لا يكاد نتاج أي مفكر في العالم اليوم يتجاوز عمل بول ريكور في السعة. ورغم أنه عُرف أساساً بفضل كتاباته عن الرمزية الدينية (رمزية الشر) وعن التحليل النفسي (فرويد والفلسفة) فإنه عمله في هذا الكتاب يشمل في الواقع مجالات واسعة ومتنوعة من الخطاب: نظريات التاريخ، المدخل التحليلي في فلسفة اللغة، الأخلاقيات، نظريات الفعل، البنيوية، النظرية النقدية، اللاهوت، والسيمائية، علم النفس، الدراسات التوراتية، نظرية الأدب الظاهراتية. وعند قراءة محاضرات الأيديولوجيا واليوتوبيا يكون من السهل الاستغراق في الموضوع الذي تصدى له بول ريكور سواء كان الكتابة الفرنسية للتاريخ أو علم دلالة الفعل أو الأنموذج (الطوبولوجي) الذي يقدمه فرويد.
يستخدم ريكور في المحاضرات مقولات اجتماعية وسياسية ليناقش ما يعنيه أن تكون بشراً، وهي قضية تتعلق باحتمالاتنا الحالية والدائمة على حدّ سواء. لقد ألقيت هذه المحاضرات لأول مرة في جامعة شيكاغو خريف عام 1975، لكن مضي الزمن لم يقلل الكثير من أهميتها الكبيرة النابعة من الشخصيات التي تناقشها والموضوعات التي تتصدى لها والإسهامات التي تضيفها إلى مجمل نتاج ريكور.
يقدم ريكور هنا لأول مرة تحليلاً مفصلاً "لكار مانهايم"، و"ماكس فيبر"، و"كليفورد غيرتز"، كما أنه يوسّع مناقشاته المنشورة "للوي ألتوسير" و"جورجن هابرماس". أما ما يكتسب أهمية خاصة فهو معالجة "ريكور لماركس"، الذي يمثل الموضوع لخمس من الثماني عشرة محاضرة. لقد أطلق ريكور منذ زمن بعيد على ماركس وفرويد ونيتشه تسمية "أساتذة الشك" الكبار الثلاثة، ولكن بينما نجد أن تأويله لفرويد معروف على نطاق واسع، فإن هذا الكتاب يؤشر أول تحليل منتظم لماركس يصدر عن ريكور.
أما بالنسبة لموضوعي الكتاب-الأيديولوجيا واليوتوبيا-فإن ريكور يُعد أول من حاول مناقشتها منذ مانهايم ضمن إطار مفهومي واحد. كان من المعتاد النظر إلى الأيديولوجيا على أنها موضوع يقع ضمن اختصاص علم الاجتماع وعلم السياسة، بينما تدخل اليوتوبيا ضمن التاريخ أو الأدب. لكن المقابلة التي يقيمها ريكور بين الأيديولوجيا واليوتوبيا تعرّف الاثنين وتؤشر حدودهما على نحو أفضل، كما أنها تؤشر الاختلاف بينهما وبين صياغات مفهومية أقدم، كان يتم عبرها مقابلة الأيديولوجيا مع كل من الواقع والعلم، بينما لم ينظر إلى اليوتوبيا إلا باعتبارها حلماً أو خيالاً دالاً على رغبة.
فضلاً عما سبق، تكتسب هذه المحاضرات أهميتها من علاقتها بكتابات ريكور إجمالاً. وريكور يتصدى لذلك مباشرة في المحاضرات. وبالإضافة إلى المحاضرات يحتوي الكتاب على مناقشة شاملة لعمل ريكور أولاً وبعد ذلك على مناقشة لموضوعي المحاضرات من الجزء إلى الكل والهدف من ذلك وضع تحليل ريكور للأيديولوجيا واليوتوبيا في موقعه المناسب ضم علاقته على وجه الخصوص مع كتابته في المخيلة والاستعارة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.