24 يناير 2012

مداريات حزينة... كلود ليفي ستروس



يقول كلود ليفي ستروس عن إنجازه العلمي الكبير "أسطوريّات":"إنّه لا يساوي العناء الكبير الذي بُذل فيه"، ليس في القول، الذي يمسّ عملاً من أربعة مجلّدات في آلاف الصفحات، ما يدلّ على غرور أو تواضع، بل أن فيه ما صرّح بزهد شديد وبصدق مأخوذ بحقيقة غائمة الاتّجاهات. فالأنّاس الشهير، الذي ولد في باريس 1908، يستأنس بغموض الحقيقة ولا يركن إلى وضوح العلم إلا قليلاَ. لهذا يبدو كتابه الغريب "مدارات حزينة" صورة مطابقة له، يعلم عن شعريّة المعرفة، وعن محدوديّة العلم، الذي يفتح باباً ويغلق آخر، ويرى في الكون سؤالاً شاسعاً لا يستنفد أبداً.
"مداريّات حزينة" كتاب مختصّ وبعيد عن الاختصاص في آن، يلمس فيه "الإثنولوجي" مادّة غزيرة، ويقع فيه القارئ على ما يشير إلى الفنون والطبائع البشرية، ويلمح فيه من أراد كلاماً مشرقاً ينوس بين الشعر والتصوّف. ولعلّ طبيعة الكتاب، التي تذعه في حقل الاختصاص وفي حقول أخرى، هو ما دفع بغير المختصّين أن يحتفوا به حين ظهر عام 1955، حال جورج باتاي وموريس بلانشو وريمون آرون، وهو ما جعل أكاديميّة غونكور تتمنّى أن يكون الكتاب رواية، كي تتوجّه له بجائزتها الشهيرة. ولأنّ في الكتاب اختصاصاً وما يفيض على الاختصاص، نظرت إليه الأوساط العلميّة بتحفظّ محسوب، مدافعة عن "العلم الخالص" المبرّأ من روح الشعر وأطياف التأمّل. ولم تكن تلك المواقف المختلفة إلاّ صورة عن كتاب لم يشأ أن يكون كغيره، انطوى على يوميّات "إنسانيّة" قلقة متسائلة، وعلى معارف "إثنولوجيّة" جديدة، واستعاد عنواناً هجس به الأنّاس الشهير ذات مرّة، ذلك أنّ ستروس شرع في شبابه بكتابة رواية عنوانها "المدارس الحزينة" تخلّى عنها بعد ثلاثين صفحة.
بنى ستروس شخصيّة مسكونة بالمفارقة، تعيش زمنها وزمناً آخر، وتتحرّر من زمنها متوسّلة أقاليم مهجورة وبعيدة، فهو دارس "الشعوب البدائيّة"، الذي يكره "الأسفار والاكتشافات"، ويرى في السفر الضروري بهجة قوامها الأسى، فتكرار البهجة تكرار للسّفر الذي لا يُطاق، وهو العالم الذي يقرأ الزمن الحديث بوثائق من أزمنة غابرة، فلا جسور مهدومة تماماً بين رواسب القبائل السائرة إلى الانقراض ومجتمعات باريس ونيويورك، ذلك أنّ غياب الجسور الإنسانيّة يمنع المعرفة المختلفة، الذي يتطيّر من اليقين والأحكام النهائيّة، ويضع الحدس الذي لا جدران له إلى جانب المعطيات العلميّة وهو الباحث المعمّر الذي يكثر من الحديث عن الغابر والمنقضي والمتلاشي، ويسأل "الإنسان العابر" أن يكون رحيماً في رحلته العارضة، وأن لا يتصرّف بـ "أرضه" بسفاهة وغلظة، وضعت هذه الصفات، التي تقترب من الفرادة، في شخصيّة ستروس تصوّرات إنسانيّة رحبة تقول بالتسامح والتعامل الحواري ونبذ التعصّب، قبل أن تستقرّ في صيغة أخلاقيّة - نظريّة عنوانها: الدفاع عن التعدديّة الثقافيّة.
يتحرّر ستروس من دعاوى العرق والجنس و"سلطة القوّة" ويدافع عن التنوّع الثقافي الإنساني وضرورة الحفاظ عليه، واستنباط الوسائل التي تمدّه بالتجدّد والديمومة، وتصوّر كهذا ينكر، بداهة، معتقدات "المراتب البشريّة" ويقول بثقافات إنسانيّة متساوية، تختلف ولا تتنافى، وتتباين ولا تتناكر، وتتحاور ولا يمحو بعضها بعضاً.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.