03 سبتمبر 2011

الكنائس والحراك الثوري في سوريا... عزالدّين عناية

عوّدتنا الآية الإنجيلية الشائعة على الألسن "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله" على استبطان حكم مسبق على دور الدين والمؤسسات الدينية المسيحية في الحراك السياسي. والحال أن المسألة السياسية في الفكر المسيحي، بالغة التبدل والتنوع، وفق الأوضاع الاجتماعية والظروف المحيطة. لذلك تشهد بعض الفضاءات المسيحية تطورا لافتا للاهوت السياسي وللعمل السياسي في حين يخفت في غيرها. وليست بلاد المشرق العربي بمنأى عن هذه الجدلية الشائكة بين المسيحي والسياسي، التي سنحاول النظر إليها من خلال واقع الكنائس السورية والحراك الثوري السائد.

الكنائس متعدّدة والدين واحد
عبر التاريخ المسيحي تشكّلت أربعة مراكز لاهوتية بارزة، توزّعت بين روما والقسطنطينية والإسكندرية وأنطاكية، والتفّت حول تلك المراكز مرجعيات دينية معتبرة، غير أن مركز أنطاكية شهد ما لم تشهده المراكز الأخرى، بما طرأ على مرجعيته اللاهوتية من تنافس. إذ يزعم كل من تجمّع الكنيسة الأرثوذكسية -وريث التقليد البيزنطي في العالم العربي- والكنيسة الملكانية، والكنيسة السريانية الأرثوذكسية، تمثيل ذلك المركز وحيازة رمزيته. كما يضاف إلى تلك التجمعات الأساسية تجمعان ثانويان ألا وهما التكتل السرياني الكاثوليكي والتكتل الماروني.
خمسة تجمّعات كنسية تتنافس على مدينة واحدة، رغم أنه لا يوجد مقر لإحداها في أنطاكية. إذ بعد خروج المدينة من قبضة الانتداب الفرنسي سنة 1938 ودخولها تحت سلطة الدولة التركية شهدت نزوحا لمجمل المؤسسات الكنسية وتحولا باتجاه سوريا ولبنان (1).
وعلى غرار المسيحية المشرقية المتعددة الكنائس والمرجعيات اللاهوتية، يتميز الواقع المسيحي السوري بتعدد تكتلاته الدينية أيضا. حيث تتوزع تنوعات تشكيلاته المسيحية على أحد عشر لونا لاهوتي، بعضها يزعم استقلالية تامة عن أية مؤسسة كنسية أجنبية، على غرار الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، في حين تنسج أخرى صلات مع شبكة مسكونية واسعة تتقاسم معها وحدة ليتورجية ولاهوتية، مثال الكنيسة الأرمينية، والكنيسة الآشورية، والكنيسة الكلدانية، والكنيسة الكاثوليكية، والكنيسة الأرثوذكسية، والكنيسة المارونية، والكنيسة الملكانية، والكنيسة السريانية الكاثوليكية، وبعض التجمعات البروتستانتية.
داخل هذا التنوع البارز، غالبا ما خيّم نوع من التنافس اللافت بين الكنيسة الأرثوذكسية والكنيسة السريانية الأرثوذكسية بلغ أحيانا حدّ الخصام، متعلّلة كل منهما بكثرة الأتباع وباتساع رقعة الموالين (2).
في هذا الزخم من التنوع تُقدّر أعداد أتباع تلك الديانة في سوريا بين سبعة وعشرة بالمئة من العدد الجملي للسكان، الذي بات يفوق ثلاثة وعشرين مليون نسمة.
الكنائس السورية وفتنة السلطة
قد يزعم البعض أن السوريين المسيحيين، بكنائسهم ومؤمنيهم، حظاهم النظام بمغانم ومآثر فاقت ما ينعم به نظراءهم من الإثنيات والتجمعات المذهبية والدينية الأخرى، فاشترى ذممهم وكسب ودّهم. ولكن حسب من يذهب هذا المذهب، ويحلّل الأمور على تلك الشاكلة، قول الإنجيل: "لا يعيش الإنسان بالخبز وحده" (متّى4: 4). فما تفتقده الجماعات المسيحية من مناخ ديمقراطي، هو القاسم المشترك بين كافة الشرائح المكونة لنسيج المجتمع السوري. ولذلك جاءت التحركات في سوريا محفَّزة بمطالب اجتماعية عامة، وباحثة عن معان مغايرة وروح جديدة تخترق بنية المجتمع. ذلك أن حكم حزب لشعب عقود، ممتنع عقلا فلاحه، في علم الاجتماع السياسي، ولو ضمّ لصفوفه الملايين.
لقد ولّد الواقع الاجتماعي العربي في تشكيلاته الدينية تناقضات هائلة، لعلّ أبرزها ما تعلق بأتباع الديانة المسيحية، التي بات بعض الأطراف فيها يحابي الأنظمة الدكتاتورية ويتوهّم أنه ينعم بحمايتها، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن يقف حجر عثرة أمام حركة التغيير التي تجتاح البلاد العربية. والجلي أن ذلك الموقف وذلك التصرف غير طبيعي، ولا يمكن وعيه وفهمه إلا بإدراك إلى أي حد تردّى وضع المؤسسة الدينية في الاجتماع العربي، حتى غدا العقل الإيماني عاجزا عن الإلمام الصائب بدواعي انحطاطه وانكفائه.
ففي ظل ارتباك البنية الدينية، عادة ما تكون التكتّلات العرقية والدينية الصغيرة الأكثر خشية من شوكة الدولة، وهو ما يدفع بها في غالب الأحوال إلى ريبة في التعامل مع السلطة والتعويل عليها لحمايتها، وحتى إن لم تولها السلطة حظوة فهي تسعى جاهدة للتقرّب من متنفّذيها ورموزها، لتثبت ولاءها وتبرئ ساحتها من أي لمز قد يلحق بها. لذلك تجدها عادة ما تسارع إلى مباركة خط السلطة السياسي وإظهار ولائها وإبداء طاعتها، لانبناء جوهر العلاقة بين الطرفين على الغلبة لا على الرابطة المواطنية والحقوق المتساوية. ومجمل الكنائس السورية ينطبق عليها هذا التوصيف، مع أنه يجري الحديث عن المسيحيين السوريين على أنهم تكتل متماسك، والحقيقة أن تلك الجماعات لا تعرف تآلفا بينها. يبلغ أثر حدة تلك الفُرقة بينها في قلة أعداد الزيجات وفي تدني تردد بعضهم على كنائس بعض، فضلا عن توتر علاقاتهم الاجتماعية في ما بينهم (3).
ذلك أنه في الوقت الذي تتفطن فيه التعبيرات الدينية الأقلّوية إلى تدنّي الضمانات الاجتماعية والروحية، الرابطة بين النسيج الاجتماعي، تغدو ميّالة إلى الطرف الأقوى وتتجه نحو الماسكين بزمام السلطة. وبالتالي ضمن ذلك السياق عوّلت الكنائس غير المتجذّرة في الواقع العربي، على الشراكة اللاهوتية مع حاضرة الفاتيكان علّها تفوز بنصرة من الغرب4، وعلى السلطة الداخلية أملا في حمايتها واحتضانها. ففي الجزائر، لما هزت البلد موجة من الاضطرابات في التسعينيات، لم يكن أمام الكنيسة من سبيل للنجاة سوى الاحتماء بسلطة مدعومة من العسكر، لأنه تبين لها أنه في سقوطها وانهيارها متاهتها5. واللافت أن الكنائس السورية، التي تختلف أوضاعها جذريا عن أوضاع الكنيسة في الجزائر، بصفتها كنائس أهلية وليست طارئة أو دخيلة، سارت على الشاكلة نفسها مع اندلاع الحراك الثوري في سوريا، وباتت تقرأ مآلاتها وتربط مصيرها بمصير النظام القائم، وهو مسار شائك انساقت إليه الكنيسة. ما يوحي وكأن الكنائس السورية لا تود مسايرة التحولات الاجتماعية التي تشهدها المنطقة، بل يتأكد مع كل يوم أنها غير راضية عنها، مع أنها لا تستطيع أن تقف في وجهها.
وفي هذا السياق عجزت الكنائس عن اتخاذ موقف صريح من الحراك الثوري في سوريا، ما عدا بعض التصريحات الغائمة هنا وهناك لرجالاتها، وهو أمر عائد أيضا إلى تذرّر الكنائس والمدارس اللاهوتية، التي انكفأت على التراث اللاهوتي السالف ولم تنتج فكرا لاهوتيا فاعلا وجامعا، يجاري نسق التحولات الاجتماعية العربية. إذ لم تتشكّل مدرسة لاهوتية عربية موحدة، وكل ما نجده هو بحث عن خصوصيات ليتورجية، تمتح تمايزاتها من قرارات مجمعية تخطّتها الأحداث، أو من خلافات لاهوتية ما عاد هناك مبرر لاستعادتها اليوم6. إن إشكالية الكنائس الحاضرة في البلاد العربية، التي فشلت في إنتاج وحدتها، أنها كنائس ثابتة فكريا ولاهوتيا ولا تربطها بالواقع المتحرك صلة متينة، ارتضت الحضور الشكلي ونفرت من الحضور الشاهدي في الاجتماع العربي.
هشاشة الكنيسة وغواية السلطة
ضمن دأب الأنظمة العربية على تزييف إرادة الجماهير، عودتنا نسختها المشرقية على استعمال مسيحييها بشكل ريائي، ليس في أعين شعوبها، وقد باتت لا تأبه بها ولا تعيرها وزنا، بل في أعين الغرب، الذي جعلته حسيبا رقيبا على حركاتها وسكناتها، وذلك بغرض أن تتستر على أوضاع عفنة مرّغت فيها شرائح اجتماعية برمتها، مسيحية كانت أو مسلمة. ضمن تلك اللعبة، شاركت المؤسسة الدينية سلطانها في مسرح الزيف، وانساقت إلى طريق بغيض، بعد أن خُيّل لها أنها غانمة سالمة، وهو ما قادت مآلاته إلى أن وَضَع وحشُ السلطةِ يده على رقبة تلك المؤسّسة بالكامل، وانتهى بها إلى خيار مانوي قاتل: إما معي وإما ضدّي. معي.. لتصمت وتتعامى عن عبث السيف وسفكه للدماء الطاهرة، وهي التي طالما رفعت وصية لا تقتل عاليا ونادت بالمحبة والسلام. وضدّي.. لتجد نفسها في متاهة مريبة، لم تعهدها، بعد أن سلبتها أبوّة السلطان كيانها وهويتها وإرادتها، منذ أن قرّرت زواج المقت الطوعي معه.
وفضلا عن غياب الوحدة اللاهوتية بين الكنائس السورية، حضرت المعاناة التي لحقت بمسيحيي العراق هاجسا دائما لدى المسيحيين السوريين. فجراء دعم كنائس العراق حتى اللحظة الأخيرة لنظام صدام، غدا كل متحالف معه عرضة لنقمة شعبية شرسة لما انفرط عقد الدولة7. تبدو مآلات تلك الخيارات التي انخرطت فيها الكنيسة في العراق خطيرة أيضا في الفضاء السوري، ما تمادت الكنائس السورية في التعويل على النظام والتحالف معه. فالرهان الذي تتمسك به الكنائس السورية يبدو واهيا، ذلك أن الدكتاتوريات العسكرية تعيش موسم أفولها ويخطئ من يسايرها في نهجها السياسي وخياراتها الاجتماعية.
فلا ريب أن الانتحار التاريخي الذي تسير نحوه الدكتاتوريات العربية، هو كسير المرء بساقيه إلى حتفه، يأتي نتاج بنية سياسية قهرية عفنة اشتدت بها الثورات في عام حالك، فدبّ فيها الارتجاج والتصدّع من كل جانب، وبالتالي بُنى تلك النظم ومسالكها ومؤسساتها إلى انهيار محيق أيضا. فقد تدّعي تلك الدكتاتوريات المثوبة والتوبة وتعِد بالإصلاح، لكن الحقيقة أن من بات فاسدا ومفسدا لا يرجى منه صلاح أو إصلاح.
وإن يكن ليس أشدّ فتنة على المسيحي المؤمن من وقوعه في غواية الشيطان، فبالمثل ليس أشدّ فتنة على المؤسّسة المسيحية من وقوعها في غواية السلطان. وهذه الأيام تبدو المؤسسة الكنسية القائمة في سوريا في أحلك تجاربها، فهي تعيش بالغ اختبارات الشهادة الإيمانية. فقد نسج فكر المؤسسة الدينية أَسْره منذ أن اختار محاباة القياصرة ومجافاة الناس، وهي علّة مزمنة موغلة طالما نخرت المسيحية السمحة وانحرفت بها بعيدا عمن جاء لهم الدين أصلا. حتى بات عضدُ ذلك الفكر ومرجعُه السلطة الجارحة لا الجماهير المؤمنة.
الكنيسة والموالاة الصامتة للسلطة
ساهمت عوامل متنوعة، في الاجتماع السوري، في ترسيخ شكل من التحالف الضمني مع الدولة، والحال أن تلك الظاهرة هي من السمات العامة للمؤسسات الدينية في البلاد العربية، في ظلّ غياب تحرر السوق الدينية واحتكار الدولة لكافة أنشطة الفاعلين فيها. وقد كان اتخاذ الكنيسة السورية ذلك الموقف القريب إلى الصمت منه إلى الاحتجاج عائدا بالأساس إلى عوامل محددة، تضافرت معا لتصوغ نوعا من الارتهان، وأبرز تلك العوامل تتمثل في:
  • وجود ثقافة تقليدية شائعة في الأوساط المسيحية، داخل سوريا وخارجها، تروّج إلى أنه من الأفضل للفرد المسيحي المتدين أن ينأى بنفسه عن متاهات السياسة، وأن يجاري السلطة السائدة ولا يناصبها العداء. غير أن تلك الثقافة عرفت تآكلا وتراجعا منذ ظهور لاهوت التحرر في أمريكا اللاتينية، واللاهوت الأسود في إفريقيا، واللاهوت النسوي في أمريكا وأوروبا. فالمرء أكان مسيحيا أم مسلما فهو بالأساس ابن مجتمعه، لا يستطيع أن يخرج عن شروطه. ولكن تلك الثقافة، التي أشرنا إليها، لا تزال مراعاة بقوة داخل أوساط الكهنة والرهبان وما برح التنصيص عليها والترسيخ لها ضمن ضوابط القانون الكنسي. لكن هذا لا يعني أن الكنيسة ليس لها موقف سياسي بشكل عام من الأحداث الجارية، أو من الانتخابات، أو من الاستفتاءات أو ما شابهها. فلو أخذنا الكنيسة في إيطاليا نلاحظ المشاركة الحريصة لرجال الدين في الشأن السياسي الإيطالي، علاوة على تلميحات المؤتمر الأسقفي الإيطالي للناخبين، وهو ما يأتي عادة بشكل إيحائي حتى لا تخسر الكنيسة طرفا من أطراف المجتمع.
  • منذ أن صادرت السلطة في سوريا الدينَ بكافة تعبيراته الطائفية والمذهبية وألحقته بالدولة، تحولت الكنيسة من مؤسسة اجتماعية شعبية إلى مؤسسة رسمية، وقد جاء قبول المؤسسة الكنسية، في السنوات الأولى لحكم البعث، بتلك اللعبة خوفا وطمعا من حزب بات يسيطر على كافة مفاصل المجتمع ويوظفها لخدمة السلطة. لكن بتوالي العقود نشأت داخل الكنيسة شلّة من الكهان، باتت تؤمن فعلا أنها جزء من الدولة وأن مصيرها غدَا معلقا بمصير تلك الدولة وبثقافتها (8).
  • لقد كانت أوضاع الكنائس السورية شديد الشبه بأوضاع الكنائس العراقية، وجدت نفسها إما أن تتحول إلى مؤسسة دينية تابعة للدولة أو تقع في متاهة حقيقية. وباتت المآلات التي انتهت إليها الكنائس العراقية ماثلة هذه الأيام أمام الكنائس السورية، فشبه تاريخ الكنيسة مع البعث في سوريا يجد مثالا له في العراق. لقد كانت مصائر المسيحية العراقية مفجعة بعد رحيل صدّام، ولذلك تخشى الكنائس السورية أن تلقى المصير نفسه في حال سقوط النظام السوري. ويتدعم ذلك التخمين بما تبثه الدعاية السلطوية من مخاطر انجراف سوريا نحو دولة دينية إسلامية، وهو ما يوشك أن يحوّل البلد إلى جحيم مسيحي.

في الحقيقة هذا التحليل مجانب للصواب ويفتقد لنظرة عميقة وشاملة، إذ ارتبطت مآلات الكنيسة العراقية بالقطر العراقي وحده. ذلك أن سقوط نظام صدام قد مثل انتحارا سياسيا ذاتيا، في حين ما تشهده سوريا هذه الأيام فهو تحول شامل يهز البلاد العربية، تختلف عوامله ومطالبه، ولذلك لا يجوز ربط مستقبل المسيحية في سوريا بما جرى في العراق. فلو أخذنا الساحة المصرية، الحاضنة لأكبر تكتل مسيحي، فإن الكنيسة فيها لم تعرف استقلالية في تاريخها الحديث، في قرارها وفي نشاطها، من السلطة مثلما تشهده هذه الأيام، وهو من نتائج الثورة. وبرغم وقوع بعض الأحداث الأليمة في مصر، تضررت على إثرها الأطراف المسيحية، فهي عائدة بالأساس إلى تعفنات سابقة سائرة نحو التقلص والتراجع.
تفتّت احتكار المؤسسة الدينية
لقد كان من العوامل الفاعلة التي ساهمت في نجاح الثورة التونسية يقين الناس أن المؤسسة الدينية بقضّها وقضيضها، الزيتونة والمجلس الإسلامي الأعلى ووزارة الشؤون الدينية وما حوت، قد باتت جهازا بيد السلطة، وما عادت لتعبر عن خيارات المؤمنين ومراجيهم. الوضع الديني المسيحي في سوريا، وهو ما يعنينا في هذا المقالة، بلغ حد اليقين أيضا بذلك السطو الذي مارسته السلطة على الكنيسة، بعد أن باتت تتدثّر بشلّة من القساوسة شاركوها الوليمة طيلة عقود وباركوا عملها.
فالسلطة السورية لما استحوذت على الدين وباتت الوصية عليه، لم تحتفظ من قيمه في مسلكها بشيء يذكر. فسندها من رجال الدين ما عاد لهم شأن سوى تبييض القبور العفنة. ولو بقي لهم دور لأصلحوا بالها وكفّوا يدها عن القتل العمد، وزبانيتها يتصيّدون الناس في الشوارع كالحمام. لقد خلّفت الساحات فرزا لافتا، لاح من خلاله أن الشعبَ المنادي بشرق جديد، مفعمٌ بالإيمان وأما خصومه فهم الفقراء.
خلقت مصادرة الدولة لحرية الكنيسة نوعا من انفضاض الناس من حولها. وبات بقدر ما يتحرر الفرد المسيحي من كنيسته بقدر ما ينغمس في شؤون الناس وفي قضايا المجتمع. ولذلك يلاحظ أن جل المشاركين في الثورة من المسيحيين، هم ممن نأوا بأنفسهم عن ضيق الكنيسة وضوابطها المجحفة، التي تحد من نشاط الفرد الاجتماعي. قد يشير البعض إلى أن جل المشاركين في الثورة السورية من المسيحيين، هم من العلمانيين واليساريين والليبراليين، وهو صواب، ولكن ساهم أيضا رجال دين من الصف الثاني والثالث، من الكهان وطلبة اللاهوت، وهم ممن أدركوا بوعي أن كنائسهم تعاني أزمة ارتباط بالمجتمع وأزمة تعامل مع قضاياه.
بشكل عام، يخبر تاريخ المسيحية أن الناصري عليه السلام عاش نافرا من القياصرة وأعوانهم، ولكنّ قساوسة السلاطين بعده روّضوها ورَوْمنوها، ولم ينتهوا حتى أخرسوها أمام سلاطين الجور، ثم صوّروا الأمر خلاصة حكمة الدهور. كان على رجالات الكنيسة في سوريا أن يدركوا ما انجرفت إليه مؤسستهم، وما انحرفت نحوه، منذ أن صار رقيب السلطان يسكن عظاتها ويتلصّص على تراتيلها. مع أن البشير في بشارته حذّر من غواية الشيطان والسلطان، حين جربّه إبليس مغويا إياه: "أعطيك السلطة على هذه الممالك كلها وما فيها من عظمة، فإنها سُلّمت إلي وأنا أعطيها لمن أشاء. فإن سجدت أمامي تصير كلها لك!" فردّ عليه يسوع قائلا: "قد كتب للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد" (متى4: 9-7).
فالدين الحق لم يحمه القياصرة، بل كانوا كلما دَنوا منه أوغلوا فيه تشويها وتحويرا، فلو كان القياصرة أوصياء على كلمة الله ما اعتزلهم المعمدان عليه السلام إلى البرية نائيا برسالته. لذلك لم يلتمس المسيح عماده في أورشليم، والهيكل قائم عامر، يضج بالكهنة، بل لاحق معموديته في البرّية لدى يوحنا المعمدان.
المسيح عليه السلام ورد في قوله السديد: "رُدّ سيفك إلى غمده! فإن الذي يرفع السيف، بالسيف يهلك"(متى26: 52)، فمع من قساوسة السلطان، مع مشهر السيف أم غامده؟ وكذلك جاء في قوله: "لئن يلج جمل في سمّ الخياط أهون من دخول غني ملكوت الرب"(متى19: 24)، فمع من قساوسة السلطان مع المترفين، حدّ التخمة، أم مع الفقراء والمعوزين؟ ربما العزاء الذي يجده المسيحي السوري الثائر هذه الأيام، لاختطاف مؤسسته الدينية، قول معلّمه الذي يتنزل عليه سلاما وسكينة: "سيخرجونكم من المجامع بل تأتي ساعة يظن فيها كلّ من يقتلكم أنه يقدّم خدمة لله" (يوحنا16: 2). بعد ثورة قرطاجة لن تعود البلاد العربية إلى ما كانت عليه، وبالمثل بعد اندلاع ثورة بلاد الشام لن تعود الكنيسة إلى سالف عهدها، ولكن رغم ذلك سيحاول قساوسة السلاطين العض بالنواجذ على زمن يحسبونه ما زال وهو قد ولّى. لذلك يُخشى أن تَلحق الكنيسة متأخرة بقطار الشرق المتحول، ليُلمز يوما أن المسيحي في تلك الديار كان من المخلَّفين.

عزالدّين عناية أستاذ تونسي بجامعة لاسابيينسا في روما tanayait@yahoo.it

المراجع:

1- Antonio Picasso, Il medio oriente cristiano, Cooper, Roma 2010, p. 123.
Ibidem, p. 125. -2
Andrea Pacini, Comunità cristiane nell'islam arabo. La sfida del futuro, Edizione Fondazione Giovanni Agnelli, Torino 1996, p. 41. -3
Antonio Picasso, Il medio oriente cristiano, p. 126. -4
Henri Tessier, Cristiani in Algeria - La chiesa della debolezza, Editrice missionaria italiana, Bologna Italia 2004, pp. 29-39. -5
6- يمكن العودة إلى مؤلف الأب مشير باسيل عون: في الفكر العربي الديني المسيحي، الصادر عن دار الطليعة في بيروت 2007، للاطلاع على التشرذم اللاهوتي السائد داخل كنائس البلاد العربية.
Joseph Yacoub, I cristiani d’Irak, Jaca Book, Milano 2006, pp. 93-123. -7
Andrea Pacini, Comunità cristiane nell'islam arabo. La sfida del futuro, p. 227. -8

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.