
واللافت للنظر أن العقل التمجيدي تلقى مفهوم خيرية القرن الأول كمفهوم استراتيجي عقدي بالمنطق التسليمي الكهنوتي (= إقرار وإمرار) دون محاولة استعمال العقل ومنطق النقد في إمكانية إعادة النظر في مكونات وسياقات انتاج هذه الروايات والمفاهيم. وأحسب أن عدم محاولة استخدام العقل وطرائق البحث العلمي الحر في المفاهيم الإستراتيجية التي ترسخت بمنطق الطقوس والتكرار (= إذا تكرر تقرر)، يعود إلى أن إعادة النظر في هكذا مفاهيم ومسلمات يثير حزمة من الأسئلة والإشكالات المنطقية على صدقية وصوابية تلك المسلمات، وعلى الرغم من أن هذه الأسئلة تبدو منطقية وعقلانية إلا أنها في الوقت ذاته تعتبر من الأسئلة المحرمة والمجرمة عند العقل التمجيد الإحالي. ومن هذه الإشكاليات، سؤال حول حقيقة حفظ الله للذكر (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له حافظون)، فهل الحفظ يراد به حفظ الحروف، أم المعاني، أم صوابية التطبيق، أم ماذا، لأن ما دار بين الصحابة في حادثة السقيفة وبعدها من مقتل عثمان، وقتال أصحاب الجمل والصفين، وما تابع ذلك من استباحة المدينة، وحرق الكعبة، واستباحة دماء آل بيت رسول الله في كربلاء، كل هذه الوقائع تشير إلى أن معاني الوحي، وصوابية التطبيق قد أهدرت على أيدي من تنزل عليهم الذكر، فما بقى إلا حفظ حروف الذكر، وأحسب أن حفظ حروفه لم يكن المقصد الأصلي من قوله (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). 
والإشكال الثاني، أين أثار التربية النبوية في ذلك الجيل؟ أين البعد الإيماني والأخوي من تلك الأحاديث؟ يدور حول آثار التربية النبوية ومدى رسوخ البعد الإيماني والأخوي في نفوس الصحابة، بمعنى أخر هل استطاع النبي في فترة وجيزة عمرها (23) من تغيير عادات وأنساق المجتمع العربي؟ وهل الصحابي الذي عاش عمرا مديدا في أنساق وأعراف مجتمع تربى على السيف والغزوات والقتل ومنطق السادة ومفهوم الرجولة قد تغير في بضعة أعوام نحو قيم الوحي الإنسانية؟ علما بأن سنن الاجتماع تضع شروطا في تغير الأنساق الاجتماعية والعقدية والثقافية لمجتمع ما، منها تبديل منهج التفكير والتعليم، ووسائل التعامل مع الأحداث والواقع، وطرق الإنتاج وأدواته، والقدرة على إنتاج الثقافة وصياغة الفكر والسلوك. ولعل هذا لم يحدث في عهد النبوة إلا لشريحة صغيرة مقربة من رسول الله والتي نالت القسط الأكبر من الرعاية والاهتمام، أما القطاع الأكبر ظل محتفظا بأنساقه وعاداتها الأولى، وهو ما تشير إليها تلك الوقائع التاريخية المريرة التي دارت رحاها بين الصحابة.
وثمة إشكال آخر، مفاده، إذا كان القتال والمنازعة السياسة دارت فصولها بين الصحابة الذين بايعوا بيعة الرضوان، فالسؤال الإشكالي يدور حول المفهوم القرآني للترضي (لقد رضي الله عن المؤمنين إذا يبايعونك تحت الشجرة)، فهل الرضى الإلهي قائم حتى بعد القتال والاحتراب، أما هو مؤقت بتلك الحادثة؟ علما بأن هنالك روايات تشير إلى ارتداد الصحابة كما جاء في حديث الحوض عند البخاري ومسلم، ذكر البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنكم تحشرون حفاة عراة غرلا، ثم قرأ: كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين. وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم وإن أناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول أصحابي أصحابي. فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم. فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيدا مادمت فيهم........إلى قوله الحكيم .(البخاري) وفي رواية مسلم ذكر فيها الصياغة التالية...............فأقول يا رب أصحابي أصحابي فيقال إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك.
ولا يخفى أن هذا الإشكال بدوره يطرح إشكالات عدة حول مفهوم عدالة الصحابة، ومفهوم الإجماع، ومفهوم عصمة السلف، ومفهوم عصمة الأئمة، ومفهوم الإمام الغائب، ومفهوم لا تجتمع أمتي على ضلالة، وأحسب أن هذه المفاهيم تعد من المفاهيم الإستراتيجية العقدية في الفكر الديني السني و الشيعي، وإعادة النظر فيها يعني الكثير الكثير أولها التمرد على سلطة التاريخ، وسطوة الأسلاف، والانتقال من الماضي إلى الحاضر، ومن الحشوية إلى المنطقية، ومن الميثولوجيا إلى العقلانية.
وعلى الرغم من منطقية هذه الإشكاليات والاستفهامات إلا أن الذين يعانون من عقد تبرئة القرون الثلاثة المسماة بالخيرية والأفضلية يحرمون أنفسهم من معرفة الحقيقة، ويشوهون قيم الوحي من حيث لا يدركون، حيث يتوهم هؤلاء أن تلك القرون الثلاثة جزء لا يتجزأ من الإسلام وأن رسول الله قد زكاها واثبت سلطتها. ومن هنا يقع هؤلاء الذين يعانون عقد التبرئة تحت سلطة السلف وسلطة الأموات الأحياء فينا، لأن التاريخ ليس مجرد أحداث ميتة طويت صفحتها، بل أحداث تمتد آثارها لتتجاوز عصره، وتلعب دورا في صياغة فكر أجيال وسلوكها لم تعاصر تلك الأحداث.
إن نظرة عقلانية نقدية موضوعية لتلك الأحداث التاريخية التي مزقت كيان الأمة وشرذمت وحداتها إلى سنة وشيعة وخوارج ومعتزلة، والتي لا تزال حاضرة في المشهد الديني الإسلامي المعاصر. إن تلك النظرة تتطلب منا رفض سلطة الأموات الأحياء فينا، على الرغم من اندثار أولئك الفاعلين في تلك الأحداث بيولوجيا إلا أنهم يمارسون سلطتهم علينا أكثر من الأحياء ممن بيننا، فدم الحسين لازال يسيل دماء ودموع أتباعه إلى يومنا هذا، وبيعة السقيفة وما تلاها من بيعات لازال يدعى إليها من فوق منابر خطب الجمعة، ولا زال قبولها والرضى بها المدخل الأساسي لبيت أهل السنة والجماعة، ورفضها لا زال العنوان والوصمة الجاهزة بالرافضية والشيعية !!
وهكذا تبدو صورة القرن الأول. فلم تكن كالصورة الوردية التي يقدمها خطباء المذاهب الإسلامية، فهي بشرية بكل مكونات النفس الإنسانية من نوازع الخير والشر، وحب السلطة والتملك، حيث كان تعاطيهم مع قيم الوحي بنفوس كانت في حالات احتراب وتدافع سياسي بل وقبلي وجهوي، وبهذه النفوس وتلك المكونات الإنسانية تأسس في الفكر الديني بما يمكن تسميته بالإسلام المؤول وهو بالضرورة غير الاسلام المنزل المطلق من إكراهات البيئة والتدافع البشري، يعني أن ثمة نصوص ونفوس؛ نصوص قيمية ونفوس إنسانية، نصوص سماوية ونفوس طينية، نصوص معيارية فوقية لا تتأثر ببعدي الزمان والمكان الجغرافية والتاريخ، ونفوس متأثر ومتشكل أصلا بالمكان والزمان؛ ثقافيا وسياسيا واجتماعيا وسلوكيا، ولعل التاريخ حجة، ووقائعه سندا، وأحداثه دليلا على أننا أمام مفاهيم وعقائد كانت نتائج( الإسلام المؤول) وليست من منتجات (الإسلام المنزل).
ومن تلك الفترة، فترة تطويع النفوس للنصوص بدأت ظاهرة التوظيف الديني لصالح السياسة والقوميات والجهويات والاثنيات والطائفية، فكان ذلك التشرذم والتمزق والاحتراب والاقتتال بين المسلمين إلى يومنا هذا ؛ انظر إلى ما يجرى في الصومال، واليمن، وباكستان، والسودان، وأفغانستان، وفلسطين، والعراق، وإيران. على الرغم من أن قيم الوحي المعيارية تقرر قيم حرمة الإنسان في ذاته بعيدا عن معتقده ولونه وعرقه ( ... من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحياء الناس جميعا)،( ولقد كرمنا بني آدم) لدرجة أن حرمة الإنسان أعظم عند الله من حرمة الأماكن المقدسة كالكعبة كما جاء بن عمر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك، وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه (ابن ماجة)، ولكن الإسلام المؤول منذ القرن الأول لم يبق على شيء من ذلك، فقد أراق دماء المسلمين من صحابة وتابعين، ورمى الكعبة حتى احترقت وهدمت منها أجزاء، واستباح مدينة رسول الله بكل معاني الاستباحة والاجتياح العسكري. 
فهل أن الأوان للتخلص من تلك الإكراهات التاريخية، وسلطة السلف، وسطوة الماضي، والخروج من حالات التخلف إلى مساحات قيم الوحي الإنسانية التي تتقاطع مع منتجات الحضارة التي تحترم الإنسان والأديان والأوطان؟!!
www.a-znaqd.com 

هناك تعليق واحد:

  1. بالرغم من التضخيم والتهويل و الاجتزاء الذي تميز به المقال في نقل الأحداث التي تسيء للقرون الثلاثة الأولى حتى لو نقلنا أخبار تصلح لإضحاك الصبيان مثل أن تم إيقاد النار في شعر مالك إبن نويرة ونضج العشاء ولم يحترق كل شعره!!!!!!!!!!!!!!!! فهذا خبر لا يصلح حتى لإفلام الكرتون اليابيانية ما علينا لو سلمنا بشيطنة هاؤلاء الناس بهذه الصورة التي ذكرت وهي صورة مفبركة ومجتزئة . فإلى ماذا يدعو الكاتب وماهو بديله ؟ فهو يقول مرة في وسط المقال وأعاد فكرته المركزية في أخر سطر في المقال تعلوا للنخرط مع الأمم المتقدمة ومنتجاتها الحضارية التي تحترم الانسان فيا مفكرنا العظيم فانت تقصد لا محالة منتجات عصر "التنوير" الأروبي الثورة الفرنسية "مبدعة القيم الانساية والمتنورة" وحضارة الرجل الأبيض وتفوق العنصر الانقلوساكسنوي منذ 400 سنة. أنا أستسمحك لأن نتقارن حجم الفضائع التي ذكرتها في القرون الثلاثة مع ما حصل في الثورة الفرنسية كم عدد الأرواح التي زهقت كم عدد الرهبان الذين تم ذبحهم في الأديرة هذه حقوق الانسان هذا إحترام المعتقدات وماذتلاى من إجتياح نابليون لأروبا والحروب الطاحنة التي خاضها ومئات آلات القتلى وبعد ذلك ألم تنتج الأمم المتقدمة الاستعمار البغيض لنهب ثروات باقي الدول هل تريدنا أن نتحدث عن بشاعة الاستعمار والاسترقاق و الاستعباد الذي تم للشعوب المستعمرة فقط أحيلك ل100.000 قتيل في تونس و مليون شهيد الجزائر فيا لها من حقوق إنسان وياله من إحترام الاديان . ودعنا من هذا وسوف لن نقف عند الحرب الاولى والويلات المدمرة التي عانتها البشرية من فسق الأمم المتحضرة التي تدعو غليها ولنذهب للحرب الثانية هل تذكر رقم القتلى من لروسيا فقط أذكرك إذا نسيت 10 مليون رجل مابين 20 و35 سنة تم قتلهم في روسيا وحدها على تعلم عدد النساء الذين تم إغتصابهم في برلين وحدها عند إجتياح الروس لهم فقط 500.000 إمرة مابين 7 سنوات وسبعين سنة فيا لها من أمم متقدمة ويالها من حقوق إنسان وياله من إحترام الاديان. وهل تريد أن نمر لجريمة الجرائم التي إتركبتها أمريكا في اليابان وجرائمهم في الفيتنام وضحايا الحرب الكورية و ضحايا الحرب الكبودية فيا لها من حقوق إنسان و يالها من أمم متقدمة فضائعها تقشعر منها الأبدان وعدني أضف مثالا آخر وهذه فلسطين جرح الجراح لقد قامت الأمة المتقدمة و الانسانية جدا بالتفويت في أرض بشعبها لشعب آر بكل إنساية وتحضر وما عليك إلى أن تصفق إعجابا لوعد بلفور وماساة الانسان الفلسطيني فيالها من حقوق إنسان ويالها من حرمة أديان أن انك تثمن تقطيع أوصالنا وتمزيقنا شر ممزق في هذه الكيانات القطرية في معاهدة سايسبيكو حيث تفضلت الدول المتقدمة بأن تنوبنا في تقرير مصيرنا وتصنع لدويلات حسب ما تراه صالحا فيالها من حقوق إنسان وياله من احترام أديان و تلومنا اننا لم ننخرط معهم في بناء حضارة قتل الإنسان نعم إن الرجل الأبيض ملون العينين قتل الانسان نعم لقد مات الانسان ولكن لم يتقله صحابة رسول الله وتابعيهم ولكن قتلته الأمم المتقدمة التي تدعونا للنخرط معهم المأتم الكبير وهو موت الانسان ولابد من نتانق ونتجمل لكي نحضر هذا الماتم فالانسان مهم جدا لدى الأمم المتقدمة

    ردحذف

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.