30 يوليو 2011

الاستشراق المضادّ وتصحيح صورة الإسلام في الغرب... شريف عكاشة

هناك سؤال كبير لابد أن يطرحه العقل المسلم في علاقته مع الغرب، وهو " كيف يقرأ الغرب الإسلام" وما هي المؤثرات التي تشكل الرؤية الغربية للإسلام، وتتناول هذه المقالة إحدى المدارس المهمة لمدرسة الاستشراق الجديد، وهي "مدرسة ما بعد الحداثة" والتي تنظر إلى الإسلام من خلال عمليات التحديث التي تتم في العالم الإسلامي، ثم ما يعرف بالاستشراق المضاد ذلك التيار الناقد للاستشراق القديم، والذي استهله "إدوارد سعيد" بكتابيه الثوريين "الثقافة والإمبريالية" و"الاستشراق" ثم ما أعقبه من تيارات منتقدة للاستشراق الجديد.
مدرسة ما بعد الحداثة
تعتبر ما بعد الحداثة ثورة في الأدب والثقافة والعلوم الإنسانية على مدرسة الحداثة بقدر ما كانت الحداثة ثورة على فكر عصر التنوير الأوروبي. 

وقد نشأت الحداثة في بداية القرن العشرين، وقامت على أساس تحدي القناعات والثوابت الفكرية والدينية التي كانت سائدة منذ عصر النهضة، باعتبارها لم تعد تتناسب مع التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي صاحبت ظهور المجتمع الصناعي الحديث. 
وأتى تيار ما بعد الحداثة نتاجا للحرب العالمية الثانية وما أحدثته من زلزال في الوجدان الإنساني يفوق زلزال الحرب العالمية الأولى، ليعلن الثورة الشاملة على كل النظريات والأيديولوجيات السابقة، وينادي بالعودة إلى التقاليد القديمة في مجال الفن.
وفي ميدان الأدب، تميز أدب ما بعد الحداثة بالسخرية من الذات واللامعقول. وفي مجال العلوم الإنسانية والفلسفة تمثل ما بعد الحداثة إعادة تقييم جذري للفرضيات الحداثية عن اللغة والثقافة والهوية. 
نيتشه وفوكو
ورغم أن الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه كان يخاطب جمهورا من القراء في أواخر القرن التاسع عشر وعلى مشارف القرن العشرين أي قبل ظهور تيار ما بعد الحداثة، إلا أنه يعتبر رائد هذه المدرسة الشاملة في الفكر الغربي؛ نظرا لأن فلسفته تمثل تحديا للثوابت التي قامت عليها الحضارة الغربية. 
وفي كنف فلسفة نيتشه نشأت مدرسة من الاستشراق الجديد بداية من منتصف القرن الماضي، يقف على رأسها المفكر الفرنسي ميشيل فوكو، وتضم رائد الاتجاه التفكيكي في اللغة والأدب جاك دريدا. وقد تأثر فوكو تأثرا كبيرا بأراء نيتشه الإيجابية عن المشرق الإسلامي. 
وقبل الحديث عن هذه الآراء تجدر الإشارة إلى الفلسفة الاستشراقية العامة التي تنطلق منها هذه المدرسة؛ فالاستشراق عند أصحاب هذه المدرسة ليس هدفا في حد ذاته؛ حيث إن روادها ليسوا مستشرقين بالمعنى الفني للكلمة، كما أنهم ليسوا متخصصين في الدراسات الشرقية بالمعنى الأكاديمي، وإنما هم مفكرون ثائرون على بعض المظاهر السلبية في الحضارة الغربية.
وكان الشرق بالقياس إلى فوكو ونيتشه هو النقيض الذي كانا يقيسان على مرجعيته العيوب التي كانا يريانها في الحضارة الغربية؛ فلم يكن يهمهم الإجابة عن سؤال: ماذا يكون الإسلام؟ باعتبار هذه الإجابة مسعى بحثيا وفكريا في حد ذاته،ولكن باعتبارها جزءا من الإجابة عن السؤال: ما الذي لا يكونه الغرب؟ أي بعبارة موجزة كان هدفهم هو نقد الذات من خلال استدعاء الآخر. 
وقد كان سر إعجاب نيتشه بالإسلام هو أنه كان منسجما مع فلسفته التي تقوم على أن الهدف النهائي للفعل البشري، بما في ذلك محاولة الوصول إلى الحقيقة، هو إشباع نزعة الإنسان إلى السلطة وتحقيق القوة؛ لذا فإن الإسلام بالقياس إلى نيتشه هو دين الأقوياء، بينما المسيحية هي دين الضعفاء، وله مقولة شهيرة في هذا الصدد هي: "الإسلام دين الرجال بينما المسيحية هي دين النساء"([1]) ورغم ما عرف عن إلحاد نيتشه فإنه كان يؤمن بأهمية الدين في المجتمع؛ فليس المهم عنده ما إذا كان الدين صحيحا من الناحية الميتافيزيقية، ولكن المهم أن يدعم الحياة ويحافظ على النوع البشري. 
ما بعد الحداثة وإبراز المهمش
و في كتابه: "المستشرق الجديد: التمثيل ما بعد الحداثي للإسلام من فوكو إلى بودريار" يتعرض أيان ألموند إلى آراء تسعة من مفكري ما بعد الحداثة حول الإسلام من منطلق نقد الحداثة، ويستهل كتابه بفصل كامل عن نيتشه تحت عنوان "نيتشه وتصالحه مع الإسلام"، ويقول المؤلف إن نقد نيتشه لأوروبا المسيحية كان موجهًا إلى ثقافة العبودية التي أورثتها المسيحية؛ مما أدى إلى تميز الضعفاء على الأقوياء، حيث نجحوا في تحويل ضعفهم إلى فضائل، وإبراز مزايا الأقوياء على أنها رذائل. 
ولم يختلف نيتشه مع الفكر السائد في عصره عن الإسلام والذي كان يرى الإسلام نسخة معدلة من المسيحية، ولكن بينما كان يرى هذا الفكر الإسلام على أنه نسخة مشوهة كان نيتشه يراه نسخة مطورة من المسيحية، وكان يرى الإسلام باعتباره الامتداد الطبيعي لأوروبا؛ حيث إن منظومة قيمه تتفق مع منظومة القيم التي كانت سائدة في عهد الإغريق والرومان من إعلاء للذكورية وإضفاء مشروعية على الجنس وتراتبية الأدوار الاجتماعية. 
ويشير ألموند إلى أن نيتشه كان يمقت تناول الكحوليات، حيث كان يراها وسيلة للانفصال عن الواقع؛ مما ينسجم مع الثيولوجيا المسيحية التي تخدر الإنسان. 
ويقتفي ميشيل فوكو نفس خطوات نيتشه؛ إذ يرى أن الشرق- والإسلام على وجه الخصوص- هو الحلقة المفقودة بين ماضي أوروبا وحاضرها، وسبب فقدانها هو الحروب الصليبية التي قطعت هذا التواصل بين الحضارة اليونانية والرومانية والحضارات الشرقية.
ومثل نيتشه كان يبدو أن نقد فوكو للغرب يضع الشرق في موضع النقيض المثالي؛ فقد كان فوكو يمقت فردية الغرب وسطحيته، بينما كان معجبا بالروح الجماعية التي تميز الشرق وصدقه وأصالته، وفي اعتقاد فوكو فقد حرمت ثنائية العقل واللاعقل الغرب من التفكير الجمعي الذي أنتج كونفوشيوس في الصين، ونموذجه عن الدولة الفلسفية الذي يقدم تصورا للعالم وتصورا لبنية المجتمع والعلاقات فيه، وهو ما لم يصل إليه الغرب بعد.
لقد كان فوكو يرى في الشرق نقيض الغرب المفقود، ويرى أن فلسفة المستقبل يمكن أن تأتي فقط من خارج أوروبا. 
أما جاك دريدا، رائد المدرسة التفكيكية، فيقول الكاتب عنه: إن موقفه من الإسلام ليس بنفس وضوح موقف فوكو؛ حيث يتسم ببعض الضبابية، إلا إنها ضبابية تنسجم مع الرؤية شبه العدمية التي تتبناها ما بعد الحداثة في نقد الذات الأوروبية. 
وبوجه عام يرى المؤلف أن المنهج التفكيكي الذي انتهجه دريدا في فهم الإسلام يعتبر بمثابة قراءة إيجابية له؛ فدريدا يرفض التعامل مع الإسلام على أنه كيان واحد أصلي مما يمكنه من إلصاق هويات مختلفة به حسب السياق. فإذا ما احتاج أن يقول شيئا عن القربان في الديانات التوحيدية، فإن الإسلام هو النموذج الأمثل من بين الديانات الإبراهيمية.  وإذا كان الموضوع هو الاستخدام الديني للتكنولوجيا، فإن الإرهاب الإسلامي يمكن أن يمده بقاعدة بيانات لابأس بها. 
ثم يتطرق ألموند إلى الحديث عن سلمان رشدي ونظريته عن الإسلام الصحيح والإسلام غير الصحيح. ويفاجئنا المؤلف بأن سلمان رشدي- رغم ما قيل عن ردته- يضع الإسلام في المركز من خطابه، بينما تأتي الحداثة وما بعدها في الطرف كإستراتيجيات تعيننا على فهم المعنى الحقيقي للإسلام.
وهنا نلاحظ أن المؤلف متحيز للرؤية العلمانية "للإصلاح الإسلامي"، وهي رؤية لا تفرق بين الإسلام كمنظومة اعتقادات وشرائع ثابتة غير قابلة للتبديل، مثلها في ذلك مثل كل المنظومات المقدسة في جميع الأديان، وبين الاجتهادات الشخصية التي يؤخذ منها ويرد، وهي نفس الرؤية التي يعتنقها سلمان رشدي؛ حيث يدعو دائما- مثل غيره من العلمانيين ذوي الأصول الإسلامية- إلى اعتبار النص القرآني مجرد حدث في سياق التاريخ، وليس سلطة غيبية فوق التاريخ. 
وينتقل المؤلف بعد ذلك إلى تحليل كتابات الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي المعاصر جان بودريار عن الإسلام. ورغم هجاء بودريار للعرب والإيرانيين من أصحاب الفكر المتطرف فإنه يعرف الإسلام بأنه "المعقل الأخير للمقاومة ضد نظام عالمي أحادي الجانب على نحو متزايد". 
ومن المعروف أن بودريار قد عارض بشدة تفسير هجمات الحادي عشر من سبتمبر في ضوء نظرية صدام الحضارات، واعتبرها بودريار رد فعل للتوسع السياسي والتكنولوجي في العولمة الرأسمالية، وليس بسبب عداء متأصل نحو الغرب. 
وينتهي ألموند إلى أن القاسم المشترك بين هذه النخبة من مفكري ما بعد الحداثة- فيما يتعلق بموقفهم من الإسلام- هو إبراز المهمش أي الإسلام بإزاء الغرب، بعكس طائفة أخرى من مفكري ما بعد الحداثة من أمثال بورجز وبارث كانوا يرون في الإسلام مجرد أداة في يد الغرب لتنفيذ أهداف العولمة. 
وبرغم التحفظات على التوجه العلماني للمؤلف في فهم الإسلام فإن الكتاب في مجمله يمكن تصنيفه ضمن أدبيات المعسكر الإيجابي في خطاب الاستشراق الجديد؛ إذ ليس بوسعنا أن نطلب من باحث غربي يكتب عن الإسلام أن يكون إسلاميا أكثر من المسلمين أنفسهم.
مدارس الاستشراق المضاد
يقصد بالاستشراق المضاد ذلك التيار الناقد للاستشراق القديم، والذي استهله "إدوارد سعيد" بكتابيه الثوريين "الثقافة والإمبريالية" و"الاستشراق" ثم ما أعقبه من تيارات منتقدة للاستشراق الجديد؛ وفي هذه المدرسة نجد نوعين من الكتابات، هما:
•   كتابات المفكرين ذوي الأصول الشرقية مثل إدوارد سعيد وشهيد علام، الذين قاموا بتفكيك الخطاب الاستشراقي وتفنيده من منطلق الدفاع عن هويتهم الشرقية ضد تحيز الفكر الأوروبي.
•        وكتابات المفكرين الغربيين الذين ساروا على نفس النهج، ولكن من منطلق نقد الذات. 
ذوو الأصول الشرقية
لقد تصدى إدوارد سعيد لنقد الخطاب الاستشراقي القديم والجديد معا. وبالطبع لا يمكن القول إن سعيد قد غطى كل جوانب الاستشراق وألم بكل تخصصاته ودروبه، ولكنه تناول بالنقد ما يتصل منه بتخصصه الأكاديمي، وهو النقد الأدبي والثقافي.
ويمكن القول إن اهتمام سعيد قد انصب على ما يمكن أن نسميه "الاستشراق السردي" سواء ما كان منه في شكل نصوص أدبية قديمة وحديثة أو أعمال نقدية أو سرديات سياسية مثل خطب الساسة الأوروبيين وآرائهم وخواطرهم عن الشرق إبان الحقبة الاستعمارية. 
ويعترف سعيد بأنه قد انتهج نهجا نصيا في دراسته للاستشراق؛ نظرا لإيمانه بما للسرد من قدرة على التأثير في العقول والسيطرة عليها. كما كان إدوارد سعيد من أشد المنتقدين لبرنارد لويس ومدرسته واتهمه بعدم الموضوعية والدعائية، وهو الرأي الذي كان يؤيده فيه المنظر اللغوي والمفكر السياسي نعوم تشومسكي. 
وفي عام 2001 كتب إدوارد سعيد مقالا في مجلة الأمة بعنوان "صدام الجهل" يرد فيه على صموئيل هنتجتون ويفند آراءه متهمًا إياه بالجهل بطبيعة الحضارات التي يتنبأ بحدوث صدام بينها، ويقول إن كل ثقافة تنطوي على ديناميات وثقافات فرعية مما لا قِبل بـ"لويس" و"هنتنجتون" بالإحاطة به، وأنه من قبيل الجهل والديماجوجية أن يدعي إنسان أنه يستطيع أن يتكلم نيابة عن ثقافة بأسرها. وبدلا من ذلك يدعو سعيد إلى البعد عن مثل هذه التعميمات الفضفاضة التي لا تفيد في معرفة الذات وفهم الترابط المعقد بين الثقافات الذي يتميز به عالم اليوم. 
وعلى صعيد النقد الأدبي قدم سعيد في أعقاب 11 سبتمبر قراءة لرواية "موبي ديك" التي كتبها الروائي الأمريكي هيرمان ميلفايل عام 1851م ، يربط فيها بين أحداث الرواية وشخصياتها وبين النزعة الأمريكية للسيطرة على العالم. 
وتحكي رواية موبي ديك قصة الكابتن "أهاب" الذي كان قبطانًا للسفينة "بيجودا" في رحلة لاصطياد الحوت "موبي ديك" انتقامًا منه بسبب الحوادث الدامية التي تسبب فيها للبحارة والسفن، حيث كان "أهاب" مصرًّا على تحقيق هدفه والنيل من الحوت. 
وفي الرواية شخصيتان من أصول شرقية هما شخصية "فدالله" و"إسماعيل"، وكلاهما يتنازعان "أهاب" ما بين مؤيد للرحلة ومعارض لها، وقد كان "فدالله" حريصا على تحفيز أهاب على مواصلة مسعاه، بينما كان إسماعيل يحاول أن يثنيه عن ذلك ويحذره من العواقب.
وفي النهاية يصل "أهاب" إلى مراده، لكن الحوت يقتله. ويرمز إصرار "أهاب" على مواصلة رحلة اصطياد الحوت "موبي ديك" في رأي سعيد إلى إصرار أمريكا على إعادة تشكيل العالم وفرض قيم الديمقراطية عليه([2]) بينما يرمز "فدالله" و"إسماعيل" إلى الشرق بشقيه الموالي للطموح الأمريكي والمنشق عنه.
 شاهد عالم 
ومن بين الذين تحدوا مدارس الاستشراق الجديد في إطار النوع الأول المشار إليه من كتابات الاستشراق المضاد هو عالم الاقتصاد الأمريكي -باكستاني الأصل- شاهد عالم، الذي يعمل حاليا أستاذا للاقتصاد بجامعة نورث إيسترن الأمريكية.
ويتصدى عالم لتفنيد مزاعم الاستشراق الجديد من منظور سياسي واقتصادي بحت. ويرى أن أيديولوجية صراع الحضارات متعددة المستويات؛ فهي في المقام الأول تسعى إلى أن توضح للأمريكيين وللعالم بأسره لماذا يتعين على الولايات المتحدة والعالم كله أن يشنوا هذه الحرب ضد الإرهاب.
وثانيا: فإن فرضية صراع الحضارات التي طالما روج لها مفكرون صهاينة داخل وخارج إسرائيل تعتبر وسيلة "لأمركة" الحرب التي شنتها إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب، أي نقلها إلى المعسكر الأمريكي.
وثالثا: تعد الحرب على الإرهاب قناعا تستخدمه الولايات المتحدة لإحكام قبضتها على العالم.
وفي رأي عالم فقد استغلت الإدارة الأمريكية هذه النظرية لصرف الأنظار عن مسؤولية الولايات المتحدة عن هجمات 11 سبتمبر نتيجة سياساتها الخاطئة في الشرق الأوسط والمتمثلة في دعم الأنظمة الدكتاتورية والفاسدة في الشرق الأوسط، والتأييد غير المشروط للعدوان الإسرائيلي والحرب والعقوبات الفادحة ضد العراق منذ عام 1990.
 ويطرح عالم التساؤلات التالية: إذا كان العداء للقيم الأمريكية المتمثلة في الحرية والديمقراطية والمساواة-هو الدافع وراء قيام المسلمين بمهاجمة أمريكا، فلماذا انتظر هؤلاء المسلمون مائتي عام ليشنوا مثل هذه الهجمات؟ ولماذا أمريكا بالذات، فقيم الحرية ليست حكرا على أمريكا، فلِمَ إذًا لم يختر العرب هدفا أيسر وأقرب مثل أي دولة أوروبية مثلا؟ وإذا كان المسلمون يبغضون الحرية الأمريكية إلى هذا الحد فلماذا اندفع الشباب المسلم من كل حدب وصوب في العالم الإسلامي إلى أفغانستان لمقاتلة السوفييت أرباب النظم الشمولية؟. 
وفي أحدث كتاب له بعنوان "في مواجهة الاستشراق الجديد" يضع عالم أحداث 11 سبتمبر في سياق دينامية التفاعلات السياسية-الاقتصادية بين الغرب ودول الهامش بصفة عامة والمجتمعات الإسلامية بصفة خاصة، وليس في سياق أية ادعاءات ثقافية أو أيديولوجية عن ميول هذه المجتمعات إلى العنف([3]).
ويرى عالم أن جذور الصراع تعود إلى حقائق واقعية تتمثل في طغيان النزعة الإمبريالية وعدم التوازن الفادح في النظام الاقتصادي؛ مما يؤدي إلى تقوية الاقتصاد الرأسمالي لدول القلب على حساب دول الهامش.
الاستشراق الغربي المضاد
يتمثل النوع الثاني من كتابات الاستشراق المضاد في تلك الصادرة عن مفكرين غربيين معاصرين من غير ذوي الأصول الشرقية. ولقد انصب نقد أصحاب هذه الكتابات على الخطاب الاستشراقي والسياسات المتأثرة به والمكرسة له بدافع نقد الذات الغربية وردها إلى جادة الموضوعية. 
وقد هاجمت هذه الحفنة من الكتاب الفكرة التأصيلية في حضارة الغرب القائلة بتفوق الرجل الأبيض من حيث اللون والعرق ومن حيث امتلاكه أدوات الحضارة؛ مما أدى إلى حصر مفهوم الحضارة في الحضارة الغربية فقط، واعتبار مقياس التحضر هو مقدار السير نحو إدراك المفهوم الغربي للحضارة كما لو كان مفهوما عالميا. 
ووفقا لهذه الرؤية الناقدة للذات فإن القيم العالمية التي تحاول الحضارة الغربية فرضها على الثقافات الأخرى هي في واقع الأمر قيم شديدة الخصوصية، وبهذا تكون أوروبا قد أضفت الشرعية على عدم المساواة بين البشر بناء على هذه الأفكار العنصرية التي تعتبر الإنسان الغربي هو صانع التاريخ، بينما الشرقي هو مجرد مشاهد سلبي لأحداثه. 
ومن أهم النقاد المعاصرين للفكر الغربي المتعصب ضد الحضارات الأخرى الناقد الإنجليزي "تيري إيجلتون" والمفكر اللغوي والسياسي البارز "نعوم تشومسكي". 
ويقول إيجلتون في كتابه "فكرة الثقافة" والذي صدرت أحدث طبعة له عام 2006: إن فكرة الثقافة نفسها هي فكرة عنصرية حيث لم يظهر مصطلح الثقافة-بالمعنى الأنثروبولوجي- في اللغات الأوروبية إلا في بداية القرن التاسع عشر. 
ويلاحظ إيجلتون أن مصطلح الثقافة يستخدم غالبا بهذا المعنى مقترنا بشعوب العالم الثالث؛ إذ كثيرا ما نسمع عبارات مثل "الثقافة العربية" و"ثقافات العالم الثالث" ولكن قلما نسمع عن "الثقافة الأمريكية" أو "الثقافة الأوروبية" بهذا المعنى الأنثروبولوجي([4]).
 وقد صدر لإيجلتون كتاب في أعقاب أحداث 11 سبتمبر بعنوان: "الإرهاب المقدس" يقول فيه إن الإرهاب لا يمكن القضاء عليه إلا إذا تم فهم كل تعقيداته أولا: "إن الاعتقاد الفعلي بأن عدوك لا عقل له، بخلاف التظاهر بمثل هذا الاعتقاد لأسباب دعائية، كفيل بألا يجعلك تنتصر عليه أبدا، فلا يمكنك أن تنزل الهزيمة بخصمك إلا إذا فهمت الطريقة التي يرى بها الأشياء"، وهو بذلك ينتقد الديماجوجية التعبوية التي تسبب فيها خطاب المدرسة الثقافية؛ ولذا فقد لاقى كتابه هجوما شديدا من أنصار هذه المدرسة وصل إلى درجة اتهامه بالخيانة.
أما نعوم تشومسكي فقد ألقى عدة محاضرات في أعقاب أحداث سبتمبر يفند فيها خطاب مدرسة لويس وهنتنجتون، ويعارض قرار الإدارة الأمريكية بغزو العراق. وقد جمع هذه المحاضرات بعد ذلك في كتاب بعنوان "القوة والإرهاب" ضمنه عددا من التحليلات ودراسات الحالة والمقارنات التاريخية التي يدلل بها على خطأ قرار الإدارة الأمريكية، إلا أن دعوته لم تنل آذانا واعية من هذه الإدارة أو النخب الفكرية والأكاديمية في الولايات المتحدة التي كان يؤيد معظمها قرار الغزو.
 ومن العبارات الشهيرة التي جاءت في محاضرات تشومسكي: "إنه لا يمكننا أن نخاطب إرهاب الضعفاء ضد الأقوياء إلا إذا قمنا كذلك بمواجهة إرهاب الأقوياء الأكثر تطرفا ضد الضعفاء، رغم أن التوقيت قد لا يكون مواتيا للحديث عنه الآن". 
الكتابات المشتركة
ثمة نوع ثالث من الكتابات يجمع بين النوعين السابقين من كتابات مدرسة الاستشراق المضاد؛ ففي عام 2007 صدرت دراسة مشتركة بين جون إل إسبوستيو أستاذ الأديان والشؤون الدولية بجامعة جورج تاون وداليا مجاهد المدير التنفيذي لمركز "جالوب" للدراسات الإسلامية بعنوان "من يتكلم باسم الإسلام؟"([5]) وهي دراسة جديدة من نوعها تحاول تصحيح الصورة الشائهة التي رسمها الإعلام السياسي الغربي وصدرها للإنسان الغربي.
ويتبع الكتاب منهجا إمبريقيا يعتمد على جمع البيانات في شكل استبيانات تحتوي على أسئلة لمجيبين في العالم الإسلامي لمعرفة رأيهم تجاه القضايا الأساسية التي تؤرق الغرب من حيث علاقته بالإسلام مثل: قضايا الديمقراطية والموقف من الإرهاب، واستبيانات أخرى موجهة لمجيبين أمريكيين لمعرفة توجهاتهم نحو الإسلام ومدى تأثرها بالصورة التي ترسمها أجهزة الإعلام عن العالم الإسلامي.
ومن خلال التحليل الإحصائي للبيانات تخلص الدراسة إلى أن الغالبية العظمى من الأمريكيين إما لديهم انطباع سلبي عن الإسلام وإما لا يعرفون شيئا عنه البتة.
أما عن المسلمين الذين شملتهم الدراسة فقد أظهر الغالبية العظمى منهم رغبة في إقامة حوار حضاري مع الغرب، ولكن الغالبية أيضا أبدوا استياءهم من سياسة المعايير المزدوجة والكيل بأكثر من مكيال من جانب السياسة الغربية نحو الإسلام وخاصة فيما يتعلق بالموقف الغربي من الديمقراطية في العالم الإسلامي؛ إذ بينما يدعو الغرب إلى تطبيق قيم الديمقراطية والحداثة في الشرق فإنه يؤيد الأنظمة الديكتاتورية والثيوقراطية التي تدعم مصالحه.
 وتستشهد الدراسة هنا بمقولة كينيث روث: "إن أمريكا تدافع عن الديمقراطية حيثما أعجبتها النتائج". 

 [1]Jackson, Roy.2006.Nietzsche and Islam.Routledge Publishing,Milton Park,UK.p65
 [2]
Jean-Franc¸ois Leroux:Wars for Oil: Moby-Dick,Orientalism, and Cold-War Criticism, Canadian Review of American Studies/Revue canadienne d’e´tudes ame´ricaines 39, no. 4, 2009
[3]
Challenging the New Orientalism: Dissenting Essays on the 'War Against Islam' " :: Book Review :by Nina Gera (Friday, October 31, 2008),Monitors Network. 
 [4]
Eagleton, Terry.2006.the idea of culture.Blackwell Publishing,Malden,USA
 [5]
John L.Espostio and Daila Mogahed,Who speaks for Islam? what a billion Muslims really think,Gallup Press.2007,P.5-15

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.