20 يونيو 2011

مقال: تجديد النظر في المنهج النقدي التاريخي (قراءة في المتداول وحفرية أولية في المغمور)... العربي بن ثائر

 يجب أن يُؤْخَذَ من دَواة كل مؤلِّف الحبر الذي يراد رسمه به.

(سانت بوف)
 إنه لمن المفارقات الساخرة أَلاّ تُدرَّس إلاّ الآداب المسيحية والمونارشية في المؤسسات التربوية لمجتمع ديمقراطي !
(غوستاف لانسون)

*مقدمة:

لعلّه من المجدي إجرائيا أن ننزّل هذا العمل في إطاره الفكري فنبيّن اندراجه ضمن إشكالية الوعي بأهمية هذا المنهج، واضعين في الاعتبار التمييز بين منزعين اثنين يحكمان الوعي به يمكن النظر إليهما كمستويين أو بعدين نظنّ أنّ الدرس النقدي في الأدب أو في الفكر يتجه إلى إيجاد ضرب من  التآزر بينهما للكشف عن خبايا العمل الفكري أو الأدبي.

 أما المنحى الأوّل فهو النظر إلى المنهج التاريخي على أنه أداة لسبر التاريخ "الموضوعي" للحدث الأدبي- بما أن الحديث يكاد ينحصر في مقالنا هذا في الأدب- ويعني ذلك أنّ المنهج التاريخي هو تلك الزاوية التسجيلية التحليلية التي ينظر الناقد من خلالها إلى العمل الأدبي أوالفكري على أنّه كتابة في زمن/ تاريخ ما عن أحداث فكرية أوعاطفية أو خيالية أو حتى تاريخية دارت في العالم الروائي أو الشعري أو الفكري عند ذلك الأديب أو الشاعر أو المفكر...إلخ، ويكرِّس همّته عندئذٍ لملاحظة المعطيات ورصفها وتنظيمها وتحليلها في صرامة علمية فائقة وتقص دقيق ومرهف بدا عند الكثير من النقاد، لكن كل ذلك دون النزوع إلى التأويل.


 وأما المنحى الثاني فأنْ يتّخذ الناقد المنهج التاريخي أداة لسبر التاريخ "الوجودي" للعمل الأدبي- إن صح التعبير. وهو مستوى يتميز بميزتين لا تنفصمان: الأولى وعي الناقد نفسه بفعل اللحظة الوجودية فيه هو ذاته وإدراكه لمقتضيات التأويل في الاشتغال على العمل المراد نقده، والميزة الثانية تتمثل في وعيه أيضا بأن ما صنعه الكاتب هو ما يتجاوز الوثيقة التي جاءتنا من تاريخ ما وواقع ما لتعبر عن معطيات معينة لا كشاهدة على حدث أو قضية، أو ناقلة لخبر، أو مترجمة عن نوازع إلخ،،، بل  بما هي تصميم أو تخطيط وقرار برسم واضعها لملاحقة أو معايشة لحظة ما من الممكن الوجودي الذي يعيشه الكاتب بطريقة ما ووفق الظروف الحافة بذلك الممكن الذي بات بعد صدور ذلك القرار "متحققا تاريخيا". فأي نوع من المنحيين ساد المنهج التاريخي؟


وقفات عند النشأة والتطور

لا ندعي أننا سنأتي في هذه الوقفات بالجديد غير المسبوق، ولكننا نزعم أننا سنسعى إلى تركيز النظر بإيجاز على العوامل الحقيقية والدقيقة التي أنشأت هذا المنهج، وأسهمت في تطوره ونضجه، وتلك التي قاومت بعض توجهاته ووقفت في وجه فلسفات استقى منها أسسه ومنطلقاته.

الوقفة الأولى - المنهج التاريخي وليد العصر الحديث:

نعتقد بادئ ذي بدء أن المنهج التاريخي وليد للعصر الحديث نافين أنه قديم قدم تفكير الإنسان في ظواهر الزمان والمكان؛ فهذا المنهج وما هيأ له ورافقه من مناحي الدرس النقدي - كالانطباعية والطبيعية والتطورية وسواها مما سيأتي بيانه- قد مثّل منعرجا مُهمّا في تاريخ النقد الأدبي ([1]) ذلك أنّ ما يُلمس من ملاحظات تاريخية نقدية قبل العصر الحديث يعدُّ في أحسن الأحوال تمهيدا له.

 إن البحث في الأدب قبل استقرار المنهج التاريخي ونضجه لا يتجاوز ذكر حياة المؤلف وتحديد منزلته في مجتمعه بالاعتماد على ما يستطيع الناقد أن يستقيه من الأخبار، ثم ضبط كشف بمؤلفاته وذكر لمحة عنها، وتلخيص بعض المعاني الواردة في أعمال المؤلف التي يُظن أنها مهمة، مع شيء من الوقوف عند ما يُرى لافتا من الأوجه اللغوية والبلاغية.

وقلما حاول النقاد استكناه نمط العلاقة بين المؤلف وعصره، وعندما كانوا يتعرضون إلى ذلك، غالبا ما كانوا يرتكبون أخطاء تبعث على الاستغراب؛ كذلك فعل "فولتير" مثلا- على الرغم من جلال قدره كفيلسوف- حين وصف عصر "شكسبير" بالمظلم المسودِّ ([2])، فأساء إليه من حيث كان يقصد في الحقيقة إعلاء مكانته وإبراز عبقريته بالمقارنة مع غيره من معاصريه.

ونزعم أيضا أن الدراسات الأدبية في العصر الحديث قد خضعت للخط التطوري نفسه الذي حكم جلّ العلوم الإنسانية كالدراسات الاجتماعية والحقوقية والتاريخية؛ فقد وُلِدَتْ في القرن التاسع عشر من رحم الفلسفة التجريبية والوضعية خاصة، إلى جانب روافد أخرى كفلسفة التاريخ الهيجلية، وفلسفة الشك الديكارتية، إلا أن المجال يضيق عن تقصي كل الروافد. وبقيت هذه الدراسات طويلا خاضعة لمبدأ السببية أساسا، وحتى لمبدأ الحتمية؛ فقد كانت تبحث عن تفسيرات للأعمال التي تدرسها انطلاقا من مبادئ ثلاثة شهيرة: العرق والبيئة والزمان، وسيأتي شيء من التفصيل عنها في بابه.

الوقفة الثانية - منابع المنهج التاريخي التجريبية والوضعية:

نرى أن هذا المنهج نتاج للفلسفة التجريبية([3]) والوضعية([4])؛ نظرا لتقاربهما الفكري في الأسس والمنطلقات والنتائج ، فكيف كان لذلك؟

يُعتقد أن في أساس نشأة هذ المنهج خلافا فرعيا دار بين النقاد، له صلة أولية بالبعدين أو المستويين اللذين أشرنا إليهما في المقدمة، وكان ذلك الخلاف حول رأيين لدراسة الأدب والشعر:

-   رأي يذهب إلى أنّ معرفة الأديب أو الشاعر تُستقى من خلال بيئته التي نشأ فيها وما يحمله من غبارها وآثارها وهو أقرب إلى المنحى الأول؛ أي التاريخ بالمعنى"الموضوعي" الذي يستند إلى الفلسفتين التجريبية والوضعية.

-   أما الرأي الآخر فيؤكد وجوب معرفة الأديب من أدبه والشاعر من شعره، ومنهم سانت بوف الذي يقترح أن "يؤخذ من دواة كلِّ مؤلِّف الحبرُ الذي يُراد رسمُه به" ([5])، وهذا الرأي بميسمه الانطباعي الظاهر، أقرب إلى المنحى الثاني؛ أي التاريخ بالمعنى الوجودي وإن كان لا يتطابق معه فكريا على مستوى التأويل الفلسفي الوجودي.

وفي هذا الخضم يبدو أنّ الغلبة كانت لفلسفة "توماس هوبز" (1588- 1679) و "جون لوك"(1632 - 1704) التجريبية على النزعات الذوقية في مرحلة أولى، وسرعان ما عززتها الفلسفة الوضعية التي سنها "أوغست كونت"1857) -  (1898 في مرحلة تالية. فكان من آثار سيطرة التجريبية "أنْ نادى بعض مؤرخيها ونقادها بوجوب تطبيق مناهجها وقواعدها على الدراسات الأدبية، وحاول بعضهم أن يضع للأدب قوانين كقوانين الطبيعة"([6]). وكان من آثار الوضعية رفض القضايا الميتافيزيقية واعتبارها زائفة، وقصر الاهتمام على قضايا الحياة والمجتمع([7]) .

وعلى أية حال يمكن القول إن مبادئ المدرستين التجريبية والوضعية شكّلت المَعين الذي يستقي منه الدارسون منطلقاتهم بهذه الدرجة أو تلك واستقرت ردحا من الزمن دون أن يلحقها تغيير عميق يُذكر حتى ما بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918) بسنوات قلائل. فهل ستبقى الساحة للفلسفة الوضعية، والاتجاهات المبنية على مبادئ السببية والحتمية والطبيعية والتطورية...إلخ، أم ستخلف الحرب ردود فعل تجاهها ؟

الوقفة الثالثة- هزة فلسفية ضد الوضعية والتجريبية:

لقد ألمعنا آنفا إلى أنه لم تكد الحرب الأولى تضع أوزارها حتى هبّت في جميع أنحاء أوروبا موجة ردود فعل قوية ضد الفلسفة الوضعية. لقد ذكَّرنا "رنيه وليك" -الذي أعاد رسم مسار التاريخ الثقافي لتلك الحقبة – بالكيفية الصارمة التي تصدى بها مجموعة من الفلاسفة والمفكرين لهذه النظرية، واضعين أسسها ومبادئها على محك السؤال، معيدين النظر خاصة في مبدئي السببية والحتمية. ومن هؤلاء نذكر خاصة: "برغسون"  Bergson ، و"دلتاي" Dilthey، و"وايتهيد"Whitehead، و"كروس"Croce، وبعدهم بفترة علماء "الجشطالت" Gestalt النفسانيين([8]).

لقد دعا هؤلاء الفلاسفة والمفكرون لتوّهم – أعني بعد الحرب الأولى لأسباب ليس هذا مجال تحليلها، وإنما يمكن ذكر إلحاحهم على معالجة ما خلفته الحرب من دمار نفسي وفكري- إلى البحث في إنسانية الإنسان، ونقد برود العلم حين لا يكون مستندا إلى مبادئ روحية، والسعي إلى الإطاحة بكل الحتميات التي تتحكم في مصيره، ذاهبين إلى أن موضوعات العلوم الإنسانية لا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن تتماهى مع موضوعات علوم الطبيعة، وأن الظاهرة الإنسانية تبرز للعيان في صورة وحدة كلية دائما، لا كما لو كانت عناصر منفصلة في الأصل ثم يتم جمعها. ولكن ، وإن كان المنهج التاريخي قد استمد أصوله من التجريبية والوضعية، فهل كان لهذه الهزة الفكرية تأثير فيه؟  

-الوقفة الرابعة: مدى تأثير ردود الفعل في المنهج النقدي التاريخي:

مما يلفت الانتباه أنّ بعض الجامعات الأوروبية كانت بمنأى بعض الشيء عن التأثيرات المباشرة للتيارات الفلسفية والعلمية لأسباب تتعلق خاصة بمسار تطورها وتراكم خبراتها الأكاديمية على مدى العقود، وبالتحديد تلك الجامعات التي تعنى بتخريج المعلمين، والتي تنكبُّ على دراسة الأعمال الأدبية باستمرار لغايات تربوية، بحكم خططها الدراسية التي تركز كثيرا على الاشتغال على النصوص تطبيقيا؛ ممّا يجعل تعاملها مع تلك التيارات غير خاضع تماما للمصادرات والفرضيات الفكرية والفلسفية والعلمية التي تدعو إليها، دون أن ننفي وجود تأثيرات غير مباشرة أو جزئية وجانبية.

 وليس من قبيل الصدفة أن بقيت مادة "شرح النص" إلى يومنا هذا في المؤسسات التربوية والأكاديمية حجر الزاوية وإحدى أهم الأدوات البيداغوجية والتعليمية في التكوين التعليمي عامة وفي شعب الآداب والعلوم الإنسانية خاصة. إن الدراسات الأدبية –والفرنسية خاصة- احتفظت دوما بمسافة نقدية تجاه الفلسفة الوضعية لكنها ظلت دوما تقابل ردود الفعل العنيفة تجاه المدرسة الوضعية باحتراز وتحفّظ([9]).

 وإذا باتت منهجية النقاد التاريخيين (أمثال سانت بوف وتين ورينان وأضرابهم...) ممن سيأتي ذكرهم في المحور اللاحق تحت مجهر إعادة النظر حتى في الجامعات المذكورة والمؤسسات الفكرية والثقافية التابعة لها أو ذات الصلة بها، فنظنّ أن ذلك لم يكن ثمرة مباشرة من ثمار مصادرات وفرضيات التيارات الفلسفية الجديدة بالضرورة، بل لعل الأقرب أن يكون ذلك نتاجا لحساسية فنية أدبية لا تفقد الصلة المباشرة بالنصوص أبدا؛ أفلا يكون المنهج نتاج التأمل في النصوص، وخبرة معاشرة طويلة لها، بل لعل أغلب المناهج النقدية في العصر الحديث مؤسسية النشأة: تولد أول عهدها في الجامعات العريقة ومؤسسات البحث التابعة لها فتنشأ نشأة أكاديمية لغايات إجرائية أكثر منها استجابة لدواع فكرية أو حاجات اجتماعية، ثم تذاع بعد ذلك في الناس حتى أن بعضها يتحول بعد اتساعه تيارا فكريا أو مذهبا في الفن والأدب أو غير ذلك من صنوف التطور والانتشار.

ولكن نودّ في هذا المقام أن نلتمس مزيدا من الدقة ونحن نسبر هذا المنهج فنتساءل: هل كان كل نقاده منسجمين في تيار موحد فاتسموا بالتناغم، أم كانت بينهم اختلافات أدت إلى التنافر؟

( في تعددية الأفنان: بين تنافر وتناغم )

1. أفنان المنهج النقدي التاريخي:

كثيرون هم النقاد الذين عُرفوا كأنصار لهذه المدرسة وبرز لديهم التوجه العلمي التجريبي والوضعي في دراستهم للأدب ولكننا نكتفي بذكر أهم الأعلام: "إرنست رينان" (1823- 1892) و"سانت بوف" (1804- 1869) و" هيبوليت تين" (1828- 1893) و"فرديناند برونتيار"   (1849-1906) والمتأخر منهم زمنا وأشهرهم على الإطلاق وأكثرهم تمثيلا للمنهج التاريخي غوستاف لانسون (1857-1934).

ونشير في هذا المقام، ومنذ البداية أيضا إلى أن بعض الدارسين النابهين- وهو يقرّ بالقواسم المشتركة التي تجمع هؤلاء النقاد- يرى بينهم "فروقا ودقائق جوهرية في بعض الأحيان". ولتعليل جمْعهم تحت لواء المنهج التاريخي يقول: " ولكننا نجوِّز لأنفسنا عدّها (يعني الفروق) ثانوية بالنسبة إلى المنحى العام الذي نحاه التعامل مع الأدب في هذه الفترة التاريخية" ([10]).

وقبل التعرض لهؤلاء النقاد والمناحي المخصوصة التي اتخذوها، نكتفي بذكر خلاصة رأي أحد الدارسين فيهم إذ يعتقد  أنّهم سعوا إلى الحدّ من الإسراف في الاعتماد على الذوق الأدبي الشخصي وكل ما يتّصل بأحكامه في مجال دراسة الأدب، ووضعوا قوانين زعموا أنها ثابتة للأدب ثبات قوانين العلوم الطبيعية، وعملوا على تطبيقها على كل الأدباء، كما تطبق قوانين الطبيعة على كل العناصر والجزيئات([11]). وسنكتفي في هذا العجالة بأربعة نقاد اشتهروا عند أغلب الدارسين.

1-1.سانت بوف بين المنحى الانطباعي والفلسفة التجريبية: 

المزج بين التجريبية والانطباعية في النقد الأدبي عُرف أكثر ما عرف عند سانت بوف (1804-1869) Sainte Beuve. لقد ظهر تأثره بالاتجاه العلمي التجريبي في دعوته إلى "دراسة الأدباء دراسة مستفيضة تقوم على بحوث تفصيلية لعلاقاتهم بأوطانهم، وأممهم، وعصورهم، وأسرهم، وآبائهم وأمهاتهم، وتربيتهم، وأمزجتهم، وثقافاتهم، وتكويناتهم المادية والجسمية، وخواصهم النفسية والعقلية، وعلاقاتهم بأصدقائهم، ومعارفهم. ودراسة مراسلاتهم، والتعرف إلى كل ما يتصل بهم من عادات وأفكار ومبادئ، مع محاولة تبين فترات نجاحهم وإخفاقهم وجوانب ضعفهم، وكل ما اضطربوا فيه طوال حياتهم([12]) حتى كأن الكاتب حقل تجربة علمية ليتبين الدارس أي العوامل أكثر تأثيرا في إبداعه.

 إلا أن "سانت بوف" كان يعوِّل إلى جانب ذلك على ما في الإنتاج الأدبي نفسه من دلالة على مؤلِّفه، فكانت أحكامه النقدية منصبة على شخصيات المؤلفين تحديدا؛ ووظيفة الناقد الرئيسة عنده هي النفاذ إلى ذات المؤلف حتى يصير شفافا، فيفهمه قراؤه حق الفهم.

 هذه هي الانطباعية أو التأثيرية كما تمثَّلها سانت بوف؛ ولهذا يذهب بعض الدارسين إلى أن ملامح النقد الانطباعي والاهتمام بالشخصية المبدعة ودواخل نفسها سيكون من أخص خصائص المنهج التاريخي لاحقا، وهذا ليس بالأمر الغريب؛ لأن منهج لانسون– وسيأتي تحليله- كان قد تضمّن مجموع التجربة النقدية التي سادت خلال القرن التاسع عشر، حيث اتكأ إلى تاريخ الشخصية المبدعة، واستند أيضاً إلى أهمية توظيف الذوق الشخصي في معالجة النصوص ([13]).

  إن سانت بوف "يؤكد على المبدأ الذي يطابق بين العمل الفني والشخصية المبدعة" ([14])، وإذا تم كشف ذلك كله في الأديب "أمكن للناقد أن يميز بين الفردي والجماعي في عمل الكاتب، ليصور في النهاية علاقته بالنص، وتأثير الجماعة فيه" ([15]).

   ولكن بالرغم من حرصه على الاستفاضة والإلمام، فقد برزت في منهجه نقاط ضعف لمسها الدارسون ومنها ما ركز عليه "مارسيل بروست" وهو يحاول أن يعيد النظر في بعض التقنيات والوسائل النقدية التي سادت خلال القرن التاسع عشر: فقد كان يرى أن هذا المنهج عقيم؛ لأنه يجهل أن العمل الإبداعي ليس دائماً من "ذات" الكاتب التي يظهر بها أمام الناس، فقد يكون من إبداع "ذات" مناقضة لذلك تماماً ([16])، بل لعله يكون أكثر ما يكون كذلك، سعيا وراء التخفي حينا والظهور آخر، الوضوح تارة والغموض طورا ومخاتلة القارئ، وغير ذلك من تقنيات العمل الأدبي.

1-2. هيبوليت تين والمنحى الطبيعي- الوضعي:

تنسب المدرسة "الوضعية"  إلى الفيلسوف أوغست كونت. ومع هيبوليت تين(1828-1893)Hyppolyte Taine شهد هذا المنهج اقتحاما لعالم الأدب، فهذا الناقد يستلهم نظريته من مبدأ تأثير البحوث العلمية في الأدب والفن، وهو لا شك مبدأ من أهم أسس الفلسفة الوضعية في عصره كما هو معلوم. وكذلك من مبدأ التأثير المتبادل بين العوامل الطبيعية والنفسية ([17]) . ويمكننا أن نبوب أسس نظرية "تين"  النقدية كالآتي:

- العرق (الجنس أو القومية):La Race  
 ويقصد به: مجموع الاستعدادات الفطرية التي تميز مجموعة من الناس انحدروا من أصل واحد. وهذه الاستعدادات مرتبطة بالفروق الملحوظة في مزاج الفرد وتركيبه العضوي.
- البيئة (الوسط الجغرافي والاجتماعي): Le Milieu
وهي العامل الثاني المؤثر في أدب أية أمة: ويقصد بها الوسط الجغرافي والمحلّي الذي ينشأ فيه أفرادها نشوءا يُعِدُّهم ليمارسوا حياة مشتركة في العادات والأخلاق والروح الاجتماعية.
- الزمان (اللحظة التاريخية): Le Moment
وهو الأحداث السياسية والاجتماعية التي تكوِّن طابعا عاما يترك أثره في الأدب.

 ولتلخيص ما تقدم من مبادئ  نورد ما ذكره بعض الدارسين من أن هيبوليت تين "اعتبر الأدب ظاهرة طبيعية، وطبّق في دراسته مناهج العلوم البيولوجية والاجتماعية، ورأى أن أي عمل أدبي هو وثيقة عن إنسان يحكمه العِرْق والعصر والبيئة. ومع ذلك فإن مفهومه عن التطور كان أقرب إلى هيجل منه إلى الطبيعيين، والأدب يتبع حركات المجتمع التاريخية، ويرتبط باللحظة، أي روح العصر" ([18]).

وقد أخذ بعضهم على نظرية "تين" عدم تقديرها للنبوغ الأدبي حق قدره، ففي الإسراف في رد الإبداع إلى البيئة والظروف الخارجية، والظن بأنها هي التي تحدد نوعيته ومستواه، إن في ذلك نبوّ عن الحقيقة وغفلة عن أن هذه البيئة كثيراً ما تجمع مبدعين متفاوتة أعمالهم، فينبغ أحدهم وينتج أعمالاً غاية في الجمال، ويظلّ آخرون غير قادرين على بلوغ مستوى راقٍ، وكلهم خضعوا للمؤثرات الخارجية نفسها، الأمر الذي يتطلب إيلاء الموهبة الفردية في الإبداع الأدبي حقها في تفسير النبوغ ([19]).

1-3. فرديناند برونتيار  والمنحى التطوري:

وبعد "هيبوليت تين" يبرز الناقد الثالث الشهير، إنه "فردنياند برونتيار" Ferdinand Brunetière (1849-1906) . كان هذا الناقد أستاذا بدار المعلمين العليا ومديراً لمجلة المعلمين، ونشر في النقد وتاريخ الأدب ثماني مجموعات متكئا في منهجه النقدي على العلوم البيولوجية، والداروينية على وجه الخصوص؛ فمؤلفاته كلها تشهد بحرصه على أن يؤكد دائماً العلاقة بين العلوم الطبيعية وتاريخ الأدب مشبِّهًا الأجناس الأدبية بأصناف تولد، وتختلف وتتعقد، وتصل إلى القمة ثم تنحدر وتموت، شأنها  في ذلك شأن الفصائل الحيوانية. وعلى الناقد أن يرصد هذا المنحى التطوري الذي يتحكم في الإنتاج الأدبي ([20]).

لقد طبق برونتيار نظريته على ثلاثة مجالات هي المسرح والشعر الغنائي والنقد الأدبي منبِّهًا إلى أنّ نظرية التطور في الأدب والنقد لا ترمي إلى بعث الماضي لمجرد بعثه، بقدر ما تستهدف استنباط قانون يمكن أن يفسّر المعاناة الفنية في مراحل التطور الاجتماعي: إنّ هذا القانون من شأنه أنْ يوضح تسلسل العوامل وردود فعلها في المنجَز الأدبي طوال رحلته عبر الزمان والمكان آخذة أو معطية؛ متحركة أو واقفة، موجِدة في آخر الأمر نوعاً جديداً يجمع عناصره من بقايا نوع سابق؛ ليجسّد علاقة جمالية جديدة تلائم طبيعة النظام الاجتماعي للعصر ([21]) .

 إلا أن بعضهم، وإن بدت له نظرية برونتيار طريفة في بعض جوانبها، فإنها تبدو في الوقت نفسه مسكونة بعامل الأحكام التعميمية والمطلقة، وفي ذلك يقول د. أحمد كمال زكي "وإذا كنا ندعو إلى التمسك بنظرية برونتيار فإنما على سبيل ألا تكون دراستنا ذات طابع وصفي، وبتعليلات لا نفترض أن تكون ملزمة للناقد على طول الخط، مع تقرير أن الأعمال الأدبية العظيمة تظل محتفظة بقيمتها الفنية بعد انقضاء وضعها التاريخي الذي نشأت فيه كاستجابة من الأديب لحاجة مجتمعه" ([22]) .   

 (في النضج والاكتمال)
تأسيس "اللانسونية" –Lansonisme: 

تُنْسَبُ "اللانسونية"  إلى غوستاف لانسون - Lanson Gustave (1857-1934). وهي التسمية التي أُطلقت على مدرسة طبعت المنهج التاريخي في النقد طيلة النصف الأول من القرن العشرين. لقد عرف المنهج التارخي بريقه وعمقه مع هذا الناقد الفذ، فهو الذي سيتجاوز جوانب النقص أو الشطط في التصور الانطباعي والتجريبي عند سانت بوف، والعلماوي عند تين، والتطوري عند برونتيار، مؤسسا نظرية شاملة ذات منهج محدد وأدوات مخصوصة في النقد التاريخي ([23]).

لقد كان لانسون يرى أنه لا يمكن أن يُؤسَّس علم على نموذج علم آخر؛ إنه يعتقد أنّ تقدم العلوم لا يتحقق إلا باستقلاليتها بعضها عن بعض بحيث تستدعي توجُّهَ كل علم إلى هدفه واتساقَهُ معه أولا، ثم بعلاقاتها المتبادلة وما يجري بينها من اقتراض للأدوات والمفاهيم...إلخ. ولكي يتسم المنهج التاريخي  بشيء من العلمية يجب ألا يكون بأي حال من الأحوال مسخا كاريكاتوريا عن العلوم الأخرى حتى لا يثير السخرية والاشمئزاز ([24]). وهذا وعي إبستيمولوجي راق في تلك الفترة من عمر النقد الأدبي.

      ويزعم بعض النقاد أن "غوستاف لانسون" لم يكن متعمقا في الاطلاع على الفلسفة البرغسونية وبعض الفلسفات الأخرى التي عارضت النزعة التاريخية والوضعية وحتى التجريبية ([25])كما أسلفنا القول حتى تؤثر فيه سلبا أو إيجابا، ومع ذلك فقد كان هو من عارض – في تمهيده لكتابه "تاريخ الأدب الفرنسي" - نية رينان وتوجهه لتعويض "دراسة النصوص" بدراسة "تاريخ الأدب".

 وهو أيضا من وقف في وجه من يكتفون بتدوين بعض الملحوظات وصياغة بعض التعليقات استخلاص بعض الاستنتاجات وإن كانت نابهة، مُعرضين عن الكتاب "لا يقرؤون، وينصرفون إلى النهب الفكري، ظانين أنّ تحويلَ ما احتكروه من نوادر النصوص إلى مذكرات جهد كاف لعدهم ضمن المتمرسين بالنقد" ([26]).

أما في "مقالاته" التي جمعها "هنري بيّار" مؤخرا، فنجد لديه الهواجس نفسها: إنّ "المنهج" -كما يشرح لانسون – لا يُهدّد متعة القارئ الذي يتّجه إلى الأدب بدافع رغبته الشخصية، ويرغب أن يقرأ بانسيابية دون أن "تنغِّص" عليه الإجراءات المنهجية لذة القراءة. ولتفادي انقلاب المنهج إلى على أهدافه فيسئ إلى القارئ من حيث أراد أن يمده بأداة مساعدة "علينا قبل كل شيء أن نكون ذلك القارئ عينه، وأن نصبح مثله، ونحلّ محلّه في كل آن وحين. إنّ العمل المنهجي، يضاف إلى هذا النشاط أو هذه الحالة  من المتعة، ولا يعوضهما أبدا" ([27]) .  

لقد كان غستاف لانسون يدعو طلبة الآداب دعوة ملحاحة إلى أن يطيلوا التأمل في كتاب "المدخل إلى الدراسات التاريخية" الذي ألّفه "لانجلوا وسينوبوس" . لقد صار هذا الكتاب/الدليل، منذ ذلك الحين، رمزا لكل ما يقبله الفكر التاريخي المعاصر وكل ما يرفضه، ولعل ذلك كان بحكم تأثير "دلتاي" و"كروس" وأمثالهما. إلا أنّ كل ذلك كان قليل الأهمية! لأن لانسون كان – على أية حال- يعرف بحسه النقدي الفروق النوعية بين الوثيقة التاريخية والنص الأدبي." ففي الأدب لا شيء يمكن أن يحل محلّ الذوق والحس الفني ([28])".

وبعد أن عَرَضْنا للمقولات المنهجية لاتجاهات النقد التاريخي كما جاءت في مؤلفات أصحابها، وبعد أن رأينا كيف استطاع لانسون أن يهذب ما قد يبدو من اختلافات تظهر أحيانا جوهرية داخل المنهج، وكيف صار معه أكثر انسجاما ونضجا، يبدو لنا الآن أنه من الجدير أن ننظر في آليات اشتغال المنهج التاريخي واستفادته مما عُرف بالنقد الفيلولوجي Philologique- والببليوغرافي-Bibliographique من جهة، ثم من خلال نقد سير المؤلفين-Biographie من جهة أخرى، وهذا هو ما نعالجه في المحور الآتي.

(في آليات الاشتغال)

لم يقتصر نقاد المنهج النقدي التاريخي على الأعمال الأدبية وإن كانت المحور الرئيس في أعمالهم، فقد عكفوا على إنجاز أعمال جليلة كتحقيق المخطوطات المهمة التي تتناسب مع ميولهم، وإنجاز الفهارس والكشافات التحليلية ، والمشاركة في مقررات أكاديمية ودراسية، والمساهمة في الموسوعات وكتب التراجم؛ لذلك عدّ النقد التاريخي غير منفصل عن تاريخ الأدب.

وبما هو في جانب منه مقاربة خارجية Extrinseque للعمل الأدبي، يمكن أن عدها متعالية -transcendante بالمعنى الفلسفي لا الأخلاقي عن النصوص؛ لذلك فهو نقد يتّسم "بالنعتية" إن صح القول؛ بما أنه يضيف الكثير من المعطيات الخارجية إلى النص، ويضاعف المراوحة بين الكاتب ونصه، وبين النص وزمانه أو عصره، وقد ترى لديه بعض الملامسة الرفيقة لعلاقة المؤلف أو النص بقارئه ليفسر من خلال ذلك كله العمل الأدبي.

 وهو كذلك نقد يتسم بالمعيارية والتصحيحية، وكأنه ينهج نهج عقيدة دينية أو أخلاقية أو سياسية ...إلخ. إنه أيضا نقد سلالي- génétique ([29])؛ أي أنه يبحث في ميلاد النص وتاريخه، ويوظف كل طاقاته في البحث عن مسار النص وخط سيره حتى لحظة صدوره ونشره. ويمكن أن نرى له منحيين اثنين: النقد الفيلولوجي ونقد السيرة المركَّز خاصة على البعد النفسي:

1. النقد الفيلولوجي: Critique Philologique

هو نقد أكاديمي بامتياز لأنه يتقلب دون هوادة وبدقة كبيرة بين مستويات نقد العمل الأدبي؛ من موضوع نشأة النصوص إلى مقترح تفسيرها.

 إن وفرة النصوص والكتابات قد تكون العاملَ الأساسي في نشوء هذا المنحى النقدي، وهي بالتالي التي دعت الفيلولوجيين أن يبتكروا النقد
الببليوغرافي Bibliographique- ويركنوا إلى  استخدام  أداتين  نقديتين: الثبت الببليوغرافي-Indexe والتصنيف الببليوغرافي-Classification باستخدام الفهارس وكتب التراجم والأطالس والمعاجم والموسوعات...إلخ.

والنقد الفيلولوجي يستفيد أيضا من علم تأريخ النصوص l'historiographie- الذي يفحص النص في مختلف حالاته وأطواره منذ كان مخطوطا، وما إذا كان متعدد النسخ الخطية، إلى أن يُدفَعَ به إلى الطباعة والنشر. وكلما أعيد نشر الكتاب اهتم الناقد الفيلولوجي بالتغيرات الطارئة بين النشرة والنشرة. إنه يقارن أيضا ملحوظات المؤلف على نسخ عمله، وبين مختلف النسخ مخطوطة كانت أو مطبوعة، وينظر في التبويب وإعادة التبويب ومخططات العمل، والمسودات، و العبارات المشطوبة والتصحيحات التي أجريت عليها، والإضافة والحذف، والتعديل، وكثيرا ما يترك الكُتَّاب فراغات ثم يعودون إلى ملئها؛ فالناقد الفيلولوجي هو من يمحِّص تلك الفراغات كيف ملئت، وما النتائج المترتبة عن ذلك ولعلّه يهتم أكثر ما يهتم بالنص- المشروع l'avant-texte  قبل أن يكتمل إنجازه([30]).

 وهو مدعو كذلك إلى الاهتمام بالتأثيرات المتبادلة بين الكُتّاب والمؤلفين، وتصنيف المؤلفين إلى تيارات ومدارس، والنظر في المؤثرات الفكرية والسياسية والاجتماعية لنشأة تلك المدارس...إلخ، وهذا ما يجعل النقد الفيلولوجي متنزلا ضمن فرع تاريخ الأفكار والعقليات.

وترى الناقد الفيلولوجي – إلى ذلك – منكبا على دراسة أساليب الأعمال الأدبية؛ فهو من أوائل من يستشار حول ما ينشر من رسائل علمية نوقشت في المؤسسات الأكاديمية، فيبدي رأيه في ما يجدر إضافته إليها أو ما يجدر تعديله فيها بناء على معرفته وخبرته الشخصية أيضا. وانطلاقا مما اطّلع عليه ممّا دُوِّنَ في المناقشات الأكاديمية لإجازتها من توجيهات وتصويبات واعتراضات. وكذا الأمر بالنسبة إلى ما يراد إذاعته بين الناس من المراسلات بين الأدباء والمفكرين؛ لأن النصوص الموازية - Paratexte ، وما وراء النصوصMetatexte- من عوامل حافة ودوافع كامنة كثيرا ما تضيء المؤلفات نفسها.

2. نقد السيرة: Critique biographique

يهمنا أولا أن نشير إلى أن الأصل في النقد التاريخي هو النقد الفيلولوجي، ثم يعَّضد ويستكمل بنقد السيرة هو في الحقيقة نقد ينصب على جمع ما يمكن جمعه من معلومات وأخبار عن حياة المؤلف النفسية والذهنية والفكرية وحتى العصبية والسلوكية...إلخ، ويمكن تلخيصه في عبارة سيرة المؤلف التي تستخدَم من أجل تفسير بعض جوانب النص. ويجدر بنا أيضا التمييز بين هذا النقد وما يسمي بالنقد النفساني Psychanalise الذي تأسس على يد العالم سيغموند فرويد، وهو نقد له منطلقاته ومرجعياته ومفاهيمه وأدواته الخاصة، وستأتي الإشارة إليه في محور قادم يتعلق –فيما يتعلق- بمآخذ النقد النفساني على المنهج التاريخي.

وبما أن المنحى الفيلولوجي يختص بالأفكار والأسلوب، فإنّ منحى السيرة معنيٌّ بالجانب العاطفي والنفسي للأعمال الأدبية: إنه في كل الأحوال يتحدث عن الكاتب مثلما يتحدث عن الكتاب.

وقد يلتبس نقد السيرة خاصة في جانبه النفسي بالديماغوجيا وفي أحسن الأحوال بالبيداغوجيا أو النزعة التعليمية.

أما النزعة الديماغوجية فكثيرا ما نلمسها في الخطاب النقدي الصحفي: إذ أن النقد الصحفي يسعى إلى تمرير الدعاية على أنها مجرد إخبار بريء، والتوجيه الفكري على أنه عرض للآراء، والإشهار على أنه التزام بالذوق العام. وغالبا ما يكون اقتناص نادرة أو الاطلاع على طرفة حول الكاتب أو معرفة تفاصيل مغامرة كتابته لنصه الحبلَ السريَّ الذي يقود هذا الصنف من النقاد إلى بناء ما يبنيه من معالجة نقدية حول العمل الأدبي. وعلى أية حال فإن المؤلف، على هذا النحو أو ذاك، بطلُ العمل الأدبي أو موضوعُه الرئيس.

ثم إن هذا الضرب من النقد الذي قد تلابسه الديماغوجية لا يبحث عادة عن تفسير النص بقدر ما يسعى إلى إدماج القارئ –إن لم نقل توريطه – عن طريق تطبيق لثلاثة أو أربعة "وصفات قرائية" (وإذا استعرنا التعبيرات الرائجة في فن الطبخ قلنا "قائمة مقادير قرائية") ([31]) هذه الوصفة أو المقادير هي: التلخيص والاختزال، الإعادة والتكرار، والإشهار في حال الترغيب أو التشهير في حال التنفير، والتعظيم والتبجيل.

أما المنحى البيداغوجي ففيه يظهر نقد السيرة في صورة تربوية. إنه هو الذي يسعى إلى تبليغ الأدب والتعريف به ونقله في شكل تعليمي عن طريق المجلات والكتيبات التعليمية وغير ذلك من الوسائل، أكثر من سعيه إلى تقديم معلومات عنه. ولا شك أنه يعرّج على القضايا التي أثارها العمل الأدبي والأفكار التي تبدو قد تفاعلت في عقل الأديب ليسوقها في عمله، ثم إنه يقف ولو وقفة يسيرة على الجانب الفني فيهتم خاصة بالشخصيات إذا كان بإزاء جنس سردي ليستجلي سماتها، ومدى مضارعتها للواقع ومدى طرافة الخيال في صياغتها، أو يحاول الولوج في عالم الشاعر الخيالي والوجداني، ويسعى إلى استكناه العوامل التي حركت بواعث الأدبية لديه؛ يروم من وراء كل ذلك أن يوجه التحليل وجهة التعليق الميسر والمختصر، وفي ذهنه أنه يطلب أن يحصد منه عموم القراء ثمرات فكرية أو فنية أو قيمية.

وخلاصة القول إن النقد الفيلولوجي المهتم باللغة والأسلوب، والنقد النفسي المنكب على الموضوعات والشخصيات هما إذن مكونان لا ينفصمان في صلب النقد التاريخي، أو ما يمكن أن نطلق عليه أيضا نقد النشأة: فبالنسبة إلى المنحى الفيلولوجي، فإن العمل الأدبي هو مجال تمظهر أسلوب الكاتب ، أما بالنسبة إلى المنحى النفسي فأسلوب النص هو الكاتب عينه. وعلى كل فلنحتفظ من كل ما تقدم بالنتيجة الآتية: إن الفيلولوجيا والببليوغرافيا، تقرءان العمل الأدبي في ثنايا حياة الكاتب (الأديب والمجتمع، اللغة والأسلوب) ، في حين نرى السيرة الذاتية والمنحى النفسي  يقرءان حياة الكاتب ( الفردية أو الجماعية) في ثنايا العمل الأدبي ([32]).  وبعد هذا العرض النظري والتطبيقي للمنهج التاريخي، يجدر بنا أن نقف عند المسألة الآتية: ما التركة التي بقيت من منهج النقد التاريخي، وما مستقبله؟

(في تركة المتداول والمنجز المغمور)
النظرة الأولى – في التركة:

أن نعتمد المنهج التاريخي؛ يعني إذن أن نعرف بالدقة الضرورية والشمول اللازم السياق الثقافي الذي يشتغل فيه الكاتب أو الناقد  أو المفكر، لكي نفهم من يعلّم الناقد النقد ومن يعلّم الكاتب الكتابة ومن يعلّم المفكّر التفكير، وكيف يكون كل ذلك، هذا على أقل تقدير.

ونرى أن تراث لانسون قد استجاب لهذه المسائل وأكثر بكثير ولامس فيها أعلى التقدير، وأنه يمكن لقارئ هذا تراث أن يستنبط منه برنامجا واسعا للبحث. وإننا نظن أنه بإمكاننا في ضوء ما تقدم أن نقف على خطاطة ذات أهمية بالغة تضم نقاطا مختلفة يمكن أن نبرزها في ما يأتي:
  • تحديد النص الأصلي المدوّن بخط اليد وتحديد النسخ الأخرى إذا توافرت.
  • تأريخ النص كاملا وتأريخ مختلف أجزائه.
  • مقابلة النُّسخ –إذا توافرت – بعضها ببعض، وتحليل المتغيرات.
  • البحث في الدلالة الأولية أو الأصلية " المعنى الحرفي للنص" وملامسة رفيقة للدلالات الثانوية ( أو ما يصطلح عليه حديثا بالانزياح الذي يعد من أهم ما يشكل شعرية النص الأدبي). هذا مع الاحتراز في الحكم؛ لأن هذا يدخل في باب" اللامفكر فيه" أ "غير الممكن التفكير فيه" ؛ فالناقد التاريخي لم يفكر أصلا في "شعرية" الأدب بالمنهج الذي طرحه الشكلانيون والبنيويون وسوى ذلك من المناهج التي جاءت بعده.
  • تحليل الخلفية الفلسفية والتاريخية للنص بالنظر إليه في علاقته مع مؤلفه وعصره، وتجنب إسقاط تصورات الباحث المعاصر.
  • دراسة مصادر الكاتب ومراجعه باستفاضة وعمق .
  • استكناه مدى نجاح العمل الأدبي وتأثيره، واستشفاف التفاعل بين الأديب والمجتمع.
  • تجميع المؤلفات التي يمكن أن تكون متقاربة في شكلها أو محتواها ودراستها؛ لتحديد خصائص الجنس الأدبي وتصنيف الأدباء في تيارات ومدارس.
  •  ومن طريف ما انتبه إليه لانسون دراسة الأعمال الضعيفة والمنسية حتى يتسنى تقويم أصالة الأعمال العظيمة.
وعلى كل نعتقد أن كتابات لانسون لم تستنفد بعد خاصة في السياق الثقافي العربي لأنه من أكثر النقاد تأثيرا في الحركة النقدية في البلاد العربية لاسيما في النصف الأول من القرن العشرين، ويكفي أن نعد من تلامذته على الأقل: طه حسين من الجيل الأول ، ومحمد مندور من الجيل الثاني، وهذا الجانب نظن أنه مجال في حاجة إلى مزيد من الاستقصاء.

النظرة الثانية: في المغمور من تراث لانسون:

لقد أجمع الدارسون – فيما اطلعنا عليه – على أن غوستاف لانسون هو خلاصة المنهج النقدي التاريخي ورحيقه المختوم، ولكن هل كل ما خلفه الرجل بات معلوما، وإذا كان كذلك فهل كله صار مدروسا؟

 إن الإجابة عن هذا السؤال تُلْتَمَسُ خاصة في  مجموعة من المقالات وظّف فيها فكره النقدي للدعوة إلى تغيير التعليم وإعادة هيكلته منذ ما قبل اتخاذ خطوات رسمية أولى لإصلاح التعليم في سنة 1902 ، إلى حين مشاركته الشخصية في إصلاحات 1909. وهي مقالات نظن أنها لا تقل قيمة عن تأليفه الأكاديمي، ونعتقد أيضا أنها لم تستثمر في السياق الثقافي العربي لا للاقتراب أكثر فأكثر من فكر الناقد فحسب، بل للتعرف إلى الدور الإصلاحي الذي لعبه والمهام التي أهلته للاضطلاع به.

فهل استطاع لانسون أن يخرج بالمنهج التاريخي والفكر النقدي من الإطار الأكاديمي ليكرسه في مقاربة الهاجس الاجتماعي والوطني والحضاري من خلال قضية هي صلب المسائل الثقافية الوطنية؛ أعني معالجة مسائل إصلاح التعليم؟

لن نتبسط في تفاصيل الموضوع، ولكننا سنورد أهم العقبات التي رآها تقف في وجه مشروع الإصلاح، وأهم المقترحات التي تحمل بصمات فكره النقدي:
  • التبشير بالثقافة المعاصرة المتمحورة حول اللغة الوطنية: تعليم الفرنسية (على حساب اللاتينية التي كانت لغة التعليم آنذاك) من أجل النهوض بها، وتعليم العلوم بالفرنسية أيضا من أجل ترقيتهما معا؛ أي العلوم واللغة الفرنسية. فكأنما يوحي بأن اللغة الميتة تعلم علوما ميتة. وأن البلاغة واللغات القديمة لم تعد تلبي شيئا من الحاجات الجديدة.
  • إن التعليم القديم نخبوي، ويدور في فلك الفكر الأرسطي؛ ولذلك فهو لم يعد صالحا لتلبية مقتضيات الحياة الديمقراطية. إن هذا النوع من التعليم "يعدّ أناسا في منتهى الرقة والرهافة إذا نجحوا! ولكن إذا فشلوا يكونون كسالى وفي منتهى الضعف والهوان"([33]).
  • لقد كان داعية إلى ثقافة الضرورة والمتعة والدافعية الاقتصادية كل ذلك معا دون أن ينفى أحدها الآخر، وهو يستند في ذلك إلى حجج تاريخية: "إن التعليم في أي مكان أو زمان يكون دوما متناسبا مع حاجات المجتمع الذي صيغ من أجله" ([34]).
  • الدعوة إلى تغيير "مدونة الأدباء – Corpus d'Auteurs" موضوع الدراسة في مقررات التعليم: يقول لانسون ساخرا: "إنه لمن المفارقات العبثية ألا تُدرَّس إلا الآداب المسيحية والمونارشية الإمبراطورية في مؤسسات تربوية لمجتمع الديمقراطية الذي لم يعد يقبل ما يسمى بدين الدولة!" ([35]).
  • يرى أن البديل هو" أن نعدّ الشبيبة لفهم الإشكالات الاجتماعية والقيمية لمجتمعهم الجديد حتى يتمكنوا من إيجاد حلول لها". وأن تكون تلك الحلول من صميم الفكر الديمقراطي ، يقول في السياق نفسه: "وأن نعدّهم أيضا لحل المشكلات بدقة وتفان وفي إطار روح العدالة، وبعيدا عن أية مصلحة أنانية"([36]).
  • يعتقد أن تدريس الأدب يجب أن ينحو هذا المنحى، وإن ذلك ممكن طالما كانت النصوص الأدبية " حُبلى بكل الموضوعات والإشكاليات والمسائل التي هي على درجة عالية من الأهمية بالنسبة لعموم المجتمع"([37]).
  • يدعو إلى النزول بالنقد الأكاديمي إلى حلبة الفكر التربوي، وانتقاء الأعمال الأدبية، وربما الأجزاء المناسبة من تلك الأعمال، التي تكون أهلا لتأدية الوظيفة البيداغوجية في تلاؤم وتناغم مع التلاميذ على اختلاف أعمارهم" ([6]).
  • ومن طريف ما أُثِرَ عن لانسون أنّ مؤلفي القرن السابع عشر بما عرفوا به من نزعات قيمية أخلاقية راقية، هم أكثر أهمية عنده من الفلاسفة اللائكيين الذين- بسبب انسداد آفاقهم الفكرية -  يتركون المجال الروحي رهينة بين أيدي المفكرين المسيحيين ([7]).
  • ومن مفاجآت لانسون أنه يعُدُّ مادة تاريخ الأدب في المرحلة الثانوية " دُمَّل التعليم الثانوي"...وهو ضدّ أن "تُحشى رؤوسهم الصغيرة بأحكام جاهزة تعوّدهم الكسل وتنفرهم من الاكتشاف والبحث تنفيرا" ([8]) فمادة تاريخ الأدب مقصورة على التعليم العالي.
  • يرفض ما يمكن تسميته بتعليم الآداب المعلّبة الجاهزة، ويدعو دعوة لا هوادة فيها إلى " دراسة الآداب من خلال النصوص"([9]).
  • فهل تشفع التركة المنهجية والفكرية، وهل يشفع الانخراط في الإصلاح التربوي للانسون هِنات وثغرات وقصورا منهجيا في فكره ومنهجه، أم أن كل المدارس التي جاءت بعد اللانسونية ستركز على تلك النواقص بالتحديد، ولعل بعضها سيستمد شرعيته من الإطاحة بالمنهج التاريخي ؟ ألا يبدو أن المُساءلة ديدن النقد لا يحفل بالحجج التي تُستَمَدُّ من أعذار العراقيل؟

     (مساءلات للمنهج التاريخي)
  كنا أشرنا في فقرات سابقة إلى أن الفلسفة الوضعية وتوابعها في التاريخ والنقد والأدب قد تعرضت لموجة نقدية عارمة هزت أسسها ولكن النقد التاريخي استطاع أن يصمد بفضل جهود مضنية وفي ظروف خاصة على يد المدرسة اللانسونية وأتباعها، غير أن تلك الموجة النقدية لا تخرج هي الأخرى عن المنطق الذي حكم فكر الحداثة الأوروبية. أما الموجة الثانية والنوعية فهي التي تسمى بالنقد الجديد، فقد هبت عليه فعصفت به – على الأقل في مجال الدراسات الأدبية - ووجهت سهامها إلى نواح عديدة نوجزها في ما يأتي:

1- عابت عليه مدرسة علم النفس التحليلي ما أبداه أتباعه من بحث حول شخصية المؤلف من خلال البعد الواعي للكلام في الخطاب الأدبي وترك دراسة جانب اللاوعي عند المبدع، وآخذته على إيغاله في دراسة معطيات من خارج النص نفسه يفسر بها الناقد النص ومدلولات الإبداع، وقد بلغ منهج علم النفس التحليلي قمته على يد شارل مورون(1899-1966) الذي يتمثل خروجه عن المنهج التاريخي في أنه يكاد "يقتصر على النص ذاته، وعلى اكتشاف وقائع وعلاقات فيه لم تلق في المنهج التقليدي حظها من العناية لأنها تنبع أساسا من الذات الباطنة المبدع" ([42]).

2- وآخذه الشكلانيون الروس على انغماسه في كل ما لا يمتُّ إلى ما سموه "أدبية النص الأدبي" بِصِلَةٍ، فأتباعه على الرغم من أنهم ينتقون من الأعمال ما يعدّ في أعراف الناس جميلا بليغا، لكنهم بعد هذا الوقوف التذوقي الحدسي ينصرفون عن استكناه مكمن هذه الأدبية التي يراها الشكلانيون مناط الدرس ويجزمون أن الوقوف على أسرارها هو جوهر مهمة الناقد.

 وكذلك كان موقف البنيويين - وليد التقاء اللسانيات الحديثة عامة والسوسيرية  De Saussure خاصة بمنجز المدرسة الشكلانية- مشددا في الفترة الأولى من ظهورهم الكاسح في خمسينات وستينات القرن المنصرم تحديدا على أن المنهج التاريخي، الذي صار يعدُّ تقليديا عندهم، يهمل دراسة البناء اللغوي الذي يقوم عليه النص في حين يقوم منهجهم على اعتبار النص بنية مادية تامة ومغلقة تكتفي بذاتها ولا حاجة لها بمعطيات خارجية لأنها شبكة من العناصر المتعالقة لحمتها وسداها الكلمات. وكلما كانت عناصر الشبكة أكثر كثافة وأدق نسجا، كان النص "أوغل في الأدبية". وعابت عليه بناء على ذلك أنه أولى اهتمامه بالمؤلف وأعلى شأنه، في حين عدته هي عنصرا خارجا عن تلك البنية المغلقة ولذلك انتهت هذه المدرسة إلى إعلان موت المؤلف([43]).

 3- وانصبّ نقد الاتجاه السوسيولوجي ذي المنحى الماركسي -كما تبلور خاصة على يد جورج لوكاتش ومن بعده لوسيان غولدمان- على النظرة السكونية التي ينظر بها المنهج النقدي التاريخي إلى البيئة الاجتماعية والصراع الطبقي"إنه يستخدم الذاتية ويعدّها أمرا مشروعا في التعامل مع الأدب، وهو استخدام يخفي في طياته اعتقادا خاطئا في الإنسان المطلق في المطلق، ويستند إلى اعتبار أن الأدب ينبع من هذا الإنسان ويتجه إليه "([44]).
وعندهم أن أصحاب المنهج التاريخي النقدي ينصرفون عن التعرف إلى الطابع الجدلي الحي والمتطور لعلاقة الفكر والأدب والفن بالواقع الاجتماعي، وذلك لعدم أخذهم بمفاهيم المادية الجدلية، وإعراضهم عن إجراء أدواتها النقدية.

********************
اكتفيت بذكر بعض التفاصيل في مواقف أشهر مدارس النقد الجديد الثلاث من المنهج النقدي التاريخي وسأعرض فيما يأتي إلى مدارس أخرى جاءت بعد الشكلانية والبنيوية وعلم اجتماع الأدب، ونهضت هي بدورها على أنقاض النقد الجديد ذاته؛ فقامت لتوجه سهامها إليه مباشرة وإلى النقد التاريخي بصورة غير مباشرة غالبا، والأيام دول، ولكن يهمنا في هذا السياق ما يفهم من مآخذ على المنهج التاريخي:

1- نقاد المدرسة السوسيولوجية الجديدة أمثال بيار ماشيريه وروبير إسكاربيت الذين بنوا دراساتهم الاجتماعية على إعطاء أولوية مطلقة للعناية بتوزيع الكتاب وأسباب رواجه، عابوا على النقد التاريخي انصرافه عن البحث في عوامل بوار بعض الأعمال الأدبية واكتساح غيرها الأسواق على الرغم من أن الكاسد من الآثار قد يكون أرقى عند التمحيص من الرائج.

2- أما نقاد مدرسة جمالية التقبل كهانس روبير يوس الذين ركزوا على تأمل حياة الأعمال الأدبية وكيفيات تلقي الجمهور لها، فقد آخذوا المنهج التاريخي على غفلته عن أن بعض الأعمال الأدبية تجاوزت الحقب التاريخية وسافرت عبر الأعراق والأجناس، واخترقت الحواجز الجغرافية لتعانق القراء الذين داوموا على حبها أجيالا وأجيالا. ولام نقاد هذه المدرسة أتباع المنهج التاريخي عن عدم إلمامهم بأصناف القراء واختلاف نوازعهم وتعدد آفاق الانتظار عندهم، وكل ذلك على صلة وثيقة بالإبداع؛ فلعل المتلقي – وهو حاضر في ذهن المؤلف أو لاوعيه- يكون مؤلفا من زاوية ما للأثر الأدبي، وهذا ما لم يعره النقد التاريخي أهمية على الرغم من إشارات متفاوتة القيمة وردت حتى عند المبدعين أنفسهم أمثال إدغار آلان بو، أو شارل بودلير، ومنها قول الشاعر بول فاليري(1871-1945): "لأشعاري المعنى الذي تُحْمَل عليه" ([45]) ؛ هذه الإشارات لم يلتقطتها الدارسون في إبانها ولا نظموها في سلك منهجي ناظم.
3- وثمة مدارس حديثة العهد كالسيميائية والتأويلية الجديدة والتفكيكية وغيرها باتت ترى في النص وضوحا هنا وعتمة هناك، ومصرَّحا به هنا ومسكوتا عنه هناك، ومفكرا فيه هنا ولا مفكرا فيه هناك...إلخ، لذلك عولت على الدارس، فأعطت السلطةَ للمؤول وللقارئ، وجعلته سيدًا على النص الأدبي لا يكاد ينازعه منازع، وكلها أيضا وجدت أنّ المنهج التاريخي لا يستثمر التاريخ الوجودي للعمل الأدبي، وألفت لدى كل نقاده نأيا عن القراءة والتأويل على الرغم من وجود ملحوظات تأويلية تائهة هنا وهناك في أعمالهم النقدية لا تشدها رؤية منسجمة.

الخاتمة:

إن رصد آفاق هذا المنهج ينبئ عن أن بعض أصدائه مافتئت تتردد إلى اليوم ومنها متابعة عودة بعض مقولاته من جديد فيما يسمى "العتبات" كعتبة المؤلف" . وبالعودة إلى المصادرة الواردة في المقدمة بدا لنا أن المنهج التاريخي كما مورس وبالرغم من عناية أصحابه بالبعد الفني وبالبعد الفكري والفلسفي، فإنهم قد اكتفوا بالمنحى التسجيلي والتحليلي، ولم يطرحوا المسألة النقدية من زاوية التأويل ، ولعل هذا من الآفاق الخصبة للمنهج التاريخي خاصة على صعيد الدراسات الفكرية والفلسفية والحضارية كما تتبدى اليوم على يد فئة قليلة من الباحثين تتسع يوما بعد يوم على جميع أصعدة الآداب والفنون والعلوم الإنسانية ، وهم يكدون من خلال ما يقدمونه حتى الآن جدوى فتح آفاق المنهج التاريخي على علوم اللسانيات والسيمياء وفلسفة التأويل وغيرها من أفنان شجرة المعرفة.

فهل سيبقى لهذا النهج البحثي والمعرفي مشروعية الوجود مع إذا ما حقق التجويد والتهذيب والانفتاح على الجديد؟�

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.