16 يونيو 2011

مقال لغوي طريف: في أصل الهمزة... عبدالرحمان الصبّاغ


"إن أقصى الحروف كلها العين ثم الحاء، ولولا بحة في الحاء لأشبهت العين لقرب مخرجها من العين، ثم الهاء، ولولا هتة في الهاء….لأشبهت الحاء لقرب مخرج الهاء من الحاء، فهذه ثلاثة أحرف في حيز واحد بعضها أرفع من بعض" (الفراهيدي)
+*+*+*+*+*+**+*+**+*+*
على الرغم من صغرها فهي تتسبب في مشاكل عديدة تكاد لاتحصى لكاتبي العربية شيبا وشبانا، وقلما كتب عن حرف من حروف اللغة مثلما كتب عنها بالرغم من أنها لاتعتبر واحدا منها ولا حتى حركة شكل من التي نعرفها، وهذا هو بالذات سبب ومصدر الخلط والحيرة. فالهمزة بالرغم مما تسببه من وجع دماغ لايمكن الأستغناء عنها أبدا فهي تفرض نفسها بقوة وتأبى كل محاولات الترويض والتطويع والتصنيف، فهناك من نادى بأعتبارها الحرف التاسع والعشرين بدءا من سيبويه الى آخر يقول بأنها مجرد علامة حركة, ولكنها كانت دائما ترفض أن توضع ضمن أي من الخانتين ذلك انها في الحقيقة علامة فريدة من نوعها تتميز بالحركية عكس الحروف الصحيحة والمعتلة الثابتة اللفظ ، أو تلك الحركات والأشارات التي اعتدناها. والهمزة من ناحية أخرى تلازم في أغلب الأحيان حروف العلة وتتزاوج معها بسهولة كالأليف والواو والياء وأحيانا تكون لوحدها دونما رفيق . فما سر هذه العلامة وما هو أصلها… ؟



لقد كتب الكثيرون عن الهمزة ومنذ بدايات وضع أسس وقواعد النحو العربي واستخدام حركات الشكل والتنقيط والعلامات في الكتابة وذلك لغرض تقنين وتسهيل كتابتها في مواقعها الصحيحة ، وتعددت وتعقدت القواعد والطرق في ذلك حتى أصبحت تحتاج هي نفسها الى مفاتيح لفهمها وفك رموزها. وهي بالرغم من تشبثها بتقديم الحلول في طرق كتابة الهمزة والتوصل نوعا ما الى نتائج مهمة ، بقيت في مجملها تتجه الى الباحثين واللغويين والكتاب المحترفين دون كاتبي العربية من جمهور الناس والطلاب منهم بشكل خاص ، والسبب يعود لأنصباب هذه الدراسات الزائد على ايجاد قواعد عامة لتثبيت كتابة الهمزة دون النظر لصاحب القضية وطبيعته بحد ذاته أي الهمزة نفسها ، مثلهم في ذلك مثل من يصنع قفص دجاج ليضع فيه فراشة.


لايمكن حل المشاكل التي تتعلق بكتابة الهمزة دون معرفة أسباب تواجد هذه العلامة الفريدة ضمن الأبجدية العربية لأن في ذلك أساس الحل الفعلي . فمن خلال دراستنا وتتبعنا لجذور الكثير من المفردات في اللغة العربية و لما آلت وتطورت اليه في مراحل لاحقة وخصوصا بما طرأ عليها من تخفيف في لهجاتها الشمالية والغربية لبعض حروفها الصميمة والقوية في المراكزالمدنية البعيدة خاصة , تلك الواقعة على ضفاف الأنهار والمناطق الزراعية الخصبة , والتي تنعم بالحياة الناعمة والطبيعة الوارفة بعيدا عن حياة البادية ذات الطبيعة القاسية ، هناك حيث طرأت تغيرات تدريجية على طبيعة أصوات الحروف سارت بها نحو التخفيف والتنعيم والاختزال ، اذ تنتقل أصوات الحروف من شكلها الأصلي الى حروف مقاربة لها بالصوت ولكن أخف وأقل فخامة فالحاء تصبح هاءا والصاد سينا والطاء تاء والقاف غينا أو جيما أوكافا…….الخ، كما هوالشأن في الكثير من لغات العالم . أما في حالة الهمزة فصوت الحرف الأصلي لم يتطور ليأخذ شكل حرف آخر مخفف ثابت ومعروف في الأبجدية وانما الى علامة هي الهمزة ترمز الى صوت مخفف ينطق من أسفل البلعوم قريبا جدا من منطقة مخارج أصوات حروف العين والهاء والحاء المترتبة بالتوالي نحو أعلى البلعوم . ولاتنطق الهمزة كصوتا منفردا الا ما ندر فهي عادة ما تنطق مصاحبة لأحد حروف العلة المتقدمة وهذا هو السبب الرئيسي في عدم اعتبارها حرفا قائما بذاته. كما لايمكن أعتبارها حركة لأنها تتغير بتغير مواقعها وبتغير الحرف الملازم لها ، كما أنها هي نفسها يمكن أن يوضع عليها علامات الضم والفتح والتنوين والسكون والنصب…، فالهمزة اذن هي شبه حرف أوهي بالأحرى علامة تشير الى صوت حرف صحيح مخفف لأحد الحروف الثلاثة التالية العين والهاء والحاء أو الى الهمزة نفسها كصوت أصلي في الكلمة , وهذا نادر الحصول لأن أغلب أصوات العربية عدا الحروف المعتلة الثلاثة هي في الواقع صحيحة وقوية. ان واقع الحال يظهر بأن الهمزة بعد أن خففت من أحد مصادرها الثلاثة المذكورة آنفا والتي يتقدمها بوضوح حرف العين كما سنرى أصبحت حرفا طائرا تبحث عن موضع ترتكز عليه فلذا نجدها تقف تارة على الواو وأخرى على الأليف أو تحته وأحيانا تستطيل فتصبح مدة ، أو نجدها فوق الياء بعد أن تكون قد طردت نقطتيه التي لم يعد له بهما حاجة فالياء الوسطية هنا هي مجرد كرسي لتجلس عليه الهمزة . ذلك ان هذه الهمزة بعد أن فقدت حرفها الصحيح الذي تطورت عنه أصبحت وكأنه لم يعد لها مكان بين الحروف الصحيحة القوية بعد أن تغير الصوت ليصبح صوت همزة وهو صوت خفيف لايرقى لمصاف أصوات الأبجدية الصحيحة لذا تراها لجأت لأحد حروف العلة ترافقه ليعطيها قوة مافقدت من حجم واستمرارية صوتية. أن أغلب الحالات التي تحول فيها صوت الحرف الى همزة هو صوت العين وقليل منها فقط يختص بالهاء والحاء كما هو واضح من خلال بعض الأمثلة الواردة في الجدول التالي


ضعن = ضأن

يجعر = يجأر

يسعل = يسأل

رحوم = رؤوم

معونة = مؤونة

قرعان = قرآن

رهيف = رئيف

عصفر = أصفر

درع = درء

التحم = التئم

عاشور = آشور

فجعة = فجأة

ضحالة = ضئالة

عيل = أيل

بدع = بدء

عازر = آزر

بارع = باريء

يعبه = يأبه

على = الى
لقد تناولنا في الأمثلة السابقة مفردتان محليتان شائعتان في بعض لهجات الجزيرة لحد اليوم كمفردة قرعان بدل قرآن ويسعل بدل يسأل لتبيان ان هذه الكلمتين أنحدرت من لهجات لازالت متداولة لحد اليوم في بعض المناطق وهذا يعني أن الكثير من المفردات كانت فيما مضى من الزمن على هذه الشاكلة ولكن لفها النسيان وطمرت ولم يبقى ما يذكر بها سوى ما تطور عنها أوتولد منها من مفردات جديدة من ضمنها تلك التي تتميز بأحتوائها على الهمزة، فالهمزة دليل فريد بأننا لاشك أمام كلمة تولدت عن أخرى أقدم منها. يبقى أن نشير ان كلمة همزة وهي تعني فيما تعنيه في اللغة همز ومهماز أي بمعنى وخز وشك الدابة أو الشيئ ربما يعود الى شكل رسم العلامة التي تشبه مهماز الفرس المدبب الطرف أو لأن هذه العلامة تدخل على حرف العلة فتهمزه بمعنى تشكه فيتحرك. وفي كل الأحوال لايخفى على الناظر ان شكل علامة الهمزة مطابق تماما لحرف العين وهذا ما ينطبق تماما على دور الهمزة فهي اشارة واضحة وذكية كونها قبل كل شيئ حرف عين مصغرة ومخففة. ان فهم الهمزة من هذا المنظور يجعل كتابتها مرتبطة بأصل المفردة وتطورها , ويجعل القواعد الخاصة بها أقرب للواقع وأكثر اقناعا ومن ثم أبسط فهما.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.