31 يوليو 2011

“القفازة” (الشطارة) أو المفهوم الجديد للنّجاح... زين الدين خرشي


مقدمة:
أول ما يتبادر إلى الذهن عند سماعنا لكلمة “القفازة” أو لإحدى المقولات -المروج لها في مجتمعنا- المتضمنة لها على شاكلة “إقفز تعيش”، هو الانتشار الواسع الذي يعرفه استعمال هذه المفردة اللغز. الشيء الذي يدفعنا للتساؤل عن ما هي “القفازة”؟ ما هو مضمونها؟ ما هي دلالاتها الاجتماعية؟ لماذا هذا الربط “المنطقي” بين العيش والقفازة؟ من هو الشخص القافز؟ … هي أسئلة، تتطلب الإجابة عنها تجاوز مرحلة الوصف -التي لابد منها كخطوة أولى للفهم والإحاطة– إلى البحث في “القفازة” باعتبارها ظاهرة اجتماعية تستوعب مجموعة من القيم والسلوكات. وذلك من خلال وضعها في السياق المجتمعي العام الذي ظهرت ونمت فيه وربطها بمختلف أبعاده الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية.

إن أهمية دراسة قيمة وسلوك “القفازة” في المجتمع الجزائري تكمن في طابعها الخاص، الذي يتأكد لنا من خلال مؤشرين رئيسيين. الأول هو أنها من القوة والحضور عند معظم شرائح المجتمع (على اختلاف الفئات العمرية) لدرجة أنها صارت لوحدها مرادفا لمكانة اجتماعية مميزة. فالشخص القافز هو الشخص الذي يتحلّى بمجموعة من القيم والسلوكات المحددة (فهو: فحل، راجل، فاهم، عارف بخبايا الحياة والمجتمع، مرن في تعاملاته وعلاقاته، يخرج من المواقف الصعبة بسهولة تامة، يستغل كل الفرص الممنوحة له …الخ)، التي تمكنه من تحقيق وبلوغ الهدف السامي وهو النجاح في الحياة (إذن هي سلوك هادف و عقلاني؟). أما المؤشر الثاني فهو كونها تلعب دورا مركزيا في دينامية التغير القيمي في المجتمع الجزائري عن طريق “شرعنتها” و”تبريرها” لوجود مجموعة أخرى من القيم، بأن توفر لها شروط الانتقال من نطاق المحرم (اجتماعيا وأخلاقيا) إلى نطاق المسموح به والمقبول.
1 * تحديد مفهوم القفازة:
لغة: بالرغم من أن مفردة “القفازة” هي كلمة دارجة يشيع استعمالها في اللهجة الجزائرية -وبذلك حاملة لمضامين، ومعبرة عن دلالات اجتماعية وثقافية خاصة بهذا المجتمع-، إلا أن أصلها اللغوي مستمد من العربية الفصحى، فـكلمة:”القفازة” مشتقة من الفعل “قفز، والقفز هو الوثب، والفرس “القافزة” هي الفرس السريعة (1). إذن فالقفز في اللغة العربية يحمل معنيين اثنين هما الانتقال والسرعة (الانتقال السريع من حالة إلى أخرى).

وللإشارة، فإنه في المشرق العربي يشيع استخدام كلمة “الشطارة” للدلالة على نفس الحالة السلوكية والقيمية التي تعنيها “القفازة” في المجتمع الجزائري، لكن مع التأكيد دائما على الخصوصية الثقافية والاجتماعية لمضامين ودلالات كل من الكلمتين. أيضا نجد أن “القفازة” تقترب في معناها من كلمة “الجدعنة” المستعملة في المجتمع المصري، فالشخص “القافز” في الجزائر يقابله الشخص “الجدع” في مصر.
في اللغة الفرنسية ومع صعوبة إيجاد مرادف لكلمة “القفازة”، إلا أنه بإمكاننا إيراد كلمتين قريبتي المعنى منها. الأولى أوردها نورالدين بوكروح (2) في حديثه حول “القفازة” في المجتمع الجزائري وهي كلمة: l’esbroufe والتي وظّفها لتبيان جوانب التباهي، التبجح والخديعة في سلوك الفرد القافز. والفعل: (3) esbroufer في الفرنسية يعني: السعي لفرض النفس بتبني سلوك أو هيئة وقـار لا يستحقها صاحبهـا.(4) هذه الكلمة باللغة الفرنسـية لا تشمل إلا بُـعدا واحدا مـن معـنى “القفـازة” ودلالاتـها الاجتماعية أي بُـعد الخداع والتحايـل. أمـا الكـلمة الثانيـة فهـي: la débrouillardise من الفعـل (5) se débrouiller ، والذي يعني الخروج من ورطة أو مشكلة ما بالاعتماد على النفس وبتوظيف القدرات والمهارات الشخصية (6).
اصطلاحا(7): إن مسألة الإحاطة بمفهوم مركب كمفهوم “القفازة”، وتحديد مختلف أبعاده، لابد وأن تبدأ بمحاولة لحصر التصورات الذهنية والاجتماعية المكوَنة حول جزئية: من هو الشخص القافز؟ أو ما هي مقومات القفازة؟ على اعتبار أن لفظ القافز الذي نطلقه لوصف حالة ما، هو في المقام الأول تصور ذهني (représentation intellectuelle) كوّناه حول واقع ما، أو دور اجتماعي ما، لذا فالقافز -وبالاستعانة ببعض مفردات اللهجة الجزائرية- هو: الفْحَل، الراجل، الفاهم، الذي يحل مشاكله بسرعة، يتجاوز العراقيل والحواجز بذكاء، له شبكة علاقات كبيرة وفي كل مكان…الخ. بصفة أخرى “القافز” هو الشخص “الذكي اجتماعيا وعقليا”، الذي تجتمع فيه كل القدرات والمهارات الفكرية والاجتماعية.
يتضح مما سبق أن “القفازة” مفهوم جامع لعدد من العناصر المشكلة له، والتي يمكن عرضها في بعدين.
بعد قيمي: على درجة من التجريد، يشمل قيمًا معينة مع التصورات الاجتماعية والثقافية لمعانيها ودلالاتها، مثل: الفحولية، الرجولية، شبكة العلاقات (المعريفة)، الحيلة، الدهاء …الخ.
بعد سلوكي: أكثر تجسيدا على أرض الواقع، يجمع بين السلوكات والأفعال التي تتضمنها كل قيمة من القيم سالفة الذكر.
من خلال هذا يتبين لنا وجود ملمح لما يمكن تسميته بـ: “النسق القيمي والسلوكي” للقفازة، والمقصود بالنسق هنا هو ذلك التلازم والترابط الموجود بين مختلف العناصر (القيمية والسلوكية) المكونة لكلمة “القفازة”، والتي تجعل منها “وحدة قيمية” مميزة. ويتأكد أكثر الطابع النسقي للقفازة حين نتمعن في اتجاه وهدف سلوكات “القافز” في المجتمع، فهي تسير في نفس الاتجاه المحقق لهدف “العيش” (النجاح) وفق المقولة المعروفة “اقفز تعيــش”.
2 * التغير الاجتماعي والقيمي في الجزائر وظهور القفازة:
بالعودة لتاريخ الجزائر الحديث نتلمس كرونولوجيا أحداث تسمح لنا بتقسيم منطقي للمراحل التي مر بها المجتمع الجزائري، وهي على التوالي: مرحلة حرب التحرير، مرحلة التحرير، مرحلة البناء الاجتماعي (التشييد)، مرحلة إصلاح ومراجعة البناء الاجتماعي، وأخيرا مرحلة الانفتاح والديمقراطية. وبالتتابع فإن مميزات كل مرحلة من هذه المراحل هي: التضامن والإجماع على مبدأ الكفاح في حرب التحرير، حرية السلوك والتـوْق إلى العدالة في مرحلة التحرير، التعبئة والانضباط طيلة مرحلة البناء الاجتماعي، البحث عن أشكال وصيغ جديدة للتعبئة والتنظيم في مرحلة إصلاح ومراجعة البناء الاجتماعي، وأخيرا التوجه لاقتصاد السوق وفتح المجال للتعددية في مرحلة الانفتاح والديمقراطية (8).
إن المراحل الثلاث الأولى (1954-1980) جاءت في إطار جامع لها ابتغى تكريس الاستقلال السياسي ثم الاقتصادي. أما المراحل اللاحقة فتدخل في إطار توجه جديد، سياسيا اقتصاديا اجتماعيا وإيديولوجيا بهدف الإصلاح والمراجعة، ما يؤشر بوضوح أن شيئا ما قد حدث في سيرورة المجتمع الجزائري على كل الأصعدة وفي كل المستويات، ما يدفعنا إلى القول بوجود قطيعة.
كل هذه المراحل التي مرّ بها المجتمع الجزائري (من تاريخ اندلاع ثورة التحرير إلى اليوم)، ليست مرتبطة فقط بالمستوى السياسي وما عرفه من تغيرات وأحداث، فكل مرحلة من هذه المراحل تمثل وحدة منطقية جامعة لمعظم أفراد المجتمع في هيكلها ووظائفها. نقطة البداية أو النهاية في كل مرحلة من هذه المراحل ناتجة عن التقاء مجموعة من الأحداث السياسية الاقتصادية الثقافية والاجتماعية، والتي تقع في نفس الوقت ما يؤدي إلى التأسيس لنموذج جديد من العلاقات والقيم والسلوكات الاجتماعية (9).
وتعد المرحلة الرابعة (1980-1988) الخاصة بالإصلاح والمراجعة لما سبق، تعد خير مثال على هذا التلاقي بين مختلف الأحداث وما نتج عنه من تغير على صعيد العلاقات الاجتماعية، من ناحيتي القيم والسلوك. ضمن توجه عام لمحاولة وضع تصور جديد ينظم علاقة المستوى السياسي (مؤسسات الدولة وسياساتها) بالاقتصادي (القطاع الصناعي العمومي) وبالاجتماعي (الحاجات الاجتماعية المتزايدة).
إن عمق التغير الذي أصاب المجتمع الجزائري، جعله ينتقل في غضون جيلين (جيل الثورة وجيل الاستقلال) من مستوى تنظيم اجتماعي: صلب، أحـادي التـدرج  (Mono Hiérarchisé)، محدد المكانات الاجتماعية، خاضع لقيم أخلاقية قهرية ومركزية (المؤسسة الدينية والقبلية)، بنمط إنتاج هادف لتحقيق الاكتفاء واستهلاك تقشفي، إلى مستوى تنظيم اجتماعي: أقل صلابة، متعدد التدرج  (Hiérarchie Multiple)، غير محدد المكانات الاجتماعية، خاضع لقيم أخلاقية أقل قهرية ومركزية، وبنمط إنتاج محقق للفائض واستهلاك أبعد ما يكون عن التقشف.(10)
في مطلع الثمانينات، بـدأت الانعكاسات الأولى للنمو الديموغرافي المرتفع لسكان الجـزائر -طيلة عشريتين- بالظهور والتأثير المباشر على بنية المجتمع. ففي 1980 صار سن الشباب الجزائري المولود في 1962 ثمانية عشر سنة، وصاروا بذلك يمثلون أول موجة لجيل ما بعد الاستقلال الذي وُلد وترعرع في كنف السلم والحرية. ومن النتائج المباشرة والمهمة لهذا الواقع الجديد هو أن مسار التغير في المجتمع الجزائري صار مدفوعا -أكثر من الستينيات والسبعينيات- بشريحة الشباب، من خلال قوتها العددية ونزعتها المطلبية الضاغطة على المستويات السياسية الاقتصادية والاجتماعية (مطلب توفير مناصب العمل، توفير المسكن، وتحسين القدرة الشرائية). إضافة إلى تبنيها لسلوكات اجتماعية قائمة على مبادئ الفردانية والبحث عن الثروة والمواجهة الإيديولوجية (المطالبة بالتعددية السياسية مع ظهور بوادر التيار الإسلامي وارتفاع صوت المطلب الأمازيغي). ومن جهة أخرى فإن «امتزاج مختلف هذه الأبعاد قد ولّد نمطا اجتماعيا (سلوكيا وقيميا) جديدا على درجة عالية من الخصوصية والتعقيد» (11). في 1980 تم إحصاء 11 مليون شاب تحت سن 19 سنة (12)، وهو نفس عدد سكان الجزائر سنة 1966!
كما أن التغير الذي حدث عـلى أُطر الاندماج الاجتماعي، من خلال تحولها من النمط القديم القائم على الأسرة الممتدة ووحدة الاقتصـاد، إلى نـمط جـديد قائم على الأسـرة النـووية، العمـل والاستهلاك، وضع الفرد والمجتمـع الجـزائريين أمـام شكل جديد للعـلاقة بين: “الأسرة-العمل-الاستهلاك”، مختلفة تماما عن شكل هذه العلاقة في 1962.(13) وإن فهم طبيعة هذه العلاقة بمستوياتها الثلاث (أسرة-عمل-استهلاك)، يُعد مدخلا لابد منه لفهم التغير الذي عرفه ويعرفه حتى اليوم المجتمع الجزائري. فالأسرة -وفق هذه العلاقة- تُعرِّف المكانة الذاتية لأفرادها، والعمل يُعرِّف العائد الاقتصادي لكل فرد، والاستهلاك يُثـبِّت ويُبلور المكانة الذاتية بصفة نهائية. وبذلك ستكون درجة وطبيعة المكانة التي يحتلها الفرد في الأسرة والمجتمع بحسب درجة وطبيعة مساهمته في القدرة الاستهلاكية للأسرة (14).
وفي هذا السياق صارت قيمة وسلوك الاستهلاك أداة ووسيلة في سبيل ضمان التمتع بمكانة اجتماعية مرموقة، على اعتبار أن درجة المكانة وطبيعتها مرتبط بالقدرة على الاستهلاك، وهذا ما يسميه مصطفى بوتفنوشت بـ: la consommation instrumentale، فميزانية الأسرة، مساحة البيت وعدد غرفه، نوع السيارة …الخ، كلها تدخل في إطار هذا النوع من الاستهلاك. ليس الاستهلاك لأجل الاستهلاك فقط بل إن فعل الاستهلاك يتجاوز تلبية “الحاجة المادية” للسلعة أو المنتوج، إلى تلبية “الحاجة المعنوية” له. ومنه «وجد الفرد نفسه في مقابل إستراتيجية اجتماعية صعب تجاهلها، امتلاك كل شيء والقدرة على كل شيء هو شرط الارتقاء إلى مكانة اجتماعية مرموقة…الامتلاك والقدرة بصفة جزئية يساوي إمكانية ارتقاء محدودة» (15).
لقد خضعت مختلف شرائح المجتمع وفئاته العمرية لهذه الإستراتيجية الاجتماعية، وصارت تؤمن بفكرة تحقيق مكانة اجتماعية على أساس القدرة على الاستهلاك. فتوسيع قاعدة الاستهلاك وبلوغ درجة استهلاك الرفاهية (la consommation de prestige) صارت واحدة من غايات الفرد في المجتمع الجزائري. كل شرائح المجتمع وكل فئاته العمرية صارت واعية بوجود هيكلة وتنظيم جديدين للمجتمع ولقيمه.
كذلك فإن خصوصية التغير الذي عرفه المجتمع الجزائري يتضح في سرعة حدوثه وعمق آثاره، ما قاد العديد من علماء الاجتماع الجزائريين إلى وصف هذا التغير بـ: الكسر. «في ما يتعلق بعلاقة الجزائري بالأرض، فالمناسب هنا هو الحديث عن كسر (Cassure) وليس عن قطيعة (Rupture) ... ففي المخيال الاجتماعي صار مفهوم التقدم والنمو مرتبط بالمدينة، بالأجر و بالوظيفة…في 1966 كان حجم العمالة في القطاع الزراعي يمثل 58 % من الحجم العام للقوى العاملة الجزائرية (قرابة الثلثين)، أما في 1977 فلقد صار حجم هذه العمالة يمثل 31 % فقط (قرابة الثلث)، بالنظر إلى هذا التحول من زاوية الأجيال نسجل أنه لم يحدث بصفة تدريجية على مدى ثلاثين سنة، بل حدث في جيل واحد، جيل بعد الاستقلال، وفي حيز زمني ضيق جدا يعادل عشر سنوات» (16).
ومن ملامح هذا الكسر أيضا، الفارق الموجود بين مشروعين أو تصورين للمجتمع وللدولة، المشروع الأول: الذي يروج له الخطاب السياسي الرسمي وروافده في المجتمع، والمشروع الثاني: المتمثل في الواقع المعيش على الأرض.
3  * الدلالة الاجتماعية والقيمية للقفازة:
القفازة تعبر عن إيديولوجية صراع ومواجهة مع الآخر، هذا الآخر يتسع لاستيعاب الكثير من مفردات الواقع الجزائري، بيروقراطية مؤسسات الدولة، الواقع الاقتصادي والاجتماعي الصعب، نظام القيم في المجتمع. إلى الحد الذي صارت فيه “القفازة” واحدة من المنعكسات السلوكية -واسعة الانتشار-، وإحدى الثوابت التربوية التي يحرص الآباء على زرعها في أبناءهم، على اعتبار القفازة من متطلبات المعيشة. الآباء يعلمون أبناءهم -سرا وعلنا- كيف يتجنبون الوقوع ضحية تحايل الآخرين (أولاد الحرام)، وكيف أنـه بإمكـانهم -عند الحاجة- التحايل على الآخرين، وكيف يكونوا “قافزين” في الحياة، لأن العيش في المجتمع لم يعد سهلا وأن لا مكان ولا مستقبل للضعفاء. هم بهذا يُـشرعنون لهم فكرة تجاوز -والقفز على- القواعد القانونية والحدود التي وضعها المجتمع في شكل القانون والنظام.
يلاحظ على “القفازة” -بشقيها السلوكي والقيمي- أنها ظهرت ونمت في بيئة قيمية امتازت بممارسات اجتماعية جديدة أنتجها –بحدّة- مجتمع ما بعد الثمانينيات. وهي تعبر عن توجه فعلي نحو تبني سلوكات يمكن وصفها -من منظور مدرسة العقد الاجتماعي- بسلوكات “ضد اجتماعية”، من حيث أنها تترجم بوضوح التعارض بين المصالح الخاصة للأفراد، والمصلحة العامة للمجتمع. إن “القفازة” جاءت على النقيض تماما لمبادئ “الخيار الاشتراكي للتنمية”. فإذا كان هذا الأخير قائم على فكرة مركزية ووحدة التوجه والقرار والسلطة، فإن “القفازة” تعبر عن رغبة لدى الجزائري في التحرر من هذا القيد والعمل لمصلحته الشخصية، وهي أيضا دليل قاطع على أن هناك «مشكلة كبيرة في قدرتنا على العمل والفعل جماعيا» (17).
القفازة” كقيمة اجتماعية، هي تركيز لمشاعر الخوف، الريبة، العتاب، والثأر التي يعيشها المجتمع الجزائري. “القفازة” تستوعب الكثير من المفردات السلوكية “الضد-اجتماعية” التي هي أقرب إلى التمرد على القيود من كونها مجرد تغير بسيط على مستوى القيم الاجتماعية، وما ذهب إليه عبد الناصر جابي في كتابه “الجزائر النخبة و المجتمع”(18) يوضح هذا البعد بقوة، من خلال تناوله لثنائية “الأب الفاشل والابن القافز”، وكيف أن القفازة كقيمة اجتماعية شرعنت للابن التمرد على السلطة الأبوية ووسعت من مساحة نفوذه داخل الأسرة.
خاصية التمرد في “القفازة” نابعة من كونها في المقام الأول ترجمة سلوكية (فِعلية) لموقف الشباب من المجتمع ومن الطبقة السياسية ومآخذهم عليها. من هنا لا ينبغي التعامل مع “القفازة” على أساس أنها ضرب من العشوائية أو الفوضى، في حين أنها -في الحقيقة- ردة فعل “منطقية” لشريحة واسعة من المجتمع تجاه واقع متأزم، «فالشباب ليسوا على الإطلاق محاربين بدون قضية، فثمة أكثر من مبرر لتمردهم حتى وإن عجزوا عن طرح القضايا التي يحاربون من أجلها بشكل مقنع للكبار» (19).
4 * القفازة و تغير مفهوم النجاح:
يوحي واقع المجتمع الجزائري بعد 1980 بأن النزعة نحو الفردانية (l’individualisme) صارت منتشرة أكثر مما سبق، وأن السعي وراء تحقيق المصلحة الشخصية -بطريقة واضحة وصريحة- صار مبدءا ومطلبا عامّـين متفق عليهما. كذلك يوحي هذا الواقع الاجتماعي الجديد بوجود حراك اجتماعي واسع، وسباق كبير نحو الغِنى، «إلى حد اعتبار الشخص صاحب المبادئ الأخلاقية والطموح المحدود، والذي لا يطلب شيئا من مؤسسات الدولة، اعتباره شخصا هامشيا و”غير عادي” (A-normal) وحتى فاشل، أما “الشخص العادي” في هذا البناء الاجتماعي المرن فهو “رجل الأعمال” (l’affairiste) الذي له معارف وعلاقات في كل مكان ويمكنه حل المشكلات بسرعة وسهولة فائقتين».(20) هو إذن رجل أعمال من طراز معين، لا يحترم بالضرورة القانون ويتعامل في الغالب مع شبكات غير رسمية.
هذه المرونة في البنية الاجتماعية، تُـقنن وتُـحدد المعايير الجديدة لتوزيع الأدوار والمكانات الاجتماعية، والتي يحتل وفقها “القافز” مكانة اجتماعية راقية على عكس “غير القافز” الذي يكتفي بمكانة أدنى (21).
ويمكن ملاحظة الأفراد الممارسين للدورين الاجتماعين: “القافز” و”غير القافز” في الكثير من تشكيلات الحياة الاجتماعية، في الوسط العائلي، في المدرسة، في الجامعة، في المؤسسة الاقتصادية، في النشاط السياسي…الخ. ولأن الضغوطات التي يعيش وسطها الفرد في هذه البنية الاجتماعية المرنة ضغوطات قوية جدا، فمن شأن تقمص دور القافز (قيميا وسلوكيا) تحقيق التحرر من هذه الضغوطات والقيود.
ودائما وفق هذه البنية الاجتماعية الجديدة، نجد أن مساهمة “التعليم” في تحديد طبيعة ودرجة المكانة الاجتماعية للأفراد مساهمة محدودة. فمستوى التعليم غير معترف به في هذا الإطار إلا في حال تحقيقه لمكانة فردية مرموقة من خلال ضمان عائد مالي معتبر (أجر أو ثروة) أو توسيع القاعدة الاستهلاكية من خلال تحسين إمكانية تلبية كل الحاجات الضرورية والثانوية. لذا فإنه في هذا السياق لابد من التفريق بين كل من: “المكانة” (le Statut) و”الهيبة” (le Prestige) «فمستوى التعليم العالي وحده لا يضمن مكانة اجتماعية راقية،(22) بل يُكسب صاحبه -فقط- هيبة ثقافية».(23) إن المكانة الاجتماعية الراقية تستلزم أكثر من المستوى التعليمي، إذ لا بد من توافر مهارات وشروط أخرى تتوافق والنموذج السلوكي-القيمي للبناء الاجتماعي الجديد. بعبارة أخرى هناك تلازم بين المكانة الاجتماعية والقفازة.
والقفازة لمّا فرضت نفسها كقيمة اجتماعية جديدة -تتضمن نموذجا سلوكيا معينا- فهي بذلك أدخلت تمثلات اجتماعية و ثقافية جديدة لمفهومي: النجاح والمكانة في المجتمع الجزائري.
كما أن التغير الذي طرأ على النموذج المجتمعي “لمسار النجاح”، أدى إلى انخفاض متوسط سنوات الدراسة التي يقضيها الشباب في التمدرس،(24) وارتفاع نسب التسرب المدرسي، وتراجع قيمة الدراسة وطلب العلم (25).
في ظل غياب مسارات أو وصفات نجاح ثابتة ومضمونة، ملبية ومحققة لطموح، حاجات وآمال الشباب، تشكلت “القفازة” كمسار بديل للنجاح المرن والمفتوح. حدث في هذا السياق عملية تفكيك وإعادة تجميع نموذج نجاح جديد. التحايل -على اختلاف صوره- صار في جزائر اليوم أحد ثوابت الحياة الاجتماعية، التحايل في كل مكان، في البيت في المدرسة في الجامعة في الإدارة في المؤسسة في الحزب في الوزارة، أينما ولّيت وجهك تصادف صورة من صور التحايل. بالتحايل (الغش في الامتحان) يكمل الآلاف من الطلبة دراستهم، بالتحايل (التراباندو والتبزنيس) تضمن الآلاف من الأسر الجزائرية لقمة عيشها، بالتحايل (التزوير والوعود الكاذبة) يفوز المئات من السياسيين في الانتخابات.
خاتمة:
صار من البديهي اليوم، الجزم بأن “القفازة” كنسق “قيمي-سلوكي” ما هي إلا واجهة تخفي وراءها صراعا وتصادما يدور في نطاق “السباق نحو التموضع الاجتماعي”، أين يبحث كل فرد من المجتمع عن “موضع” يضمن له الأمن المادي والمعنوي. يتم هذا من منطلق أن “الضبط” الذي يمارسه المجتمع على أفراده تحول إلى “ضغط” وجب التحرر منه لتحقيق الذات، والقفازة كميكانزم لشرعنة الممارسات والسلوكات الاجتماعية، توفر غطاءً ذكيا وشرعيا للخروج من هذا الضغط.
إن الشرعنة التي تمارسها “القفازة” على جزئيات الواقع الاجتماعي الجزائري، وبالتداخل مع عوامل أخرى، أفرزت توجها واضحا -خاصة لدى الشباب- نحو تبني سلوكات متطرفة وضد-اجتماعية ميزتها الأساسية العنف، ماديا كان أم رمزيا. القفازة لم تعد “طـريقة في السـلوك” (une façon d’agir)  فحسب، بل أصبحت “طريقة في الـوجود والسـلوك” (une façon d’être et d’agir)، فهي ترسم وتحدد مجالات التفكير والسلوك للأفراد، وتضع لها حدودا معينة. وبالمختصر المفيد القفازة هي تكريس لمسار ومفهوم جديدين-بديلين للنجاح.
وبالنظر للمعنى الذي يضفيه “القافز” على مفهوم النجاح، نجده مكرسا لسلطة “المطلب الاجتماعي”. فالنجاح بالنسبة له مقرون بالنجاح المادي في المقام الأول، لأنه هو فقط الذي يُمكّـنه من تحقيق مطالبه الاجتماعية التي لم تتمكن الدولة والمجتمع من تحقيقها.
المراجع و الهوامش:
(1)           منجد الطلاب، دار الشروق، بيروت، ط 36، 1990، ص: 606.

(2)           Noureddine Boukrouh, L’Algérie entre le mauvais et le pire, Casbah éditions, Alger, 1997 p: 86.
(3)           Larousse: Pluri dictionnaire, éditions Larousse, Paris, 1977, p: 498.
(4)           Esbroufe : faire de l’esbroufe, chercher à en imposer en prenant un air important, (synonyme : jeter de la poudre aux yeux), (synonyme : bluffer). Esbroufer quelqu’un, chercher à l’impressionner.
(5)           Larousse, Op.cit, p: 380.
(6)           Débrouiller (se) : se tirer d’affaire par ses propres moyens, en faisant preuve d’habilité et d’ingéniosité : se débrouiller avec ce qu’on a.
(7)           لتفكيك مفهوم معقد مثل مفهوم القفازة، تمت الاستعانة بفصل “التحليل المفهومي” في: موريس أنجرس، ترجمة: بوزيد صحراوي وآخرين، منهجية البحث العلمي في العلوم الإنسانية، تدريبات عملية، دار القصبة للنشر، الجزائر، ط 2، 2006. ص: 157.
(8)           Mostefa Boutefnouchet, La société Algérienne en transition, OPU, Alger, 2004. p: 51.
(9)           Ibid, p: 53.
(10)      Ibid, p: 57.
(11)     Ibid, p: 59.
(12)     Ibid, p: 69.
(13)     Ibid, p: 61.
(14)     Ibid, p: 61.
(15)     Ibid, p: 61.
(16)     Ibid, p: 63.
(17)     Noureddine Boukrouh, Op.cit, p : 51.
(18)     عبد الناصر جابي، الجزائر: النخبة و المجتمع، دار الشهاب، الجزائر، 2008.
(19)
عزت حجازي، الشباب العربي و مشكلاته، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب، الكويت، فيفري 1985، ص: 13.
(19)     Mostefa Boutefnouchet, Op.cit, p : 62.
(20)     Ibid, p: 62.
(21)     في هذا السياق لفت انتباهي الأستاذ عبد الرزاق أمقران إلى ما يؤكد رأي مصطفى بوتفنوشت، بأن هناك أغنية لجنيريك مسلسل تلفزيوني فكاهي (إنتاج محطة قسنطينة) تُعبـر –بامتياز- عن هذه الحالة. تقول الأغنية في أحد مقاطعها “الأستاذ الجامعي… شانو عالي وجيبو خالي” (شأنه عالٍ وجيبه خالٍ أو خاوٍ).
(22)     Ibid, p: 62.
(23)     وفق إحصائية لسنة 2007 فإن متوسط عدد السنوات التي يقضيها الجزائريون في التمدرس هي 11 سنة.

هناك تعليق واحد:

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.