الإسلام في ضوء التحليل
النفسي[*]
بقلم:د. فتحي بن سلامة
ترجمة: د. محمّد الحاج سالم
هذه ترجمة لمحاضرة الدكتور فتحي بن سلامة أستاذ علم النفس وعميد وحدة البحث والتكوين في العلوم الإنسانية العياديّة
بجامعة باريس ديدرو. المحاضرة بعنوان "الإسلام
في ضوء التحليل النفسي"، وألقيت باللغة الفرنسيّة خلال مؤتمر "قوّة التوحيد. التحليل النفسي والأديان"
الذي انعقد بمتحف سيغموند فرويد بفيينا
أيّام 29-21 أكتوبر 2009.
Fethi Benslama, L’islam au regard de la
psychanalyse (Conférence), Sigmund Freud Museum, colloque « The
force of monotheism. psychoanalysis and religions », Vienne, 29-31 octobre
2009.
***********************
حين بدا
لي في منتصف الثمانينات أنّه من الضروري مناقشة الإسلام في منظور تحليلنفسي، لم
يكن يوجد ما يوحي بأنّ هذه المهمّة سوف تفرض نفسها عليّ، إذ كان وجود الإسلام آنذاك
شبحيّاً في أدبيّات التحليل النفسي. وأقول "شبحيّاً"، لأنّ ظهوره كان عَرَضيّاً
وبوصفه عنصراً غائباً في أعمال اختصاصنا المكرَّسة للدّين عموماً وبشكل أكثر
تحديداً للدّيانات التوحيديّة. بل إنّ هذا المفهوم كان أيضا، مختَزلاً عمليّاً في
الغالب الأعمّ من تلك الأعمال، في اليهوديّة وفي المسيحيّة. وبذلك كنتُ أشعر في ذلك
الوقت، بأنّني بصدد التطفّل على الفضاء المألوف لليهوديّة المسيحيّة، إن لم يكن بالأحرى
فضاءها العائلي، وكأنّني إسماعيل، الذي يعود بعد أن تمّ التخلّي عنه في صحراء
الذاكرة، ليطرح مسألة الأب وميراثه.
وإذا كان صحيحاً أنّ صورة إسماعيل كانت بوّابة عبوري نحو طرح مسألة الأب
في العلاقة بين الإسلام والديانتين التوحيديّتين الأخريين، من خلال إعادة قراءة قصّة
هاجر في سِفْر التكوين [1]، فإنّ ذلك
يعود إلى أنّ موضوعة الابن المقصيّ الموجودة في أصل الديانات التوحيديّة، ظلّت
نشطة بطرائق مختلفة عبر التاريخ. وخطاب القدّيس بولس في رسالته إلى أهل "غلاطيّة"، حيث يقابل بين ابن الجسد وابن الروح [2]، ما لايزال
يفعل فعله حتّى اليوم في العلاقات بين الغرب اليهودي المسيحي والإسلام، وبطريقة
مؤلمة، حتّى في الأعمال المعرفيّة المعاصرة. ومن وجهة النظر هذه، توجد ديمومة عجيبة
لبنية نزاع الأصول وللضّغائن بين الديانات التوحيديّة، وهي ضغائن غير غريبة على ما
نسمّيه هنا "قوّة التوحيد". فما تكنّه هذه الديانات الثلاث، التي يُفترض أنّها
تعبد نفس الإله، من كراهيّة تجاه بعضها بعض، هي بنيويّة؛ ولذلك،
فهي لا تفاجئنا. ورغم أنّه يتمّ إخفاء تلك الكراهيّة، بشكل عامّ، بالدّعوة لإله
محبّة وسلام، ومن خلال دعوات مصالحة، وهي دعوات ولئن كانت قطعاً ضروريّة، إلاّ
أنّها تبقى دون تأثير حقيقيّ، ما لم تُعقل يتمّ التفكير في الكراهيّة الأصليّة. وفي
الواقع، ينبغي لنا أن نتحدّث عن "كراهيّات" لا عن كراهيّة واحدة، لأنّها تختلف في
طبيعتها بحسب نظرتنا، إمّا بمنظور التشابك المسيحي اليهودي، أو التلاصق الإسلامي اليهودي،
أو التقاطعات الإسلاميّة المسيحيّة حيث تطلذ علينا بين الحين والآخر الإشارة إلى
الحروب الصليبيّة في نشرات الأخبار. وتظلّ الحقيقة أنّ المحلّلين النفسيّين يَرِثُون
أيضاً، طوعاً أو كرهاً، بعض تلك الخلافات، وإلى حدّ ما التعارض الذي سطّره القدّيس
بولس بين الروح والجسد. بل ويبدو لي أنّ فرويد نفسه لم يكن في مأمن من هذا الأمر، وإن
كان ذلك على طريقته، حين وصل إلى تناول مسألة
الإسلام. وهذا ما سأعود
إليه بعد قليل.
وإذا كنت اتّخذت، في مشروعي، إدخال الإسلام في المقاربة التحليلنفسيّة
للدّين وللتّوحيد، من مسألة الأب مدخلاً إلى ذلك – وهي مسألة لا حاجة لنا للقول بأنّها
أساسيّة سواء في التحليل النفسي أو في التوحيد أو في ما بينهما من أصداء -، فما
ذلك إلاّ لأنّ فرويد نفسه تناول الإسلام من هذه الزاوية في إحدى المناسبات القليلة
التي تحدّث فيها عنه. إنّها
تلك الفقرة القصيرة الواردة في كتاب موسى والتوحيد[3]، ولكنّها
فقرة مثقلة بافتراض صِيغَ على عَجَلٍ ولم يُطرح قطّ، على حدّ علمي، كموضوع لنقاش
جادّ من قبل المحلّلين النفسيّين باللّغة الفرنسيّة. ومن نافلة القول الإشارة إلى
أنّ ذكر الإسلام هذا قد جاء في الفصل الفرعي المتعلّق بالصعوبات، وأنّ فرويد اعتذر
فيه عن محدوديّة معلوماته عن الإسلام، قبل أن يسارع إلى استبعاده من مجال دراسته. ومن
المحتمل أنّ هذه الإشارة الواردة في آخر كُتُب فرويد لم تسترع اهتماماً كبيراً، لأنّ
الإسلام سيظلّ طويلاً بمعزل عن الأسئلة الحديثة، حبيساً في مخازن الاستشراق. ولعلّ
هذا الاهتمام بالإسلام ما كان له أن يتحقّق لولا بروز مظهر معيّن من هذا الدين على
الساحة العالميّة اليوم بصفة يوميّة منذ عشرين عاماً. ولعلّه
يجب من الواجب أن نكون حذرين من مطابقة الإسلام ككلّ مع الحركات المتطرّفة التي تظهر
بطريقة عنيفة. وما كان لي أن أسوق هذه الملاحظة هنا، وهي عديمة الفائدة في وسط
مثقّفٍ مبدئيّاً، لولا أنّني سمعت مثل هذا الخلط في هذا المكان ذاته ليلة أمس. يجب
علينا ألاّ ننسى أنّ لجميع الأديان أصوليّتها، وأنّ اللاّهوت المسيحي، الذي يُشاد به
كثيراً اليوم، كان أيضاً في أحد جوانبه عنيفاً للغاية، بل ولا يزال يتضمّن إلى حدّ
أيّامنا تيّارات متعصّبة، إلى جانب أخرى هي، لحسن الحظّ، منفتحة.
ومع
ذلك، فإن هذا الظهور للإسلام على المسرح العالمي يحدث في الفجوة التي يجب علينا
الإشارة إليها قبل أي تناول لمسألة الإسلام اليوم. ففي حين حظيت اليهوديّة
والمسيحيّة في الغرب بإعادة قراءة معلمنة، وعاشت التفكيك والترجمة التاريخيّة والأنثروبولوجيّة،
فإنّ الإسلام لم يعرف بنفس الكثافة intensivement مثل هذا العمل الهائل المنصبّ على الفكر وعلى الواقع
الاجتماعي والذاتي. وهذا ما استتبع نتيجتان نتيجتين على الأقلّ أرغب في عرضهما
بسرعة.
الأولى
هي أنّ الإسلام، أو بأكثر دقّة المسلمين، قد دخلوا تدريجيّا بالفعل في الحداثة منذ
القرن التاسع عشر، وأنّ ذلك الدخول كان مصطبغاً بالعنف الاستعماري وبعيداً عن
تنوير الفكر الحديث، أو لنقل، بعيداً عن الأنوار التي ظلّت حكراً على النخبة. إنّها
حداثة ظِلٍّ، أو بالأحرى تحديثٌ أعمى، بل هو تحديث لاواعٍ بالنّسبة لغالبيّة
المسلمين. فعمل الثقافة (Kulturarbeit) الحديث لم يتقدّم بنفس وتيرة التحوّل المادّي لذلك العالم. بل
إنّ حقيقة أن يظلّ التحليل النفسي إلى الآن متلجلجاً في العالم المسلم، حتّى حين
يتعلّق الأمر بمجتمعات قريبة جدّاً من أوروبّا، لهو من أعراض هذه الحالة، كما لو
أنّ المُسلم اليوم لا يمكنه النفاذ إلى جهاز قراءة تتوافق مع ظروف نفسه (psyché) الراهنة. وبالتالي، فإنّه لا شكّ في
أنّ عدم قدرة المسلم على قراءة هويّته وعالمه، هو أصل ما نراه من تمرّد جماعي
ميتافيزيقي يائس يريد استعادة تأويل الأسلاف اللاهوتي المُطَمْئِن.
والاعتبار
الثاني هو أنّ تصاعد الطلب والعرض في السوق الدينيّة في المجتمعات المسلمة اليوم لا
يتّسم بنفس السمات التي كانت له في المجتمعات التي شهدت عرفت من قبل علمنة الطابو، أي المحرَّم، وحلول الدولة محلّ مؤسّسة الطوطم
التقليديّة، وبعبارة أخرى، حلول الدّولة
محلّ مرجعيّة الأب البطريركي في الاقتصاد الرمزي للمجتمع. ولئن تمّت إقامة الدولة
"الحديثة" في المجتمعات الإسلاميّة، إلاّ أنّها لم تقم في معظم الحالات،
بتحطيم التنظيمات التقليديّة، بما فيها العائليّة العشائريّة؛ بل تراكبت عليها، وخَلْخَلَتْهَا، وتآلفت
معها، لكنّها لم تستطع احتكار سلطة القانون التي تمكنّت الدولة من احتكارها في
المجتمعات الحديثة. وبالمثل، فإنّ علمنة المحرَّم لم تحدث سوى جزئيّاً فحسب، ولم
تصل إلى عمق البنى الذاتيّة. لذا، فإنّه لا وجود لعودة فعليّة لما يسمّى "الدين" في معظم مجتمعات العالم المسلم، لأنّ البنية الدينيّة للرّابط الاجتماعي وضامنه الذاتي
لم يضعفا، بل تحلّلا تحت تأثير سَحْب "العلمويّة" على
تصوّر العالم والرسملة السوقيّة للتّبادلات وعلى عكس ما كنّا نعتقد، وفرويد أوّلنا، فإنّ الدين لم يتراجع هنا تحت تأثير تقدّم
العلم، ولكنّه أفلت من إطار المؤسّسة الدينيّة التقليديّة وانحلّ. وانحلال الدين ودخوله في إعادة
تركيب مع خطاب العلم ومنطق السوق، هو الحقيقة الكبرى في الوضع الراهن، وما يُسمّى الإسلاموية (l’islamisme) هو عَرَضَه الأكبر. ولعلّه ينبغي
أن نكون هنا أكثر حزماً ولا ننظر إلى المسألة إلاّ في إطار منطقة جغرافيّة معيّنة وفي
إطار مجتمع محدّد من العالم المسلم الرحيب، ولكن ليس لديّ الوقت للقيام بذلك في حدود
هذه المحاضرة.
ومع
ذلك، فإنّ مخطّط اضمحلال الدين وإعادة تركيبه مع خطاب العلم ومع التقنيات، وظهور
سوق دينيّة معولمة، ينطبق على ما يبدو لي على جميع الأمكنة، مع تلوّنات وتغيّرات بحسب
اختلاف الوضعيّات. وهنا، يبدو لي بعد أكثر من ثمانين عاما على نشر مستقبل
وهم[4]، أنّ الاتّجاه الحالي يناقض
تقدميّة فرويد في هذا الكتاب، وذلك رغم توقّع فرويد تحرّر العقائد الدينيّة على مدى
أطول. وبالطّبع، فقد كان هذا النصّ متأثّراً كأشدّ ما يكون بالسياق التاريخي العامّ
الأوروبي لحقبة العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، ولكنّه يتضمّن مسارات
يمكن أن تكون خصبة جدّاً للتفكّر في ما يحدث اليوم مع الإسلام من وجهة نظر اجتماعيّة
وذاتيّة، مع اطّراحي المسألة السياسيّة رغم أهميّتها القصوى، جانباً، إذ سبق أن
تناولتها في مكان آخر[5]. لكن دعوني أشير فقط إلى
أنّه لا يمكننا أن نبحث الواقعة الدينيّة بوصفها هواماً فحسب، وأنّ الدين ينخرط في
واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي، وباختصار في الحياة الماديّة وليس فقط في النصوص
المكتوبة منذ آلاف السنين.
إنّ "مستقبل وهم" يأخذ بعين الاعتبار، في عدّة
مناسبات، بهذا الجانب المادي المحسوس، وخصوصاً حين يتحدّث فرويد عن المضطهَدين. وفي
ما عدا ذلك، يبقى مستقبل وهم نصّاً أكثر تعقيداً ممّا يبدو
عليه، وهذا بالتّأكيد شأن نصوص فرويد غالباً، إلاّ أنّ هذا الكتاب بالذّات يختصّ بتضمّنه
نسبة عالية ممّا يدحضه، بما يتجاوز الحوار الوهمي مع مخالفه (القس بفيستر). ومن
بين البراهين التي قد تفيدنا في تفكّر الجيشان الديني في العالم المسلم، يمكنني استعارة
اثنين على الأقلّ يتطابقان مع الوقائع المعاينة عياديّاً والإنتاجات الثقافيّة
المعاصرة.
الأوّل
هو المتعلّق بعلمنة المحرَّم، أو ما يسمّيه فرويد "التأسيس الاجتماعي للمحرَّم الثقافي" (ص 182). ففرويد يرى بالفعل أنّ النقلة
المتمثّلة في إسناد ما حرّمه الله إلى الإنسان، ومن الأوامر الإيمانيّة إلى البناء
العقلاني، تفتح إمكانيّة حدوث قفزةٍ مُهلكةٍ وفشلٍ قد تكون له عواقب خطيرة. والسبب
هو أنّ الدين أقرب إلى الحقيقة العاطفيّة للمحرَّم المرتبط بالكَرَب الطفولي (Hilflosichkeit)، وإلى الأب المؤمثل. فالمحرَّم المعلمَن، وبعبارة
أخرى المعقلَن، ينشأ من تطهير عاطفي يُكسبه فعاليّة ذاتيّة أدنى ممّا يُكْسِبُه المحرَّم
المغلّف دينيّاً. وهذا
الرهان هو ما يبدو مركزيّاً في الخطابات القائمة اليوم في العالم المسلم، وهو ما
نجده على سبيل المثال في تنامي ظاهرة الفتاوى بشكل مذهلٍ وفظٍّ. فرجال الدين إمّا يسعون بجميع
الوسائل إلى منع عمليّة علمنة المحرَّم، أو هم يحاولون تحويله دينيّاً. ولنأخذ مثالاً
على ذلك، ما عُرف بفتوى إرضاع الكبير الصادرة مؤخّراً عن شيخ أزهري في القاهرة يقدّم
فيها حلاّ لمسألة الاختلاء بغير المحارم، وهو إرضاع الموظّفات زملاءهنّ الرجال في
مكاتب العمل حتّى يَحْرُمْنَ عليهم! ويمكنكم تخيّل ما أثارته فتوى
الإرضاع المعمّم تلك من ضحكٍ مجنونٍ في العالم المسلم... وهذا يعني أنّ بعض رجال
الدين لا يعوقهم الانسياق وراء التهريج في محاولتهم سدّ الثغرات التي أحدثتها
الحياة المعاصرة في النسيج الأخلاقي التقليدي. ولكن هذه الظاهرة لم تنمُ
إلاّ لكونها تلبّي طلباً اجتماعيّاً شديداً يترجم عن تنامي الإحساس بالذّنب لدى
الجماهير وما يتبعه من طلب النجاة. وهذا هو السبب في أن يغدو التكفير
والتضحية والاستشهاد، ممارسات شائعة. لقد غدا هذا ممكناً في عالم
اهتزّت فيه مرجعيّات المحرَّم التقليديّة وأضحت فيه هوامات الإسراف في المتعة تُنذر
بالشرّ من كلّ جانب. ويلعب التحريض على الاستهلاك، وخاصّة صُوَرَه، دوراً مهمّاً
في هذا الشأن، لأنّنا كما تعلمون نأكل بأعيننا أيضاً، حتّى حين لا نريد أو لا
نستطيع أن نأكل. والتعمية على الشيء أو جعله غير جذّابٍ أو منفّراً، قد يكون حلاًّ
في هذا الخصوص. ومن هنا ظهور مختلف أنواع الحجب
والإنتاج المكثّف للقُبح داخل الأوساط الأصوليّة. وعلى المستوى العياديّ، لاحظتُ عند
تحليل كثير من حالات المرضى من ذوي الديانة الإسلاميّة، العمل النفسي الشاقّ لترجمة
المحظورات الدينيّة بتأثيراتها العاطفيّة، إلى محظورات مُعَلْمَنَة. وتأتي رهانات
الانتقاليّة المتمحورة حول صورة الأب المؤمثل، وهي صورة شرسة تطالب بالتضحية، على
رأس تلك المحظورات. وما لم يتمّ تحليل الانفعالات والصراعات الطفوليّة والتغلّب عليها،
فإنّ الخوف الشديد من خرق المحرّمات والبحث عن التكفير عن ذلك الخرق، يبقيان راهنين. ولكنّ المعتقدات البدائيّة يصعب التغلّب عليها لأنّها تشمل، حيثما كانت، بُعد الاعتراف
الرابط بين بقاء الفرد وانتمائه إلى الجماعة التي وُلد فيها، كما لو كانت تلك الجماعة، هي الجنس
البشري نفسه.
أمّا
الجانب الثاني الذي يمكن أن نقرأه في مستقبل وهم، ويبدو لي شديد التعبير عن
حالة الذوات الحديثة في العالم المسلم، فهو ما يتّصل بتحويل العصاب الجماعي إلى
عصاب فرديّ شخصيّ. وهذا ما أشار إليه فرويد في نصوص أخرى متعلّقة مثلاً بوضعيّة
الانفصال التي يعيشها الشاعر أو المبدع بشكل عامّ، عن جماعته. فالشّاعر والفنّان والكاتب والمؤلّف
(وكلّ ذات حديثة تغدو "صانعة" حياتها الخاصّة وتاريخيّتها) عُرضة
للاتّهام بالخيانة من قبل جماعته. ولا يتحّقق الوصول إلى الاستقلال الذاتي تجاه معتقدات
الجماعة، إلاّ بتوفّر شروط معيّنة ملائمة للمشاريع الفرديّة التي تسمح بالتحرّر من
حماية الجماعة. إلاّ أنّ هذه الشروط تعتمد على التعليم العلمي وعلى ضمان الحريّات
السياسيّة، وهو ما لا يتوفّر حاليّاً في العالم المسلم. فالتّقليعة الدارجة اليوم
هي انتقاد حقوق الإنسان في بعض دوائر التحليل النفسي المتحذلقة، والحال أنّه لا وجود
لتحليل نفسي في غياب حقوق الإنسان، وسيُنظر بالتالي إلى تعبيرات اللاّوعي على
أنّها جرائم! كلّ هذا، يدخله فرويد في عمل الثقافة (Kulturarbeit) وإشكاليّة ما يسمّيه "الأنا العليا الثقافيّة"، وهو المفهوم الذي أرى أنّه لم
يحظ بما يستحقّ من اهتمامٍ في التحليل النفسي، على الأقلّ في فرنسا. وباختصار،
أقول أنّ مستقبل وهم يفترض دمقرطة الحياة السياسيّة
والاجتماعيّة بما يسمح بالانفصال عن المشروع اللاّهوتي- السياسي، وحصر مطلب
الأديان في الخلاص في قطاع عمومي-خاصّ مخصّص للعبادة. وهذا هو الاحتمال الذي لم
يتحقّق بعدُ في العالم المسلم اليوم. ولعمري أنّ تحقّق هذا لأمر لن
يكون سهلاً وسريعاً وهادئاً، وعلينا أن نتذكّر ما حدث في أوروبّا نفسها منذ وقت
غير بعيد. وأذكّركم أيضا بأنّ القوميّة كثيراً ما استعادت المشروع اللاّهوتي- السياسي
والعواطف الدينيّة، كما هو مبيّن في أعمال إرنست هارتويغ كانتوروفيتش (Ernest H. Kantorowicz) كما
في كتابه "الموت من أجل الوطن"[6] مثلاً. ونحن نعرف التكلفة البشريّة
لكلّ هذا من خلال الحروب الرهيبة التي عرفتها جميع أنحاء أوروبّا.
اسمحوا
لي أن أنتقل الآن إلى فرضيّة فرويد حول الإسلام في موسى والتوحيد. إنّ إعجابي بالكشف
الفرويدي، الذي اعتبره سبقاً حضاريّا، لا يؤدّي بالضرورة إلى تبنّي كلام فرويد دون
نقدٍ، أو إلى التسليم بمقترحاته النظريّة، بما في ذلك الجانب النظري من أفكاره. فكما
أشرتُ في بداية هذا العرض، فإنّ الفقرة التي خصّصها فرويد للإسلام كانت مشوبة بحذرٍ
كبيرٍ واعتذاراتٍ عن محدوديّة معلوماته عنه. وأقتبس هنا النقطة الأساسيّة في تلك
الفقرة: "أدّى استرداد (Wiedergewinnung) الأب
الأصلي الأكبر والوحيد (Urvater) عند
العرب إلى حدوث تسامٍ خارقٍ في الوعي بالذّات، ما أدّى إلى نجاحاتٍ دنيويّةٍ كبيرةٍ،
ولكنّه تسامٍ استنفد قواه فيهم. لقد أظهر الله من الاعتراف بالجميل نحو شعبه
المختار أكثر ممّا أظهر يَهْوَهْ نحو شعبه. ولكنّ التطوّر الداخلي للدّين الجديد
سرعان ما توقّف، ربّما لأنّه ينقصه العمق الذي أنتج في الحالة اليهوديّة قتل مؤسّس
الدين"[7].
إنّ
هذه الصياغة تُدرج حالة الإسلام في الإطار العامّ لنظريّته في الدين، من حيث
علاقته بالمسألة المركزيّة للأب، والتي يُعتبر الأب بمقتضاها أساس الروحانيّة،
روحانيّة يكمن جوهرها في قتل ذاك الأب. ومع ذلك، تعترضنا مشكلتان علينا طرحهما
هنا.
1- أوّلاً،
جريمة قتل الأب في اليهوديّة، كما هو الحال في المسيحيّة، ليست سوى تأويلٍ أو بناءٍ
أنجزه فرويد، انطلاقاً من هُوام فردي. فلا وجود لمسألة قتل الأب في اليهوديّة ولا
في المسيحيّة، وبالتالي فإنّ فرويد لم يجد في الإسلام ما ليس موجوداً في الديانتين
التوحيديّتين الأخريين. وحتّى في حالة المسيحيّة، فإنّ الأمر يتعلّق بالابن لا
بالأب. لذا، يمكننا تأويل ذاك القتل بأنّه أقرب إلى الاعتراف بقتل الأب، ولكنّ هذا
يبقى مجرّد تأويل. فإذا كان لنا أن نُؤوّل وأن نُعيد البناء، فَلْنُأَوِّلْ ولْنَبْنِ
في كلّ مكان. يمكننا أن نُبيّن أنّ هذا القتل المكبوت موجودٌ أيضاً في الإسلام. ولا أحتاج إلى أن أذكّركم بأنّ
قتل الأب هو هُوام بنيويّ عند البشريّة جمعاء، وأنّ تنفيذه كتخييل أنثروبولوجي من خلال
إعلان موت الله هو نتيجة الحداثة الأوروبيّة.
2- إذا كان الإسلام يستردّ الأب
الأصلي الأكبر والوحيد (Urvater)، فإنّنا نكون في هذه الحالة في تناقضٍ مع أطروحات
فرويد، لأنّه لا يمكن أن ينشأ مع الأب الأصليّ أيُّ صرحٍ اجتماعي، وأيُّ بناءٍ للقانون
والحضارة والروحانيّة. وبذلك نعود إلى الرهط البدائي. لا أعرف ما هي مصادر معلومات
فرويد عن الإسلام، وقد سعيت في سبيل ذلك عبثاً. ويبدو لي في هذه الصيغة، أنّه إذا
ما استنجدنا بصورة الأب البدائي في الطوطم والطابو[8] لشرح محفّزات الإسلام، فإنّنا نجد فيه،
تحت لَبُوسٍ آخر، التعارض "البُولْسي" بين الروح والجسد ممثّلاً في ابني
إبراهيم. فنكون من ناحية أولى، إزاء مظهر روحاني من خلال مقتل الأب في اليهوديّة
والمسيحيّة، وإزاء غياب الروحانيّة من خلال وجود القوّة الفظّة، من ناحية أخرى. هذا
إن لم نعتقد أنّ الأب البدائي - الوحشي والقاسي، والمتمتّع بجميع السلطات- لا يني
عن العودة حتّى حين ندّعي أنّنا انتهينا من أمره، وهذا ما يبدو لي أكثر اتّساقاً
مع التاريخ الفعلي للجماعات البشريّة. وعلى سبيل المثال، فإنّ الطّغاة في العالم
العربي اليوم، قريبون جدّاً من صورة الأب البدائي هذه، وأنا أزِنُ عباراتي حول هذا
الموضوع، وإلاّ فإنّ الواقع أغرب من الخيال.
لقد
قادني البحث داخل أبنية الإسلام حول مسألة الأب، إلى نتيجة مختلفة تماماً، وهي نتيجةٌ
تُسطِّر سُبَلاً جديدة للروحانيّة داخل التوحيد نفسه، روحانيّةٌ غير متولّدةٍ بالضرورة عن الأب. وبطبيعة الحال فإنّ هذا الأمر
سيصدم الامتياز الأبوي والمركزي القضيبي الشائع بين كثير من المحلّلين النفسيّين،
ولكن هذا غير مهمّ ما دام تحويل التحليل النفسي نحو الإسلام من شأنه فتح منظور
جديد، مكبوت من قبل فرويد نفسه ومن قبل نزعته البُولْسِيّة. وأودّ أن أرسم هنا الخطوط
العريضة لنتائج هذا البحث :
1- يبدو المحفّز الروحي للإسلام
في كثير من الجوانب، بالأحرى، مثيل محاولة التخلّي عن الأب في صميم بنيته اللاهوتيّة، أي تنزيه
الله عن كلّ تطابقٍ مع صورة الأبوّة، عن كلّ نظام بُنُوَّةٍ إنسانيّةٍ وهميّةٍ أو
رمزيّةٍ. وهذا التنزيه ليس أرسطيّاً كما يُقال غالباً، فهذا شأن إله الفلاسفة المسلمين
المتأخّر في القرن الحادي عشر. ولنتذكّر أنّ الإسلام تأسّس في القرن السادس. إنّ
الله القرآني هو بالأحرى بارمنيدسي على ما يقترح الباحث الفرنسي الكبير في الإسلاميّات جاك بيرك
(J. Berque)، من
خلال المقارنة بين مقطع قرآني[9] والقطعة الثامنة من بارمنيدس
وفيها :"[...] لم يولد، وهو الباقي،
الكاملُ، الواحدُ، المتينُ وبلا نهاية/لم يكن ولن يكون، لأنّه هو الآن، كاملٌ،
دائمٌ"[10]. وفي الواقع، فإنّ إله
الإسلام هو إله موسويّ الأصل، لأنّ الله لم يغدُ اسم عَلَمٍ إلاّ لاحقاً، وهذه الكلمة
تعني في الأصل "الإله".
2- وهذه المحاولة للنّكوص عن
الأب، وأقول محاولة، لأنّني أعتقد أنّها محدودةٌ وبلا أفقٍ لأسباب سوف أشير إليها،
محدَّدةٌ سلفاً في أولى الكتابات التوحيديّة، أي الكتاب المقدّس نفسه، ولا سيّما في سِفْر التكوين حيث يتمّ التركيب النَّسَابي
والأخلاقي الأوّل حول إبراهيم وزوجتيْه، الزوجة-الأميرة-السيّدة سارّة والأَمَةُ هاجر،
وابناه: إسحاق وإسماعيل. في الواقع، تنتهي
قصّة تمرّد هاجر ورفضها أن تكون مجرّد رَحِمٍ يسْتَبْضِعُهُ الأسياد، بطردها وابنها
إلى الصحراء. ولكن تفحّص الأمر عن كثبٍ، يُرينا
أنّ الإله في سفر التكوين يعقد عهداً ثانياً مع هذه
المرأة، بعد أن كان العهد الأوّل مع إبراهيم. ذلك أنّ إله سفر التكوين يعترف لهاجر بحقّها في أن يكون لها نَسْلٌ
خاصٌّ بها، ووعدها بأُمَّةٍ من نسلها، بل وبأكثر من ذلك: لقد تميّزت بأنّها المرأة
الوحيدة في الرواية التوراتيّة التي استطاعت أن ترى الإله دون أن تموت. وأذكّر أنّ
سبينوزا يعتبر هاجر نبيّة، في حين أنّها ظلّت محتقرة بصفة دائمة تقريباً عند شارحي
التوراة وعلى رأسهم القدّيس بولس. وهكذا نجد منذ أوّل الكتابات التوحيديّة، الاعتراف
بمسار روحيّ آخر لا يمرّ بالعلاقة بين الربّ والأب، ولكن بين الربّ وامرأة مظلومة
اعترف لها بالحقّ في نسبٍ خاصّ بها.
3- ويرتكز هذا المسار الروحي
أساساً، عند تفحّص مغزاه الرمزي، على الاعتراف الأخلاقي بحقّ إمرأة في ألاّ تكون
أداة حيّة (وهذا هو التعريف القديم للمُسترَقّ)، أو إن شئنا، في ألاّ تكون مجرّد
رَحِمٍ في خدمة أسيادها. ذلك أنّه كان على هاجر أن تنجب طفلاً للأسياد العاقرين
البالغين من العمر عتيّاً، ثمّ تختفي. إلاّ أنّ هذه المرأة سوف تتحمّل الرفض أو التطليق من قبل
البطريرك والتيه في الصحراء، وخاصّة، بالنسبة للطّفل، عدم إنقاذه من الخطر من قبل
الأب بل من قبل إلهٍ سوف يعطي الأمّ القدرة على رؤية العين في الصحراء. ونحن نجد
هنا، في مستوى ما يعتبره فرويد في أصل الشعور الديني نفسه، أي الكَرَب الطفولي (Hilflosichkeit)، مَفْزَعاً لا يمرّ من خلال
الأب، بل من خلال غيريّة تسمع إذا ما استندنا إلى عبارة الكتاب المقدس التي تذكر
اللحظة التي وجدت فيها هاجر العين التي ستنقذها وابنها: {لا تخافي، لأنّ الله قد سمع
لصوت الغلام حيث هو} (21 :17 - 20). إنّه إسماعيل،
وحرفيّاً: اسمع إيل، الله يسمع. ولعمري أنّ تلك الغيريّة التي
تسمع الطفل حيث هو من أجل إنقاذه، والمرأة التي ترى المنجي حيث
يمتدّ فضاء الصحراء القاسية والعزلة الأصليّة، لهي الرؤيا الأموميّة التي تشكّل
نظريّة أخرى لما هو ديني، بالمعنى الاشتقاقي ذاته لمفهوم النظريّة في اليونانيّة (θεωρειν) بمعنى نظر وتأمّل (وهي أيضا في العربيّة : نظريّة بمعنى ما يُنظر إليه/فيه). وتلخيصاً
لهذا، أقول إنّه توجد روحيّة محفّزها النفسي استجابة الإله السميع، متفمصلة مع
نظرة الأمّ كاستجابة للكَرَب
الطفولي، ومستغنية
عن الوجود المادي للأب في ذات اللحظة التي يتخلّى فيها الأب عن الطفل.
4-
وفرضيّتي هي أنّ الإسلام
(والذي يعني اشتقاقيّا المُنجِي بعد التخلّي) متولّدٌ من هذا المحفّز الروحي، وهذا
هو السبب في أنّ هذا الدين على وجه التحديد يستبعد صراحة أيّ تقارب بين الله
والأب. فإذا ما نظرنا إلى التركيب النَّسَابي في التوراة من جانب إسحاق، لوجدنا أنّ
الله يتدخّل من خلال معجزة في جسد سارّة لكي تحبُل (أنجبت في السبعين من عمرها)، وهو
ما يُعتبر النموذج الأصلي للتدخّل الإلهي في جسد مريم، فيما نجد على الجانب الآخر
أنّ إنجاب إسماعيل كان نتيجة تلقيح طبيعي من إبراهيم لجسد هاجر، ودون أيّ تدخّل إلهيّ. فالتقارب بين الله والأب يتمّ، من الجانب اليهودي المسيحي، من خلال انصهار التلقيح الروحي والمادي؛ بينما نجد من جانب الإسلام
فرقاً بين الاثنين يندّ عن كلّ قياس: التلقيح حقيقي وبقاء النطفة روحيّ. ومن هنا، فإنّ مصدر الإيمان ليس
الحياة في ذاتها، بل البقاء على قيد الحياة. ودعماً لهذه الفرضيّة، يمكننا
الإشارة إلى أنّ القرآن لم يكن وديعاً تجاه الآباء بصفة عامّة، ولا مؤمثلاً لهم. بل إنّ هذا هو أيضا حال مؤسّس
الإسلام ذاته الذي لا يُعتبر أباً: لقد كان يتيماً وضالاًّ قبل أن يهتدي. واليتيم
هو أحد ألقاب مؤسّس الإسلام. ولذلك، نحن إزاء إحالة أساسيّة
على الأب المتوفّى.
5- ولا
أستطيع هنا التوسّع في تناول مسار محاولة النكوص عن الأب كمحفّز للتّوحيد
الإسلامي، ولكن اسمحوا لي أن أشير دون تردّد إلى أنّ هذا المقترح يبدو متناقضاً مع
أطروحة فرويد الراسخة، التي صاغها أوّلاَ في الطوطم والطابو، والقائلة بأنّ اشتياق الأب
(Sehnsucht)[11] في أصل خلق الآلهة والتشكيلات
الدينيّة. ومع ذلك، فنحن نتذكّر أنّ فرويد
يشير في كتابه ذكرى طفوليّة لليوناردو دا
فينشي[12]، إلى إمكانيّة النكوص عن الأب
بوصفها إمكانيّة للإعلاء (عند ليوناردو) تكمن في عدم الاحتياج إلى اعتماد تجلية
الأب في الله. فتجلية الأب في الله يدخل في باب الأَمْثَلَة، في حين يدخل النكوص
عن الأب في باب الإعلاء. وبطبيعة الحال، فإنّ هذا يؤدّي بنا إلى التفكير في الدين من
منظور الإعلاء، لا الأمْثَلَة والتوهّم. ولكن لماذا ننكر إمكانيّة السيرورات
الإعلائيّة الجزئيّة في الروحانيّة الدينيّة؟ دعونا ننظر في إسهامات كلّ ديانة من
الديانات التوحيديّة في الفنون والآداب، والفلسفة، والقانون، وما إلى ذلك، وباختصار،
في جميع ما اعتبره فرويد نفسه إسهاماً في الحضارة. ولكن ما هي الحضارة، قبل الإمكانيّة
الأوروبيّة منذ قرنين للاستغناء عن الله، إن لم تكن حضارة دينيّة عند مجمل البشريّة ؟
6- ومع اقتراحي
النظر إلى محاولة النكوص عن الأب باعتبارها من محفّزات الدين الإسلامي، إلاّ أنّني
أوضّح أنّ هذه المحاولة لن تبلغ مداها النهائي بسبب قيودها اللاهوتيّة، إلاّ في
التصوّف الإسلامي الذي يلعب دوراً هامّاً للغاية. وقبل تناول سبب هذا الفشل
اللاهوتي، أوضّح أنّ محاولة النكوص عن الأب هذه، إن كان الإسلام يحمل علاماتها الواضحة،
فهي أيضاً موجودة في اليهوديّة والمسيحيّة وإن في ثوب مختلف. بل إنّي أعتقد أيضاً أنّ إحدى
قوى الإبداع في التوحيد تكمن بالذّات في نكوص أوّلي عن الأب، ولكن هذا النكوص
أُعيق أو عُوّض بمسار عكسي عنيف يمتح من أمْثَلَة الأب، مسارٌ يكمن في اللاّمحتمل الذي
يمثلّه النكوص البدئي. وبعبارة أخرى، يتألّف التوحيد
من قوّتين متعارضتين في آن، وهنا كلّ قوّته: أنّه في آنٍ دَفْعٌ من جانب
أوّل للنّكوص عن الأب ودَفْعٌ أيضا من جانب آخر نحو تعزيز قوّته الهائلة. وبالأساس،
فأنا ألوم فرويد ومن تبعه من المحلّلين النفسيّين على هذا الصعيد، لاعتمادهم وجهة
نظر أبويّة تجاه الروحانيّة، وإهمال وجود مسار روحي مؤنّث استبصره التوحيد الأصلي،
ولكنّه مرفوضٌ.
7-
وإنّ طلاق هاجر وكبت العهد الثاني، هو أُسّ
هذه المشكلة. ولا يمكنني، في حدود الوقت المتاح لي هنا، عرض هذا الأمر بالكامل، فقد
سبق أن فعلت ذلك في كتابي الذي ترجم إلى العربيّة تحت عنوان الإسلام
والتحليل النفسي (دار الساقي، لندن، 2009) وإلى الإنكليزية تحت عنوان Psychoanalysis and the Challenge of Islam (مطبعة جامعة مينيسوتا، مينيابوليس،
2009). فطلاق
هاجر، أي التخلّي عنها في الصحراء مع ابنها، يفترض زوجاً وأباً فاشلين، غائبين، وعهداً
بين الأمّ والله من أجل إنقاذ الابن. لكأنّنا أمام لوحة مريم العذراء المنتحِبة (Pietà) وهي
مقلوبة، أو هي لوحة البقاء على قيد الحياة فهي لا تزال تنتظر مايكل أنجلو ليرسمها... لماذا يتوقّف النكوص عن الأب فجأة مع
الدين الإسلامي؟ لأنّه على الرغم من تأكيد مؤسّس الإسلام أنّه من نسل إسماعيل، فإنّ
النصّ القرآني لا يذكر هاجر ويذكر بالمقابل سارّة ويباركها. وفرضيّتي هنا أنّه كان
من الصعب على مؤسّس الإسلام إقناع عرب الصحراء مع ما عرفوا به من أنَفَة بأنّهم
كانوا من نسل أمَةٍ، وابنٍ تخلّى عنه والده. بل إنّ القرآن يتجاوز ذلك ليجعل إبراهيم
يلقى ابنه ويتصالح معه، والحال أنّ ذلك اللقاء لم يتمّ حسب التوراة إلاّ
حين وفاة إبراهيم. وتلك
هي إذن، عودة روحيّة الأب التي تمحو روحيّة الأمّ. وقد تطلّب الأمر أكثر من قرن بعد
وفاة مؤسّس الإسلام ومن دخول المسلمين في جدالات عجيبة كي يمكنهم الاعتراف بهاجر
أُمّاً. ومع ذلك، ما زلنا نجد في العالم المسلم تسع فتيات يتسمّين باسم سارّة مقابل
واحدة فقط تتسمّى باسم هاجر.
وبما
أنّ الوقت محدود، فإنّه يجب أن أختم حديثي الآن بالتأكيد على أنّ البحث
التحليلنفسي حول الإسلام يبيّن لنا وجود محاولة اتّخاذ مسار روحي لا يمرّ عبر الأب
وقتله، ولكن عبر الارتباط بين المؤنّث وغيريّة تسمع. وهي غيريّة إلهيّة لأنّها
مختلفة تماماً، ولأنّها تسمع. والروحانيّة لا تكمن هنا في قتل الأب، لأنّه كان
بالفعل ميتا أو غائباً متخلّياً، وإنّما تكمن في البقاء على قيد الحياة والغوث المقدّم
إلى الطفل، وليس فقط الغوث المادي، وهذا ضروري للغاية، ولكن البقاء على قيد الحياة
كاستجابة من الآخر السميع لنداء الاستغاثة. هذه المحاولة موجودة منذ بدايات الكتابات
التوحيديّة، والإسلام يتحدّر منها، ولكن لاهوته لا يعتمدها. وهي لا تظهر إلاّ في بعض
المسالك الصوفيّة، وفي بعض الإنتاجات الثقافيّة. ومن ذلك على سبيل المثال في وضعيّة
شهرزاد في ألف ليلة وليلة، حيث تتغلّب المرأة على الجنون
القاتل عند الطاغية، بواسطة الكلام لا غير.
أعتقد، ولكن لن يكون لي الوقت
الكافي للحديث عن هذا الخطّ من التفكير، أنّ عالماً معلمناً وديمقراطيّاً، يُعترف فيه
بالحقوق الإنسانيّة لكلّ فرد بمعزل عن أصله وفصله، هو ما يوفّر حقّاً إمكانيّة نكوصٍ
عن أب البطريركيّة. ولا يتعلّق الأمر بمجتمع دون أبٍ كما كان يُعتقد لبعض الوقت، بل
بالآباء الذين نعتمد عليهم لنكون قادرين بعدها على الاستغناء عنهم في العيش المشترك،
أي سياسيّاً. أعتقد أنّ الأمر يتعلّق بتجربة
روحيّة جديدة للإنسانيّة، حيث فشل التوحيد، ولكن ما من ضامن أن لا تتعرّض هذه التجربة
أيضاً إلى الفشل، فشل يعود إلى حدّ كبير إلى تسليع العالم وتسليع الرغبة الإنسانيّة.
ينبغي على التحليل النفسي استكشاف هذا الاحتمال، مع الاعتراف بأن المؤنّث يحمل هو
أيضاً روحانيّة، بعد مستقبل وهم، أي بعد إزالة الوهم عن مستقبل
دون وهم.
نُشر النصّ المترجم على موقع الأوان على حلقتين
الـــهـــوامـــش:
[1] كان
هذا هو الغرض الرئيسي من كتابي :
La
Psychanalyse à l’épreuve de l’islam, Paris, Aubier, 2002. Poche Flammarion
(2004).
وقد
ترجم إلى اللغة الإنكليزية تحت عنوان:
Psychoanalysis and
the Challenge of Islam, Trad. Robert Bononno, University Of
Minnesota Press, Menneapolis, 2009.
و ترجم إلى
اللغة العربيّة تحت عنوان: الإسلام والتحليل النفسي، ترجمة: رجاء بن
سلامة، دار الساقي، لندن، 2009.
[3] S.
Freud, L’homme Moïse et la religion
monothéiste (1939), trad. C. Heim, Paris, Gallimard, 1986, préface de Marie Moscovici.
إشارة
من المترجم: ترجم هذا الكتاب إلى العربيّة لأوّل مرّة نقلا عن الترجمة الفرنسيّة
تحت عنوان: موسى والتوحيد، ترجمة: جورج
طرابيشي، ط 1، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1973.
[4] S. Freud, L’Avenir d’une illusion (1927), trad. A.
Balseinte, J-B Delabre, D. Hartmann, PUF, Paris, 2004.
إشارة من المترجم: ترجم هذا الكتاب إلى العربيّة لأوّل مرّة نقلا عن الترجمة الفرنسيّة
تحت عنوان: مستقبل وهم، ترجمة: جورج
طرابيشي، ط 1، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1974.
[5] Fethi Benslama, Déclaration d’insoumission, à l’usage des musulmans et de
ceux qui ne le sont pas, Flammarion 2005.
[6] E.
H. Kantorowicz, Mourir pour la patrie
(1951), trad. L. Mayali, Paris, Fayard, 2004.
[7] S. Freud, L’homme Moïse et la religion monothéiste,
Op.cit, p. 185 et ss.
[8] S. Freud, Totem et Tabou, quelques concordances entre la vie
psychique des sauvages et celle des névrosés (1913), trad. M. Weber, Paris, Gallimard, 1993.
إشارة من المترجم: ترجم هذا الكتاب إلى العربيّة لأوّل مرّة نقلا عن الترجمة الفرنسيّة
تحت عنوان: الطوطم والحرام، ترجمة: جورج
طرابيشي، ط 1، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1983.
وترجم أيضاً في نفس السنة مباشرة عن الأصل
الألماني تحت عنوان: الطوطم
والتابو: بعض المطابقات في نفسيّة المتوحّشين والعُصابيّين، ترجمة: بوعليّ ياسين، ط 1، دار
الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقيّة – سوريا، 1983.
[9] المقطع القرآني هو سورة الإخلاص (112):{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ
الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}.
[10] Parménide, Le Poème : Fragments, trad. M.
Conche, PUF, 1996, p. 127.
[11] ترجمت بعبارة "désirance pour le père" في الترجمة
الفرنسيّة لكتاب فرويد. انظر:
S.
Freud, Totem et Tabou (1912-13),
Op.cit, XI, p. 367.
وقد
رأى مترجم هذه المحاضرة بعد العودة إلى قواميس ألمانيّة تعريبها إلى "اشتياق الأب". والاشتياق غير الرغبة الحسيّة ومتجاوز للشّوق الآنيّ، إذ الرغبة مخصوصة أكثر
بالمحسوس، بينما يرتبط الاشتياق بالذِّكر/التذكّر/الاستذكار، وفي تراثنا الصوفي
بخاصّة بالتشوّق/التشوّف القلبيّ الدائم إلى الذات العليّة.
[12] S. Freud,
Un souvenir d’enfance de Léonard de Vinci, Paris, Gallimard, 1977.
إشارة
من المترجم: تُرجم هذا الكتاب إلى العربيّة تحت عنوان: ليوناردو دافنشي- دراسة
تحليليّة لفرويد، ترجمة: أحمد عكاشة، مكتبة
الأنجلو المصريّة، القاهرة، 1970.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.