18 أغسطس 2011

مقال: الارادة الشعبية سر انتصار الثورات العربية... زهير الخويلدي

لكي نضمن الدرجة العظمى من الحرية مع الدرجة الدنيا من القوة، علينا العمل بهذا المبدأ: الاستقلال الذاتي لكل هيئة سياسية هامة وسلطة محايدة لتقرير المسائل التي تخص العلاقات بين هذه الهيئات"[1].
ما من شك أن المجتمعات العربية من المحيط الى الخليج تعيش حالة ثورية غير معهودة  في السابق وأن جميع الألسن والحناجر تهتف هذه الأيام سرا وعلنا بالثورة والخروج وتطمح الى زلزلة عروش الجالسين وتنادي بالثبات والصمود واليقظة والحذر من المغالطات وترنو الأرجل الى المسيرات والمظاهرات وتصوب الأعين والآذان الى ما يحدث في بلاد افريقية وأرض الكنانة وتهفو القلوب نحو الترحيل والجديد.
"ثورة بتونس ثورة بمصر...ثورة وثورة حتى النصر" هو واحد من الشعارات المشتركة التي رفعها المتظاهرون في كل من البلدين الشقيقين في ساحة محمد علي الحامي الشهيرة في العاصمة التونسية وفي ميدان التحرير التاريخي وصانع معظم التغييرات السياسية وحاضن مختلف الثورات في قاهرة المعز.
كلمة السر التي تلقفها الثوار العرب في هاتين الدولتين العربيتين هي " الشعب يريد اسقاط النظام" والأداة الثورية التي اتبعوها هي العصيان المدني والاعتصام السلمي والتظاهر المنظم ورفع الشعارات الحاسمة والنتيجة هي انتصار الارادة الشعبية على الأنظمة الفاسدة التي تبرمج التمديد والتوريث وعلى تعنت الحكام وعنادهم وغطرستهم وانهاء أسلوبهم الفوقي والفردي في تسيير دواليب الدول وتنظيم الشأن العام.
لقد استعمل المتظاهرون كل  أشكال الانفعالات الايجابية مثل الاحتجاج والحماس والغضب والزحف وتم رفع شعارات متنوعة تعبر عن حالة الغليان والاحتقان وتطلب الأمر ممارسة الاضراب والاعتصام والاغلاق والمنع والحجز والايقاف والتجمع وكانت الغاية المرجوة هي الضغط على النظام القديم والاجبار على التنحي والرحيل والانهاء لكل أشكال البطش والفوضى التي ينشرها والانتقال بالبلاد الى مرحلة أخرى يتشكل فيها سيناريو سياسي جديد يولد من رحم الثورة وتكون شرعيته من الارادة الشعبية.
ان تفجر الثورة العربية وتوفقها في شطب الدكتاتور ونجاحها في التصدي الى الثورة المضادة وفي كشف مؤامرات سارقي الثورات والشروع في تصفية الحساب مع عقلية النظام البائد وكنس أزلامه والتوجه الفوري نحو اقتلاه الديكتاتورية من جذورها ومحاربة الفاسدين والتشهير بالمتواطئين وجوقة المناشدين هو دليل قاطع أن لا أحد بإمكانه أن يقف ضد ارادة الشعوب ورغبة الجماهير في التغيير وتوقها الى الحرية ومطالبتها بالحقوق والحياة ضمن نظام سياسي راشد تسيره مؤسسات مستقلة وقوانين عادلة.
الثورة يصنعها الشجعان والمتحمسين من الشباب الذين خلعوا لباس المهادنة وتخلصوا من انفعال الخوف وتحولوا الى ثوار كبار مثل محمد البوعزيزي وحاتم بالطاهر في تونس وخالد سعيد ووائل غنيم في مصر وخرجوا الى الشارع غير آبهين بالمخاطر وفرق الموت والقناصة التي تحصد الأرواح من فوق السطوح.
17ديسمبر 2010 في تونس الخضراء و26 جانفي 2011 في مصر المحروسة هما يومان تاريخيان وعيدان وطنيان أعلن فيه الشعبان حاجتهما الوجودية للتحرر من ربقة الاستعمار والتبعية والتطبيع وامتلكا فيه بشكل تام الجرأة على المطالبة بالسيادة والاستقلال والعزة. أما تاريخ 14 جانفي بالنسبة للتونسيين و11فيفري بالنسبة الى المصريين سيكون بمثابة نقطة اللاعودة مع الارث الشمولوجي وافتتاح لأول يوم ما بعد الكليانية ومابعد الاستعمار والتدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول العربية حماية لاسرائيل.
الجدير بالملاحظة أنه ليس هناك فرق بين التجربتين سوى أن الثورة اندلعت في تونس من سيدي بوزيد في الوسط توجهت نحو باقي الأطراف والمركز لتبلغ مدينة الجلاء شمالا والحدود مع ليبيا جنوبا وكانت دون قيادة نخبوية وتخطيط سياسي مركزي مع مساهمة لافتة للناشطين السياسيين والنقابيين والحقوقيين والاعلاميين ونفس الشيء مع الثورة المصرية فقد حاولت منذ البداية أن تحتذي بالكاتالوج التونسي لكنها اندلعت في السويس ثم تمركزت في العاصمة والمدن الأخرى وشهدت تشكل نواة صلبة لها في ديدان التحرير ومشاركة لافتة من الطيف السياسي ساعدتها على التصدي لمحاولات الزعزعة والتشتيت.
 ليس ثمة من هو متحرر سياسيا في تونس ومصر والبلاد العربية قبل الثورة الشعبية ولذاك كان التحرر الذي طالب به الثائرون هو في نفس الوقت تحررا سياسيا وانعتاقا اقتصاديا وخلاصا طبقيا أي تحرر كمواطنين وكأناس يطالبون بالمساواة والعدالة والكرامة والاعتراف، وان الذي حصل بعد نجاح الثورة هو تحرر الجميع من براثن الاستبداد ومصيدة النظام الشمولي وآلة الفساد وخاصة التيارات السياسية والناشطين الحقوقيين ورجال الاعلام والنخب المثقفة والطبقات المضطهدة والذليلة ووصول الطبقة الصاعدة بسفينة المجتمع الى بر الأمان وبمطالب الناس الى محك التجربة وميدان التحقيق.
ان سلطة الاستعباد التام والنير العظيم لا تملك شرعية استمرار تاريخي طويل وان دولة الامتيازات الزبونية التي تمارس نوع من البطش مع الداخل وتبدي كثير من الارتخاء والخجل في الرد على تهديدات الخارج وتعيد انتاج أشكال من الاقطاع والبلطجة القروسطية تحمل في ذاتها بذور فنائها وان التحرر الاجتماعي والسياسي للعرب هو تحرر المجتمع من الفساد الروحي والنفاق الأخلاقي والعنف المادي.
غني عن البيان أن وقود الثورة هم الناس والحجارة وأعداؤها هم الحكام الفاسدون وسماسرة المال وتجار الألم وبطانة السوء والمنتفعون من تأبد الطغيان ولذلك :" لا يمكن للمجتمع أن يعيش بغير القانون والنظام، كما أنه لا يستطيع أن يتقدم الا من خلال ابداع ومبادرات المجددين الأشداء...ولكن الذين يقفون الى جانب القانون والنظام تدعهم العادات وغريزة المحافظة غلى الوضع القائم ليسوا في حاجة الى حمايتهم والذود عنهم. الا أن المجددين هم الذين يجابهون الصعاب والمشاق لكي يسمح لهم بالوجود والعمل."[2]
اللافت للنظر أن صراع القديم والجديد بدأ بشكل غير مسبوق في المنطقة العربية ويبدو أن الكفة هي للحيوية المتقدة عند الشباب على تهرم الشيوخ والقول الفصل سيكون للأفكار الثورية وقوى التغيير على حساب الآراء المحافظة والقوى التي تجذف الى الخلف وان الشعلة التي انطلقت في جبال الأطلس الصغير والسباسب العليا في الوسط التونسي لن تنطفئ الا باستكمال التحرير وسقوط آخر طاغية واحالة الأنظمة الرجعية على التقاعد المبكر والغاء الامتيازات على أساس العرق والطائفة والدين وضمان الحريات العامة وفتح الفضاءات الخاصة والكواليس على الاعلام والمحاسبة ورفع أشكال الحجب والرقابة.
لقد قيل زورا وبهتانا "أننا لو ألبسنا مجتمعا تقليديا معينا القواعد الديمقراطية لن نكون واثقين من النتيجة"[3] و أن "ماهو أسوأ من الدولة الرديئة هو غياب الدولة وأن الفوضى أسوأ من الاستبداد لأنها تعوض تعسف الفرد الواحد بتعسف الجميع"[4]، وأنه يمكن تحقيق تنمية شاملة ومعجزات اقتصادية وتوفير حياة آمنة عن طريق اتباع الضربات الوقائية واستعمال القبضة الأمنية، ولكن مثل هذه الأقاويل المغشوشة تناست أن "السياسة القائمة على مجرد القوة المتفوقة أمرا لاأخلاقيا"[5] وأن عسكرة الحياة السياسية وفرض الحكم الفردي على المجتمع البشري يولد نقمة عارمة وغضب شعبي وأن الهوة بين الدولة والمجتمع سريعا ما تتحول الى قطيعة وتصادم وتنتهي بعصيان شعبي وثورة اجتماعية تقلب الأوضاع راسا على عقب.
ما أفضت اليه ثورة الأحرار هو ميلاد الشخص العربي بالمعنى التاريخي للكلمة، "فالشخص يتحدد اذن في آن واحد بماهو فرد اقتصادي وبماهو شخص سياسي تقوم شخصيته المعنوية على "حس معين للعدالة وعلى فهم معين لما هو خير" وبالتالي على الوعي بحاجات الحياة المجتمعية"[6]. غير أن الحد من السلطة واعتبار حقوق الانسان طبيعية كونية هو العنصر المخرب لكل تراكم رأسمالي في بورصة الدكتاتورية.
لكن لا ينبغي أن نصنع في حضارة اقرأ ما يتهيأ الثوار لصنعه في تونس ومصر، اذ في مقدور شباب هذه المجتمعات أن يتسلح بالعزيمة اللازمة ويشمر على سواعده ويسمح لنفسه بتسليط الضوء على كل جرائم الأنظمة التي تحكمه ولا يترك أشكال وعيه تغط في نوم عميق ويستعمل قدراته لكي يصنع ملحمته وتدبير الوسائل الشعبية المناسبة للانتصار الى الحق والثورة ضد الظلم والاعتراض على الفضيحة والعار.
 يدافع الفكر الديمقراطي عن حرية اختيار المحكومين لحاكميهم ويطالب بضمان حرية المجتمع وأسبقية قواه الفاعلة على السلطة السياسية ويعترف بوجود حقوق معنوية للناس ضد دولتهم وينادي بأن تكون الدولة في خدمة العباد والبلاد ويجعل من الحد من السلطة واحترام الارادة العامة ومقاومة التفاوت والتوزيع غير العادل للموارد والاعتراف بالحقوق الطبيعية للناس المبادئ الدفاعية ضد الطغيان.
ان الارادة الشعبية هي سر انتصار الثورات العربية وان التثقيف السياسي واليقظة النقابية والوعي الحقوقي وحياد المؤسسة العسكرية وأنسنة المؤسسة الأمنية ورسم حدود للحرية في اطار من المسؤولية هي شروط المحافظة على مكاسب هذه الثورات وصيانتها من كل غدر أو ردة. كما أن جيل الشباب العربي النزيه الذي أنجز الثورة وأتم الكنس والتحرير وتميز بالطهارة الثورية والصدق الوجداني ونظافة اليد والاخلاص لروح ثقافة المجتمع هو لقادر على تركيز الديمقراطية وغرس قيمها في التربة العربية وهو وحده الذي بإمكانه التخلص من رموز الفساد وعاداته السيئة ونتائجه الكارثية وتطهير المجتمع من الأمراض والرذائل وتفكيك الارث الرديء من الأنانية والتملك المشط والقيم السوقية.
ماذا بقي لهذه الجماهير المتفقدة من جهد لم تبذله حتى تقول للعالم أنها قررت دخول عصر المدنية والديمقراطية من الباب الكبير وتعبر عن حقها في جميع الحقوق؟ وهل يتخلى الغرب عن حكمه الثقافي المسبق النافي لإمكانية زراعة نبتة الديمقراطية والمدنية على الأرض العربية؟ ألم يصدق ماركس حينما نصح الجميع بأنهم لا يخسرون شيئا لما يثورون سوى أن يتخلوا عن أغلال القمع والوعي الزائف وقيود الخوف والجهل والاستغلال بقوله:" علينا أن نحرر أنفسنا قبل أن نكون قادرين على تحرير الآخرين"[7]؟ وعلى من ستدور الدوائر الثورية يا ترى بعد تونس ومصر ورحيل رموز الدكتاتورية؟

المراجع:
  • ألان تورين، ماهي الديمقراطية، حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية، ترجمة حسن قبيسي، دار الساقي، بيروت، الطبعة الثانية 2001.
  • برتراند رسل، مثل عليا سياسية، ترجمة سمير عبده، دار الجيل، بيروت، طبعة .1979.
  • تزفتيان تودوروف، اللانظام العالم الجديد، ترجمة محمد ميلاد، دار الحوار، اللاذقية، سورية، الطبعة الأولى 2006.
  • كارل ماركس، حول المسألة اليهودية، ترجمة نائلة الصالحي، منشورات الجمل، كولونيا ، الطبعة الأولى، 2003.

  

[1]  برتراند رسل، مثل عليا سياسية، ترجمة سمير عبده، دار الجيل، بيروت، طبعة 1979، ص. 48.
[2]  برتراند رسل، مثل عليا سياسية، ترجمة سمير عبده، دار الجيل، بيروت، طبعة 1979، ص.49.
[3]  تزفتيان تودوروف، اللانظام العالم الجديد، ترجمة محمد ميلاد، دار الحوار، اللاذقية، سورية، الطبعة الأولى 2006. ص.58.
[4]  تزفتيان تودوروف، اللانظام العالم الجديد، ص.59.
[5]  تزفتيان تودوروف، اللانظام العالم الجديد، ص.57.
[6]  ألان تورين، ماهي الديمقراطية، حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية، ترجمة حسن قبيسي، دار الساقي، بيروت، الطبعة الثانية 2001، ص50.
[7]  كارل ماركس، حول المسألة اليهودية، ترجمة نائلة الصالحي، منشورات الجمل، كولونيا ، الطبعة الأولى، 2003، ص.10.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.