27 أغسطس 2011

يوحنا الدمشقي... د. جواد علي


*** 1 ***
عجيب أمر أولئك المسلمين! كانت صدورهم والله رحبة أرحب من صدور أهل القرن العشرين. هذا يوحنا الدمشقي أحد آباء الكنيسة اليونانية وأحد كبار القديسين يطعن في عقيدة المسلمين ويؤلف الكتب في الرد عليهم ويجادل علماءهم في صحة دعوى النبي العظيم، وهو مع ذلك موظف من كبار موظفي بلاط أمير المؤمنين، ورجل من ذوي الحل والعقد في دمشق عاصمة خليفة رسول العالمين.

عاصر يوحنا الدمشقي أو منصور بن سرجيوس المعروف (ينبوع الذهب) الخلفاء الأمويين وجالسهم وعمل لهم في دولتهم وكانت له دالة عليهم، كما كانت لوالده (سرجيوس) حرمة في نفوس العرب ومنزلة انتقلت إلى ابنه من بعده. كان سرجيوس هذا من الموظفين المشهورين في العهد البيزنطي ومستشاراً مالياً معروفاً، شهد الفتح الإسلامي لسورية وظل محافظاً على منصبه هذا حتى في الإسلام. ولعله كان موظفاً في عهد عبد الملك بن مروان.
أما ولده يوحنا فلقد كان من المقربين إلى الخليفة يزيد بن معاوية والأثيرين عنده. ولما توفي والده في منصبه المالي الكبير وظل في هذه الوظيفة حتى خلافة هشام (724 - 743) إذ ترك الدنيا والمركز الحكومي معا لينصرف إلى إعداد ما يلزم لحياته الثانية، الحياة الآخرة في دير من أديرة فلسطين.
ولم تصرف الوظيفة وجلالها يوحنا عن العلم والكنيسة التي كوَّنته وصقلت عقله. بل على العكس من ذلك اتخذ الوظيفة وسيلة للكنيسة والدين. وسيلة يتقرب بواسطتها إلى الرؤساء والزعماء ليخفف من شدة حدتهم إن كانت هنالك حدة ضد المسيحيين عامة وضد الأرثوذكس وضد البيزنطيين على الأخص، ولذلك كان رسولا سياسيا ودينيا في بلاط الخليفة في نفس الوقت. وقد عرف البيزنطيون ما حصل عليه قديسهم هذا من منزلة في بلاط (ملك العرب) المسلمين ولاسيما رجال الدين منهم وساسة الحكومة فكلفوه بمهمات صعاب مختلفة ووسطوه لحل مشاكل دولية معقدة. حتى تصوروا أن مركزه في سورية كان يضاهي مركز الخليفة بدليل إغداقهم عليه الألقاب التي كانوا يلقبون بها عادة خلفاء
المسلمين، ونعتهم إياه بالنعوت التي كانوا ينعتون بها عادة آل أمية ملوك الشام.
ونال يوحنا من تقدير رجال الدين والكنيسة ما ناله من تقدير الدولة البيزنطية وجماعة الحكومة. نال لقباً عظيما هو لقب (قديس) ولقب بلقب آخر جميل اللفظ والمعنى هو لقب (يوحنا ينبوع الذهب) وخصصت له الكنيسة الإغريقية يوم 4 ديسمبر ويوم 6 مايو ليكونا عيدين خاصين بهذا القديس. الذي برع في علم المنطق والفلسفة وفي الثقافة اليونانية، والذي اتخذ من المنطق سلاحا يدافع به عن الكنيسة، والذي فلسف الكنيسة الشرقية وأخضع المعارف الإغريقية الوثنية لحكم سلطان الدين المسيحي
ووهب الله صاحبنا بصراً في العلوم الزمانية فاق بصره في العلوم الدينية. برع في علوم زمانه وتقدم على أقرانه وخلاَّنه. وألف كتابه الشهير المعروف باسم (ينبوع الحكمة) اقتصر في القسم الأول منه على محاورات أرسطو. وقد جمع العلامة لوكيان تأليفه اليونانية ونشرها في (مجموعة الآباء اليونان). والعلامة الفرنسي (لوكوين)
وهو بجملته وتفصيله مرآة صافية للكنيسة الأرثوذكسية اليونانية في معلوماتها ومعارفها في ذلك العهد. وبحكم مقامه في الخط الأول من خطوط القتال بين الإسلام والنصرانية اضطر إلى دراسة الأسلحة التي شهرها المسلمون على المسيحيين وعلى التنقيب في القرآن الكريم وفي أحاديث الرسول وفي سيرة النبي وأصحابه من الأنصار والمهاجرين لعله يجد نقصاً أو ضعفاً يتخذه هدفاً يهاجمه أو ركناً يبني عليه خطة هجومه على المسلمين بدون شفقة أو رحمة وهوادة.
بهذه الروح اعتكف يدرس القرآن الكريم والحديث النبوي وهو في عصر كان فيه أصحاب رسول الله أحياء يرزقون، حتى إذا ما حفظ القرآن وما شاء من أحاديث انطلق كالأسد يزأر فاتحاً فكيه يريد موضعاً سهلا يغرس فيه أنيابه من جسم المسلمين.
بتلك الروح صار يفلي آيات القرآن الكريم وينبش في ثنايا أحاديث الرسول وأخبار أصحابه من المهاجرين والأنصار لعله يعثر على ذلك الموضع السهل الذي يهجم منه على الإسلام، أو يمكن الطعن فيه بسلاح المنطق اليوناني الذي لم يتمرن العرب عليه ولم يكن لهم به خبرة أو إلمام، والذي صّوبه الوثنيون إلى النصارى فمضى مدة في جسم الكنيسة حتى إذا ما تعلمه رجال الدين استخدموه لمحاربة خصوم الدين. وفي الفصل 101 من رسائله وفضوله (بالآرامية، ميامي)، وهو الفصل الذي عنونه بهذا العنوان وفي مناظراته الكثيرة معلومات غزيرة تدل على اطلاع واسع على تاريخ المسلمين.
استشهد مثلا في الفصول التي كتبها دفاعاً عن المسيحية التي كانت تحتضر في سورية ومصر وفلسطين وفي المناطق العربية الأخرى بآيات من القرآن الكريم وبكثير من الأحاديث لإثبات وجهة نظره ولمناقشة المسلمين بتلك المصادر في صحة دعواهم على طريقة استخدام الكليات والجزئيات والمقدمات والنتائج والحوار والمناظرة.
وبالنظر إلى جهل أبناء دينه بأسباب الجدال الديني وبالبراهين العلمية المنطقية فإنه وضع لهم كتابا في المناظرة على طريقة السؤال والجواب على هذا النسق: (إذا سألك العربي كذا فأجيبه بكذا وليس بكذا)، وشدد على إخوانه بوجوب حفظ هذه المحاورة واتباعها حرفيا وشدد في تحريم مبادرة العربي بالسؤال خوفا من الزلل والوقوع في مهاوي الضلالة، ومن الارتباك الذي قد يؤدي إلى تغلب العربي على المسيحي في النهاية.
وهذه الرسالة حوار بين عربي مسلم وبين مسيحي جمع فيها أكثر ما كان يدور في خلده وفي خلد الجدليين من أسئلة ومن أجوبة ومن فروق بين الديانتين. خذ مثلا لذلك ما جاء في طبيعة المسيح قال: (إذا سألك العربي ما تقول في المسيح؟ فقل له إنه كلمة الله. ثم ليسأل النصراني المسلم: بم سمى المسيح في القرآن؟ وليرفض أن يتكلم بشيء حتى يجيبه المسلم فإنه سيضطر إلى أن يقول: (إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه). فإذا أجاب بذلك فاسأله: هل كلمة الله وروحه مخلوقة أو غير مخلوقة؟ فإن قال مخلوقة فليرد عليه بأن الله إذن كان ولم تكن له كلمة ولا روح، فإن قلت ذلك فسيفحم العربي، لأن من يرى هذا الرأي زنديق في نظر المسلمين).
وفي موضع من مواضع الرسالة يجيب على اعتراض المسلمين على المسيحيين في قضية عبادة الصليب وتقديسه بقوله: (أنتم تنكرون علينا تقديس الصليب وهو خشب، في حين أنكم تقدسون حجراً أسود هو رأس (أفروديت)
ثم يستمر فيقول: (وتدعون بأنكم إنما تقدسون هذا الحجر الأسود لأن إبراهيم الخليل على زعمكم كان قد اضطجع عليه أو لأنه ربط به الناقة حينما هَّم بذبح إسحاق. وتسخرون منا لأننا نقدس الصليب الذي صلب عليه سيدنا عيسى المسيح)، وقوله هذا ظاهر البطلان لم يأت في القرآن الكريم ولا في الحديث الشريف
جاء في القرآن الكريم: (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شّبه لهم وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه، ما لهم به من علم إلا أتباع الظن وما قتلوه يقينا) وهذا معناه عدم اتفاق وجهة نظر المسلمين مع المسيحيين في دعوى صلب المسيح. وذهب صاحبنا مذهب المغالطة والجدل الصوري فعمد إلى التفسير وإلى الآية التالية مدعيا بأن في (ولكن شبه لهم) غموضا تفسره الآية التي بعدها (بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيما) وفي هذه الآية على زعمه من الاعتراف بصحة الصلب والصليب ما لا يخفى.
ثم يقول: (وتدّعون أيضاً بأن الذبح، أي ذبح إبراهيم لإسحاق، إنما كان في مكة، ومكة بلد غير ذي زرع، وهذا موضع لا ينطبق عليه ما جاء في التوراة، وهو كتاب الله، إذا فمكة ليست بذلك المكان). ومن الأبحاث الأخرى التي تعرض لها هذا القديس مبحث تعدد الزوجات، وبعد أن ذكر نص الآية التي حددت عدد الزوجات، وبعد أن ترجمها ترجمة حرفية بحث في الطلاق، وانتقل إلى زواج النبي بزينب وتطليق زيد لها، ثم تحدث عن (التجحيش) بعد الطلاق الثالث وعن قوله تعالى (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أَّني شئتم وقدّموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين)
وبحث في قضية عويصة، هي قضية حرية الإرادة والجبر والاختيار (مشكلة القدر)، وكانت قضية القدر من أهم المشاكل التي تعرض لها العصر الأموي لما كان لها من ارتباط بالوضع العام والسياسة فضلا عن الدين.
قسّم يوحنا العالم إلى فريقين: فريق دان بعقيدة (الجبر) والضرورة وهو فريق المسلمين، وفريق دان بحرية الإرادة أو بالقول (بالاستطاعة) وهو فريق المسيحيين. وبعد أن ذكر أن المسلمين قاطبة كانوا يدينون بعقيدة (القدر خيره وشره من الله). وذلك على عكس مدلول الكلمة والمعنى الذي خصصت به فيما بعد. قال: (إنهم إذا بقولهم هذا ينسبون الشر والقبيح إلى الله). ولماذا؟. يجيب على هذا الاعتراض بهذه الصورة. (هل يمكن أن يكون الله هو العلة والسبب والفاعل لكل شيء حتى المكروه؟ يقول المسيحيون لا، لأن الله لا يمكن أن يكون خالقاً للقبيح أو الشر - إذ يكون حينئذ ظالماً ومن المحال أن ينسب الظلم إلى الله. إن الله جل جلاله يجازي الظالمين والآثمين فكيف يجوز أن يجازي الله شخصاً أًمر أن يقوم بعمل فقام به، أو يكون العقاب في الدنيا فضلا عن ذلك عقاباً موجهاً ضد إرادة الله تعالى، فالله أراد أن يكون ذلك الرجل شريراً فأصبح شريراً ومن الحيف إنزال العقاب بشخص لم يكن له في العمل أي استطاعة أو اختيار).
يقول يوحنا بعد ذلك (وسيتعجب العربي من هذا القول، وسيقول لك ولكنك أشركت من حيث لا تدري، وعلى المسيحي أن يجيبه فوراً ولكنك نسبت الظلم إلى الله من حيث لا تدري. ثم ليباغت المسيحي المسلم بهذا السؤال: من خلق نطفة ولد الزنا في بطن أمه؟ سيقول المسلم: الله. وعلى المسيحي أن يرد عليه بقوله: إن الزنا عمل قبيح وهو في حد ذاته شر، فالله على قولكم إذا ساعد على هذا الشر، وهو أمر لا يليق بالله تعالى).
ويجيب يوحنا على لسان المسيحي بهذا الجواب (إننا معاشر النصارى نعتقد بأن الله لم يخلق شيئاً بعد أسبوع الخلق الأول. وإنما أمر الله عبيده بعد ذلك بالاستمرار على التكاثر والإنتاج. فجعل في صلب آدم أبي البشر قدرة الإنتاج وأصبح الإنسان منذ ذلك الحين منتجاً) وظن يوحنا بأنه قد تغلب على المسلمين بهذا الجواب. وقد رّدد تلميذه أبو قرّه الذي عاصر الخلفاء العباسيين هذه النغمة في الفصول (الميامي بالآرامية) التي ألفها في الرد على اليهود والمسلمين. وكأنك تقرأ في هذه الميامي النزاع الذي كان بين القدرية والجبرية أو بين المعتزلة والأشاعرة. تقرأ في الرسالة الأدلة والبراهين التي استعملها المعتزلة في خصامهم مع الأشاعرة والفرق الأخرى تماماً.
*** 2 ***
ذكرنا أن يوحنا جادل المسلمين في طبيعة المسيح، وأنه وضع خطة للمسيحيين وجادة ثابتة للبحث والمناظرة استهلها بهذه الكلمة: (إذا سألك العربي ما تقول في المسيح؟ فقل له إنه كلمة الله، ثم ليسأل النصراني المسلم بعد ذلك بم سُمَّي المسيح في القرآن؟ وليرفض أن يتكلم بشيء حتى يجيبه المسلم فإنه سيضطر إلى أن يقول: (كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه)، فإن أجاب بذلك، فاسأله: هل كلمة الله وروحه مخلوقة أو غير مخلوقة؟ فإن قال مخلوقة فليرد عليه بأن الله إذاً كان ولم تكن له كلمة ولا روح. فإن قلت ذلك فسيفحم العربي، لأن من يرى هذا الرأي زنديق في نظر المسلمين).
قال المستشرقون: أثار يوحنا بهذا السؤال وبأمثاله مشاكل خطيرة في الإسلام كمشكلة (خلق الأفعال) ومشكلة (خلق القرآن) ومشكلة (صفات الله) وإضرابها. لأنه استدرجهم على رأيهم بهذه الأسئلة والأجوبة إلى أمور لم يكن المسلمون يخوضون فيها. وهو رأي لا يسمح لنا الموقف بالتعرض له لأننا في موضع ترجمة شخص لا في موضع مناقشة آراء.
على أن في كتب الأخبار والفرق والتواريخ ما يتعارض مع كثير من عقائد مذهب المستشرقين. وما بالنا نذهب بعيداً وفي عبارة يوحنا نفسها ما يفند هذا الرأي ويدحض هذا الزعم؟ جاء على لسانه: (فسيفحم هذا العربي لأن من يرى هذا الرأي زنديق في نظر المسلمين)، ومعنى هذا أن جماعة من المسلمين كانت تتباحث في صفات الله أهي قديمة أزلية أم حادثة ومن جملة ذلك كلام الله. والمعروف أن جعد بن درهم الذي ذبحه خالد بن عبد الله القسري في عيد الأضحية، والذي كان أستاذ مروان بن محمد الجعدي آخر خلفاء بني أمية كان من القائلين بخلق القرآن.
وأما (القدر) والقدرية فقد وردت في القرآن الكريم آيات تدل على أن الإنسان مخير قادر على أفعاله. كما وردت آيات تدل على عكس ذلك، وقد ورد مثل ذلك في الحديث.
ويستشهد (المعتزلة) ومن يذهب مذهبهم على صحة دعواهم بآيات من القرآن الكريم وبأحاديث من أقوال الرسول. وقد ورد على لسان الصحابة ما يدل على أن بعض أصحاب رسول الله كانوا يذهبون هذا المذهب. خذ ما جاء في كتاب (نهج البلاغة) لما سئل الإمام علي بن أبي طالب (أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدر)، وقد أجاب الإمام (بكلام طويل هذا مُختاره).
(ويحك لعلك ظننت قضاء لازماً وقدراً حاتماً. ولو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد. إن الله سبحانه أمر العباد تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعص مغلوباً، ولم يطع مُكرهاً، ولم يرسل الأنبياء لعباً، ولم ينزل الكتب للعباد عبثاً، ولا خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا (ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار).
وروي عن على كل ما يخالف هذا الكلام، يرويه أصحاب نظرية (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه). وروي عن نافع أن رجلا جاء إلى ابن عمر، فقال: إن فلاناً يقرأ عليك السلام. فقال ابن عمر: أنه بلغني أنه قد أحدث التكذيب بالقدر، فإن كان قد أحدث فلا تقرأ مني عليه السلام).
وذكر ابن العبري أن معاوية بن يزيد الأول كان قدرياً (من المؤمنين بالاستطاعة)، وأن عمراً المقصوص كان قد علمه ذلك فدان به وتحققه، ولم يزل به حتى أفسد رأيه فلم يقبل بالخلافة، فوثب بنو أُمية على عمرو المقصوص وقالوا أنت أفسدته وعلمته، فطمروه ودفنهو حيَّا.
إلى آخر ما هنالك من أخبار تدل على أن (القدرية) أو (قدرة الإنسان على خلق أفعاله) كانت قد انتشرت لدى المسلمين قبل أن ينشأ يوحنا بل وقبل جداله مع المسلمين. وأن هذه الفكرة كانت قد اتخذت شكلا اجتماعياً سياسياً خطيراً. روي (أن رجلا قال لابن عمر: ظهر في زمامنا رجال يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ويقتلون النفس التي حرم الله ثم يحتجون علينا ويقولون: كان ذلك في علم الله: فغضب ابن عمر وقال: سبحان الله، كان ذلك في علم الله، ولم يكن علمه يحملهم على المعاصي).
وكان بنو أمية باستثناء نفر منهم يكرهون القدرية ومن كان يقول بها، وقد نكلوا بالقدريين كل التنكيل، ولذلك لم يكن المعتزلة وهم خلفاء القدريين يعطفون على الأمويين.
(وبنو أمية كانوا يكرهون القول بحرية الإرادة، لا ديناً فقط، ولكن سياسياً كذلك، لأن الجبر يخدم سياستهم. فالنتيجة للجبر أن الله الذي يسير الأمور قد فرض على الناس بني أمية كما فرض كل شيء ودولتهم بقضاء الله وقدره. فيجب الخضوع للقضاء والقدر).
كذلك أتى عطاء بن يسار ومعبد الجهني الحسن البصري وقالا: يا أبا سعيد، هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ويقولون إنما تجري على قدر الله تعالى.
فلأحداث السياسية التي حدثت بعد وفاة الرسول، والأوضاع الاجتماعية هي التي أثارت تلك المشكلة التي وردت في القرآن الكريم وفي أحاديث الرسول مع غيرها من المشاكل التي كان الصحابة يحجمون عن الخوض فيها وأعني بها مشكلة المتشابهات.
روى العلماء أنه (في عهد الفاروق رضي الله عنه، أخذ رجل يقال له صبيغ بن عسل يسأل عن المتشابه ويتكلم فيما لا يعنيه مما قد يحدث فتناً بين العامة، فطلبه عمر وقال له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، وقال عمر: أنا عبد الله عمر. فأخذ يضربه بعراجين النخل حتى دمي رأسه. فقال صبيغ: حسبك يا أمير المؤمنين، قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي، ثم نفاه إلى البصرة حتى صلح حاله.
وعلى كل فقد حدثت هذه المشكلة، مشكلة القدر والاستطاعة قبل أن يخلق يوحنا بزمن، فلا يصح إذاً أن يقال بأن يوحنا كان هو مثير هذه المشكلة في الإسلام، وأن نظرية (القدر) دخلت عن طريق النصرانية وحدها إلى الإسلام بدليل ظهور هذه المشكلة في الشام، والشام ملتقى النصرانية في الجزيرة العربية، وبظهور هذه المشكلة في العراق على يد نصراني يقال له سوسن، كان نصرانياً فأسلم، وكان أول من نطق في القدر، وعنه أخذ معبد الجهني، وعن معبد هذا أخذ غيلان الدمشقي. فقد رأينا على أن القول بالقدر كان قديماً وعلى أنها لم تقتصر على الشام والعراق، بل ظهرت في الحجاز كذلك بنفس الوقت الذي ظهرت فيه الفتن السياسية، إن لم يكن قبل ذلك. وفي رواية ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأنس بن مالك ما فيه الكفاية والتسليم. ولا عبرة أيضاً بإسناد كتب الفرق هذه الفكرة إلى نصراني معين أو مجهول فقد عودتنا هذه الكتب نسبة الفرق المخالفة إلى اليهودية أو المجوسية أو الوثنية والديصانية، وهي عادة كانت متبعة لدى جميع أهل الأديان.
*** 3 ***
ومن آراء هذا القديس أن النبي الكريم كان قد تلقى تعاليمه من أحد أتباع (آريانوس) (المتوفى سنة 336 للميلاد) والذي كان قد أنكر ألوهية المسيح فحرمه مجمع نيقيا ? الذي انعقد في عام 253 للميلاد، ثم أكد هذا التحريم المجمع الثاني الذي انعقد في القسطنطينية. وكان من أشد خصومه (أثناسيوس) رئيس أساقفة الإسكندرية القائل على العكس بألوهية المسيح.
وهو قول ردد صداه المستشرقون فيما بعد. وقد فاتهم بأن البدعة (الأريوسية) أو (الآريانية) لم تكن معروفة في البلاد العربية، فلا يمكن أن يكون الرسول قد تعرف إلى أحد من أتباع هذه الشيعة. وقد فاتهم أيضاً بأن النسبة إلى (الأريوسية) كانت شائعة بين الفرق النصرانية، فكانت كل شيعة من الشيع النصرانية تنسب الشيعة المعارضة لها إلى هذا الإسكندري الذي حرمته مجامع المسيحيين. وقد سلك يوحنا في مواضع من ميامره مع (المنوفيسيتين) والمعارضين الآخرين نفس هذا السلوك، ونسبة دراسة النبي على أحد (الأريانيين) - وهو قول واهٍ لا تؤيده الشواهد التاريخية - هو من هذا القبيل.
وخلاصة ما يمكن أن يقال، هو أن يوحنا كان قد خاف على دينه من الزوال، وهو رجل دين وصاحب عقيدة، وأنه وهو في بلاط خليفة دينه يخالف دينه عرضة للمناقشة في الدين وهدف للجدال كما كان يحدث ذلك دوماً لكل ذّمي يتولى مركزاً سامياً في قصور أمراء المسلمين. وقد ساءه ما رآه من دخول أبناء دينه أفواجا أفواجا في الإسلام، فأراد أن يضع لهم منهجاً ثابتاً في الكلام وطريقاً واضحاً لإخوانه من أبناء دينه كما يفهم ذلك من ميامره ومن كتابه الذي ألفه في الرد على المسلمين.
وغريب أمر أولئك الذين يتصورون بأن المسلمين الأولين كانوا كالحجارة الصم لا يحسنون سؤالا ولا يدرون جواباً. وفي القرآن الكريم والحديث الشريف والسير والمغازي والأخبار أسئلة وأجوبة مختلفة في مسائل الكون والعالم والبعث ويوم الدين والأفعال والأعمال والخطير من الدنيا والحقير. وهم إن شكوا في كل شيء فلن يستطيعوا الشك في صحة القرآن وفي صحة روايته كما كان ينطق به الرسول. والقرآن وحده كفيل وخير شاهد على صحة ما نقوله.
ولا عبرة ببعض ما ورد في بعض الكتب مثل ما جاء في (كنز العمال) من أن القدريين سموا بهذا الاسم لأنهم (اشتقوا قولهم من النصارى) أو عبارة (اشتقوا أقوالهم من قول النصارى) إذ ورد في الأخبار (القدرية مجوس هذه الأمة).
ولو ذهبنا مذهب بعض المستشرقين ومذهب أهل الرأي والقياس لوجب علينا أن نقول بأن القدرية أخذت قولها هذا من المجوس، وهو قول يناقض المعروف؛ إذ المعروف بأن المجوس كانوا يقولون بالجبر لا بالاستطاعة والاختيار.
الحق أن ما ذكره يوحنا وما بنى عليه بعض المستشرقين هو من قبيل (الأفكار العامة) التي تخطر على كل بال، من قبيل تلك الأفكار التي ترددت على عقول البشرية منذ أول يوم هبوطها على سطح الأرض حتى اليوم. إنها من قبيل الأفكار العامة التي عالجتها أدمغة الوثنيين كما عالجتها أدمغة أصحاب الأديان بل وحتى الشعوب الابتدائية والقبائل البدوية، وما كان ظهور مثل هذه الأفكار في الإسلام بحادث غريب وقد عالج الإسلام أموراً أعقد من المواضيع التي نتحدث الآن فيها بكثير.
ولنعد الآن إلى الموضوع. ظهرت في الإمبراطورية البيزنطية المسيحية وفي ردهات المسيحية فكرة غريبة هي فكرة (تحريم الصور) وقد انتشرت هذه الفكرة بسرعة كبيرة في سوريا وفي مصر وفلسطين فتحطمت الصلبان وأحرقت التصاوير، ونادى الناس حتى في الإمبراطورية البيزنطية بأن الصور والصلبان والزخرفة رجس من عمل الوثنية والشيطان. وشاعت أسطورة ذكرها ثيوفانس خلاصتها أن أحد اليهود، وكان يكره النصارى، تمكن من إقناع الخليفة يزيد الثاني بضرورة تحطيم الصلبان وتمزيق التصاوير كي يطول عمر الخليفة. فأصدر الخليفة أمره في الحال بوجوب تحطيم كل ما هو موجود من صلبان النصارى. ويذكرون أيضاً بأن إمبراطور القسطنطينية، وهو الإمبراطور (ليو) تأثر بعد ذك بأفكار أحد السريان، وكان قد وقع في أسر المسلمين، فاعتنق الإسلام وسمى نفسه (بشراً) (بسر) وغدا من أعداء الصلبان والتصاوير وكان ذلك في عام (726) للميلاد.
عندئذ أصدر الإمبراطور أمره في عام 726 للميلاد بتحريم الصلبان والتصاوير. وقد نفذ الأمر الإمبراطوري الرسمي في كافة أنحاء الإمبراطورية البيزنطية، وتبرم صاحبنا يوحنا من هذا الأمر الملكي الرسمي واعترض عليه بست رسائل ألفها تفنيداً لهذا الأمر ولمن قال بهذه البدعة من أتباع الملوك.
وفي هذا التحريم أصل إسلامي ملموس وإجابة لدعوة النبي الكريم، تلك الدعوة التي حققها يوم أمر بتحطيم أصنام الكعبة وأصنام الطائف وكل صنم آخر قائم. ذلك ما قاله نفر من المستشرقين. على أن هنالك جماعة أخرى رأت غير هذا الرأي؛ رأت هذا التحريم مصدره تلك الفكرة اليهودية التي كانت قد حرمت تصوير المخلوقات الحّية وقاومت التصوير مقاومة عنيفة. وقد انتقلت هذه الفكرة إلى المسلمين وانتقلت على زعمهم من المسلمين إلى المسيحيين.
وتطرف هؤلاء فقالوا بأن الأحاديث التي رويت عن لسان الرسول، والتي حرمت التصوير، إنما ظهرت في هذا العهد الذي أعلنت الحكومة البيزنطية فيه أمرها بتحطيم الصلبان.
ورد في الحديث: من صوّر صورة في الدنيا كلّف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ). واستعمل بعض المحدثين لفظة (تصاليب) بدلا من (تصاوير)، قال القسطلاني: (تصاليب أي تصاوير كصليب النصارى). وهذا ما يجعل للمشكلة صلة بالمشكلة التي أثارها (الإمبراطور ليو) في الإمبراطورية البيزنطية. ويلاحظ أيضاً بأن يوحنا لم يتحامل في رسائله التي ألفها للدفاع عن الصليب والتصوير على المسلمين كتحامله على اليهود. على عكس ثيودور أبو قرة أحد تلاميذه الذين احتذوا حذوه ونهجوا منهجه، فلقد تحامل هذا على المسلمين تحاملا شديداً وعنفهم تعنيفاً مراً لأنهم كانوا سبب هذا التحريم. لم تنفع هذه الحملة الصليبية التي أثارها هذا الموظف المسيحي في بلاط أمير المؤمنين في الشام شيئاً. قد يكون يوحنا نجح بعض الشيء في إثارة جذوة نار تلك المشاكل الكلامية التي ظهرت قبله بزمن وفي صبها في جداله مع المسلمين بقالب منطقي يوناني أثر على أسلوب الكلام عند المسلمين، ولكنه فشل في الحيلولة بين المسيحيين السوريين وبين الإسلام
وآثر يوحنا وهو في أواخر حياته الاعتزال في دير من أديرة الدنيا النائية ليوجه تفكيره نحو خالقه، فاختار دير (القديس سابا) قرب القدس ليكون محله المختار. وقد ظل في هذا الدير إلى أن جاءه أجله المحتوم بين عامي 748 و751 للميلاد على أكثر الروايات.
جواد علي
مجلة الرسالة، الأعداد 610 و611 و612 ، القاهرة، ربيع الآخر 1364هـ ـ مارس 1945

هناك تعليقان (2):

  1. اتعجب من مقال يكتبه مؤرخ شهير صاحب كتب التفصيل في تواريخ العرب رحمه الله ولا يذكر مصدرا او مرجعا واحدا حول الموضوع بل يكدس معلومات يربط بينها ربطا تكديسيا دون ان يعرضها الي أي نقد.. شيء مريب بل شح مريب في المصادر والاحالات وتقريرات وراء تقريرات انشائية سردية لا تطرح أي اشكال - والهزيل في المقال انه خصص ثلاثة أرباعه الى الحديث عن مفهوم القدر عند المسلمين - والأعجب ان عنوان المقال جاف جدا لا يعالج موضوعا محددا : هكذا يوحنا الدمشقي ... في المطلق ..

    ردحذف
  2. أظن أن ما كتبه عن يوحنا الديمشقي في الجزء الأول من تاريخه الإسلامي المخصص للسيرة النبوية أكثر توثيقا

    ردحذف

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.