الفتن البغدادية: فقهاء المارينز وأهل الشقاق
تأليف: محمد مظلوم
الناشر: التكوين للطباعة والنشر والتوزيع - دمشق
الطبعة: الثانية 2009
468 صفحة
بعد “ربيع الجنرالات ونيروز الحلاجين” (2003) و“عراق
الكولونيالية الجديدة” (2005)، يأتي الإصدار الجديد للشاعر العراقي محمد مظلوم
بعنوان “الفتن البغدادية ــ فقهاء المارينز وأهل الشقاق” (دار “التكوين” ــ دمشق)،
ليشكل الجزء الثالث من شهادة شخصية على لحظة تاريخية معقدة ومتداخلة من تاريخ
العراق المعاصر.
لا تذهب هذه الشهادة نحو صرامة التحليل السياسي المعزول
عن الماضي، بل تمضي في تفكيك اللحظة ومقاربتها بأسئلة وشواهد من التاريخ لإضاءة
مناطق مظلمة من اللاوعي الجماعي لشعبه. وهذه اللحظة سرعان ما تصبح تاريخاً، لكن
بدلاً من ان تكون عبرة، ستكون “عابرة” على الأرجح... كما هي الحال دوماً في هذا
النوع من المقاربات.
محمد مظلوم ليس مؤرخاً، وهو لا يدّعي ذلك. ولا يتوخّى
الحيادية في كتابه الجديد، بل يختار الانحياز الى الحقيقة المهملة والأمثولة التي
أغفلها الجميع أو كادوا. ويبني مشروعه على أساس نقد الثقافة السياسية التي أمسكت
بالماضي فضيّعته، وتمسك اليوم بالراهن فتواصل تبديده.
عبر عرض المشكلة العراقية الراهنة من جوانب متعددة،
والعودة الى جذورها التاريخية، يخلص مظلوم الى ان العراق يسير في طريق المتاهة
بامتياز. وقد أسفرت خطط تلك المتاهة التي رسمتها بريطانيا عند صياغتها نموذج
الدولة العراقية في عشرينيات القرن الماضي عن نموذج هش وقابل للانهيار بفعل نمط
النزعة الاستشراقية ومرجعية ثقافة الترحال والاستكشاف التي سادت الفكر
الكولونيالي. فيما “بقي العراق ــ ككيان سياسي ــ مغفلاً في الوثائق التي حملت روح
الاستشراق والمذكرات التي بنيت على البعد الأسطوري لذلك البلد”. من جهة أخرى، يضع مظلوم حدّي “الفتنة” في
مظهرها الحالي بين ما جاء به المارينز الذين يعتبرهم عنواناً عريضاً لـ“مرحلة
جديدة أسست لثقافة حريات بلا حدود في عالم يسوده إرهاب بلا هوية”، وما اهتاج من
كوامن الطوائف. فليس ثمة مسافة نوعية بين “فقهاء المارينز وأهل الشقاق في الأساطير
الجديدة... مثلما لا يوجد ما يشبه تلك المسافة بين فتن بغداد في تاريخها، سواء في
بداية القرن الماضي أو في ثنايا القرون الغابرة”.
إن المارينز لم يعودوا كشافة أو مجرد دلائل استطلاع، بل أصبحوا فقهاء العقيدة الجديدة، أو الثقافة التي تجعل من الخطاب الطائفي المتن الأساس المضمر من التاريخ. وهي الثقافة التي تؤدي الى ظهور المثقف الطائفي أو تعيد إحياء هاجس قديم فيه. ليس المقصود طبعاً ذلك المثقف الذي ينتمي الى الطائفة كثقافة أقلوية ذات سمات محلية وطقوس وذاكرة، بل ذاك الذي يحتمي بالطائفة كجماعة بشرية ليحقق حضوره داخل الهويات الضيقة. ويشير مظلوم في هذا السياق الى التحول السلبي من “ثقافة الطائفة” الى “طائفية الثقافة” التي تقوم على إلغاء الآخر والتغليب والإلغاء. ومن خلال ذلك، برزت طوائف متعددة وسّعت مفهوم الهوية، بل مزّقته تماماً، لتندرج في نسق العالم الجديد القائم على التماثل والانصياع لنموذج القوة أو امبراطورية الهويات.
ووسط هذا التمزق، يمكن تقصّي التنشئة الجديدة للفتنة: في قفص الديكتاتور، وفي مشهد الاحتلال اليومي، وفي معارك الأضرحة على جانبي بغداد، وفي المنافي التي لا يبدو انها ستنتهي. إذ ثمة فتنة تعشش في الخارج أيضاً، صقورها وأوكارها من زمنين مختلفين لكنهم يتواطأون على تهييجها بين وارث ووريث. وهذا ما يجمعهم ويفرقهم ربّما. ونتيجة لذلك، يعتبر محمد مظلوم أنّ “مشروع بناء الدولة العراقية انتهى الى هذه المتاهة العقيمة التي تمر بمخاض دموي يومي من دون ان تسفر عن مولود ولم تعد إعادة تقويم الاستراتيجيات قادرة على العودة بالعراق الى نقطة تبدأ منها بدايات أخرى”. لن يكون السؤال عن “فقهاء المارينز” بعد ذلك منفصلاً عن جذره الطبيعي، المتمثل في حشد من “النخبة المجتلبة” المسوِّقة لأحلام جيوش الإمبراطوريات والمنساقة لها. تماماً مثلما كانت هناك ثقافة تسوِّق للديكتاتورية، وتخضع لسلطانها. فلا غرابة أن نجد كل هذا الإعلام الذي يزوِّر نفسه بالتقسيط قبل أي شيء آخر. وإنّ أي متابعة لماكينته العمياء ستكشف النقاب عن هذا النسخ المفرط تبعاً لإيقاع خطاب كولونيالي عميق التأثير.
إن المارينز لم يعودوا كشافة أو مجرد دلائل استطلاع، بل أصبحوا فقهاء العقيدة الجديدة، أو الثقافة التي تجعل من الخطاب الطائفي المتن الأساس المضمر من التاريخ. وهي الثقافة التي تؤدي الى ظهور المثقف الطائفي أو تعيد إحياء هاجس قديم فيه. ليس المقصود طبعاً ذلك المثقف الذي ينتمي الى الطائفة كثقافة أقلوية ذات سمات محلية وطقوس وذاكرة، بل ذاك الذي يحتمي بالطائفة كجماعة بشرية ليحقق حضوره داخل الهويات الضيقة. ويشير مظلوم في هذا السياق الى التحول السلبي من “ثقافة الطائفة” الى “طائفية الثقافة” التي تقوم على إلغاء الآخر والتغليب والإلغاء. ومن خلال ذلك، برزت طوائف متعددة وسّعت مفهوم الهوية، بل مزّقته تماماً، لتندرج في نسق العالم الجديد القائم على التماثل والانصياع لنموذج القوة أو امبراطورية الهويات.
ووسط هذا التمزق، يمكن تقصّي التنشئة الجديدة للفتنة: في قفص الديكتاتور، وفي مشهد الاحتلال اليومي، وفي معارك الأضرحة على جانبي بغداد، وفي المنافي التي لا يبدو انها ستنتهي. إذ ثمة فتنة تعشش في الخارج أيضاً، صقورها وأوكارها من زمنين مختلفين لكنهم يتواطأون على تهييجها بين وارث ووريث. وهذا ما يجمعهم ويفرقهم ربّما. ونتيجة لذلك، يعتبر محمد مظلوم أنّ “مشروع بناء الدولة العراقية انتهى الى هذه المتاهة العقيمة التي تمر بمخاض دموي يومي من دون ان تسفر عن مولود ولم تعد إعادة تقويم الاستراتيجيات قادرة على العودة بالعراق الى نقطة تبدأ منها بدايات أخرى”. لن يكون السؤال عن “فقهاء المارينز” بعد ذلك منفصلاً عن جذره الطبيعي، المتمثل في حشد من “النخبة المجتلبة” المسوِّقة لأحلام جيوش الإمبراطوريات والمنساقة لها. تماماً مثلما كانت هناك ثقافة تسوِّق للديكتاتورية، وتخضع لسلطانها. فلا غرابة أن نجد كل هذا الإعلام الذي يزوِّر نفسه بالتقسيط قبل أي شيء آخر. وإنّ أي متابعة لماكينته العمياء ستكشف النقاب عن هذا النسخ المفرط تبعاً لإيقاع خطاب كولونيالي عميق التأثير.
تاريخ المارينز هو بالضرورة تاريخ التوسع للإمبراطورية
الأميركية، من حروب الاستقلال إلى حروب الاحتلال، وبحّارته ومشاته يسلكون الماء
ليمشوا على أرض ما. تحتاج رحلة كولومبوس المعكوسة هذه المرة إلى فقهاء وكشافة
ومستطلعين يعرفون الأرض جيداً. ولقد اكتسب هؤلاء صورة نمطــــــية في
الـــــــــذاكرة، لـفرض ثقافة القوة على العالم.
مقالات الكتاب الموزعة على أربعة فصول أساسية، بعناوينها التي تبدو للوهلة
الأولى مختلفة، هي في واقع الأمر رصد متصل للحظة متدفقة، وتوثيق لما هو موثق أصلاً
في الذاكرة. لكنها الذاكرة التي لا تكتفي بأن تبقى شخصية، ولا تريد أن تكون
محايدة. وكي لا يبدو تاريخ العراق في المستقبل البعيد مشوشاً بضجيج أبواق الكشافة
والفرق الإعلامية السرية، كما يشير مظلوم، ينبغي أن تنزع هذه الذاكرة إلى العلانية
والمواجهة... وتحديداً عندما يكون كل شيء مائلاً إلى الانزواء والكتمان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.